وهذا خالد بن الوليد عندما أمره عمر بن الخطاب الخليفة أن يترك قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح، قال: "سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين"، وهذا موقف –والله- يُحسد عليه ولو تعرَّض له أحد القادة العسكريين في هذا العصر، وفي أي دولة، وبشهرة سيف الله المسلول؛ لما ترك قيادة الجيش، ولما ترك هذه الشهرة، بل انقلب على رئيسه وحاربه، ولكنه الإخلاص لله ولدينه والفرار من الشهرة...
إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً. بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه. صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
عباد الله: الكثير منّا يسعى للشهرة وللظهور أمام الجماهير لا لشيء إلاّ ليظهر ويلمع أمام الناس، وحتى يُشَار إليه بالبنان وحتى يصير حديث الناس في مجالسهم وأماكن تواجدهم ومن أجل هذه الشهرة الزائفة تجده ينفق الملايين، أو ربما يقوم بتحدث في الإذاعة حتى يسمعه الناس في كل مكان وحتى يقول الناس سمعنا فلانا يتحدث في المذياع، أو يتصدّر للفتوى فيظهر على شاشة التلفاز أو يسمع صوته عبر المذياع وهو ليس أهلاً للفتوى ولا مجازًا من طرف أهل العلم، أو يقوم بتأليف كتاب لا من أجل الفائدة، وإنما من أجل أن يقول الناس: فلان مؤلف بارع، أو يقوم بطبع وتعليق صوره العملاقة في الشوارع والطرق الرئيسة لا من أجل خدمة الناس والسعي في قضاء حوائجهم، وإنما من أجل الشهرة واللّمعان، فقط كما هو الحال في المناسبات الانتخابية.
وفي الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ"، ولو كانت الشهرة منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي.
ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير. وقد حذر سلفنا الصالح من حب الظهور والشهرة بين الناس لمن يسعى إليها ويجعلها هدفه، وتضافرت أقوالهم المحذرة من هذا الخلق الذميم..
فهذا سفيان الثوري يقول: "إياك والشهرة؛ فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة".
وقال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة".
وقال بشر بن الحارث: مَا اتَّقَى اللهَ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.
وهذا القاضي، أبو العباس العُقيلي، الجيّاني، يقول عنه ابن السمعاني: "فقيه، مُفتٍ، زاهد. يعرف المذهب والفرائض. اعتزل عن الناس، واختار الخمول، وترك الشهرة، وكان كثير الذِّكر. دخلت عليه، فرأيته على طريقة السّلف من خشونة العيش، وترك التكلّف".
وهذا خالد بن الوليد عندما أمره عمر بن الخطاب الخليفة أن يترك قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح، قال: "سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين"، وهذا موقف –والله- يُحسد عليه ولو تعرَّض له أحد القادة العسكريين في هذا العصر، وفي أي دولة، وبشهرة سيف الله المسلول لما ترك قيادة الجيش، ولما ترك هذه الشهرة، بل انقلب على رئيسه وحاربه، ولكنه الإخلاص لله ولدينه والفرار من الشهرة.
هكذا مضى السلف الصالح على هذا المنهاج، وكان هذا دينهم وديدنهم، فأين هذا من أقوام غلبهم حب الشهرة، وظنوا أن التفاضل بكثرة المعلومات وكثرة المحفوظات وبالثناء وبانتشار الذكر حتى سجل التاريخ عليهم عارًا وشنارًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا...
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا.
أيها المؤمنون: والمشاهير! كلمة يتمنى الكثيرون أن تكن أسمائهم ضمن قائمتها، وأن تغلف حياتهم باللمعة البراّقة والأحاديث المشوّقة عنهم. دائماً يظهر المشاهير والابتسامات العريضة تعلو وجوههم، وقد ارتدوا أفخر ما أنتجته دور الأزياء العالمية. فترى عيون المعجبين لا تكفّ عن مطاردتهم والبحث عنهم. تلك هي حياة المشاهير في العالم كما تصورها لنا دائماً قنوات التلفزة والصحف.
هم أصحاب السيارات الفارهة، المنازل الفخمة، وأرصدة البنوك، هم أصحاب الأضواء، الشهرة والمعجبين، وفرسان اللقاءات التلفزيونية والمقابلات الصحفية. ثم نعجب بعد ذلك إذا علمنا أن كثيراً من المشاهير مصابون باكتئابات مزمنة، وقلق وأمراض نفسية عديدة، أودت بكثير منهم إلى نهايات مأساوية لم يكن الانتحار أكثرها بشاعة.
يكمن السر خلف وراء تلك الأستار، فالصورة البراقة لحياة المشاهير لا تكشف إلا عن أقنعة لامعة يرتديها أصحابها عند لقاء الجمهور، أما في الحياة الخاصة فتسقط كل الأقنعة، حيث الشقاء والعذاب النفسي الذي يجثم على حياة الكثير منهم، والنهايات أكبر دليل على ذلك.
وذلك فضلاً عن المشاهير الذين انتهت حياتهم في مصحات نفسية، أو في دور رعاية المسنين، أو في وحدة قاتلة بعيداً عن أبسط معاني الرحمة والإنسانية.
دائماً ما نتحدث عن الحياة والشهرة والرفاهية، لكننا اليوم لن نذكر تلك اللمعة البراقة بل ستضل نقطة قاتمة تحمل الكثير في داخلها، لكن جميعهم وصلوا إلى قمة لم يحلم بها إنسان من مال وشهرة ظنّاً منهم أنها ستصل بهم إلى شاطئ السعادة.
لكنهم لم يجدوا سوى القلق والخوف يلاحقهم في كل لحظة من حياتهم. ولو كان الوقت كافيا لذكرنا نهاية هؤلاء المشاهير بأسمائهم من مسئولين وحكام ورؤساء الدول، ومغنيين وممثلين وصحفيين، وكتاب وأدباء ومفكرين ومؤلفين، وقادة عسكريين ورجال أعمال وأرباب أموال، وكيف كانت نهايتهم مأسوية!!
أيّها المسلمون، اصدُقوا اللهَ في طلبِ مرضاته، واحذَروا غضَبَه ونِقمته بالبُعد عن محرَّماته، وألزِموا قلوبَكم الإخلاصَ في دينكم؛ فإنّه منهجُ نبيّكم، وبه تزكو أعمالكم وتُرفَع درجاتُكم وتستنير سرائركم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) [الزمر: 11- 13].
وعن جُبير بن مطعِم -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ لا يغِلّ عليهنّ قلبُ امرئٍ مسلم: إخلاص العمَلِ لله، ومناصَحَة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين"،ـ (رواه أحمد)، ومعناه أن هذه الثلاثَ الخلال تصلِح القلوبَ، فمن تمسَّك بها طهُر قلبُه من الخيانة والغلِّ والشرّ والدّغَل والفُرقة والنّفاق.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي