دعونا ننتقل بذاكرتنا وأذهاننا إلى حيث طيبة الطيبة، العابقة بأنفاس محمد -صلى الله عليه وسلم- ينصرف من صلاة الفجر، ويذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم تبدأ رحلة يوم جديد في حياته صلى الله عليه وسلم. وهنا لا تسأل عن المهام الجسام، والأعمال العظام التي كان...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد:
فدعونا ننتقل بذاكرتنا وأذهاننا إلى حيث طيبة الطيبة، العابقة بأنفاس محمد -صلى الله عليه وسلم- ينصرف من صلاة الفجر، ويذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم تبدأ رحلة يوم جديد في حياته صلى الله عليه وسلم.
وهنا لا تسأل عن المهام الجسام، والأعمال العظام التي كان يقوم بها، فمن سعي في طلب قوت أولاده وزوجاته إلى مجالس تتدفق فيها علوم الشريعة، متجللة ببهاء النبوة.
مجالس يتنزل فيها الوحي، وتبلغ فيها رسالات الله، وتنطلق منها أنوار الرسالة لتشع في أرجاء الدنيا، مجالس يغشاها كل أحدٍ، فهذا يستفتي، وآخر له حاجة، وثالث يشتكي، ورابع عنده خصومة.
يمرض أحد أصحابه، فينطلق بكل تواضع ليزوره، ويخفف من وطأة مرضه.
يموت آخر فيشيع جنازته، ويحضر دفنها، ويعزي أهلها.
تأتي الجارية الصغيرة، وتأخذ بيده الشريفة ليقضي حاجتها، فينطلق معها لذلك.
إنها أعمال تكاد تتكرر يومياً في يومه المبارك صلى الله عليه وسلم، هذا إن سلم من أعداء الرسالة الذين يحتاجون إلى مزيد من الجهد والجهاد لرد كيدهم، وإحباط مساعيهم، وما يتبع ذلك من جهود مضنية في ظل قلة ذات اليد، وضعف الناصر، وشدة بأس العدو.
إنها أعمال جسام، ومهام كبار، فأي شيء يمكن أن يخفف هذا التعب، وأي شيء يمكن أن يعيد للنفس نشاطها؟!
لقد وجدها صلى الله عليه وسلم في قرة العين، وأنس النفس.
لقد وجدها في الصلاة التي يفزع إليها فزعاً، وتأمل في قول الصحابي: "كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع" فذهابه إلى الصلاة ليس مجرد ذهاب عاديٍ.
بل هو انطلاق الفَزِعِ الذي يريد أن يطمأن بها، ويلوذ بربه ليطمأن فؤاده عند النوائب والمصائب.
وحسبك أن تتذكر فزعه وتتصور معي فزعه صلى الله عليه وسلم حينما وقع الكسوف!.
إنها الصلاة التي بمجرد دخوله إليها صلى الله عليه وسلم يُخَلِّفُ كل تعبٍ كان يجده وراء ظهره، كيف وهو بقوله: "الله أكبر" يرفع الحجاب بينه وبين ربه؟!
وماذا يؤثر تعب البدن إذا ارتاحت الروح؟ وماذا يغني نشاط البدن إذا كانت النفس محطمة؟!
إن دخوله في الصلاة، يعني دخوله في أنواع من الكرامات، وألوان من العبودية.
إنه يستمد بهذه الصلة مع الله قوة بدنه، ويستمطر بها رحمة ربه، ويهرب بها من الغفلة.
إنه بقوله: "الله أكبر" يعلن أنه ليس في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه.
إنه يستحضر لذيذ خطاب الرب عند كل آية من الفاتحة ينتظر جوابها، فكأنه يسمع ربه يقول: "حمدني عبدي" حين يقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2].
وهو في أثناء ذلك كله يعيش في سبح من التأملات لمعاني الربوبية والإلهية، وأسماء الرب وصفاته، وما بين ذلك من معاني الحمد، والثناء، والمجد، ونعمة الهداية للإسلام، ومنة الاصطفاء، والتفضيل على سائر الأمم.
إنها مشهدٌ عظيم من مشاهد العبودية لله -جل جلاله-، وإظهار الافتقار والتذلل لمن لا ينبغي الذل إلا له سبحانه وتعالى، يومَ أن يضع العبد أشرف ما فيه -وهو وجهه- في الأرض، معفراً جبهته لسيده، راغماً له أنفه، خاضعاً له قلبه وجوارحه، متذللاً لعظمته، خاضعاً لعزته، مستكيناً بين يديه، هو أذلُ شيءٍ لربه وأكسره لمولاه العظيم، مسبحاً لربه بعلوه في أعظم صور السفول، فسجد القلب كما سجد الوجه.
لذا كان العبد في هذه الحال أقرب ما يكون من ربه، وكانت هذه الحال أرجى مواضع الصلاة إجابة للدعاء.
إنها صلاة ثمرتها إقبال العبد على الله، وإقبال الله على العبد، أفيستغرب حينئذٍ أن تكون هذه الصلاة قرة عينه، وراحة فؤاده صلى الله عليه وسلم؟!
وتأمل قوله: "جعلت قرة عيني في الصلاة" فنفسه لا تقر إلا بدخوله فيها كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه، وكما تقر عين الخائف بدخوله في محل أمنه.
فإذا ما دخل بها وجد بها راحته، راحة القلب وراحة البدن، كما كان يقول صلى الله عليه وسلم لمؤذنه بلال: "أرحنا بالصلاة يا بلال".
أقمها يا بلال لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى منزله.
وكم هو الفرق بين قوله: "أرحنا بها" وبين قول البعض بلسان الحال أو بلسان المقال: "أرحنا منها"، فإن هذه الكلمة إنما تصدر من الذي يفعلها تكلفاً وغرماً، أتدرون ما السبب؟
لقد امتلأ القلب بغيرها من شهوات الدنيا ومُتَعها، امتلاءً أفقده اللذة بها، بل صيّر الصلاة في ذهنه قاطعة له عن مشاغله ومحبوباته؟!
ألا ما أعظم الفرق! وما أشد التباين بين: من كانت الصلاة لجوارحه سجناً، وقلبِه قيداً، ولنفسه عائقاً، وبين من كانت الصلاة لقلوبهم نعيماً، ولعيونهم قرة، ولجوارحهم راحة، ولنفوسهم بستاناً ولذة!.
إخوة الإسلام: إن القضية في حسه صلى الله عليه وسلم، وفي حس أصحابه -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم بإحسان تجاوزت أن يكون أداؤهم للصلاة خشية أن يأثم بتركها، أو يعاقب على التفريط فيها، كلا وربي، بل الأمر تجاوز ذلك بمراحل، فما عاد لحياتهم طعمٌ بدون الصلاة، وما صارت قلوبهم تطمئن بأحسن منها، إن الأمر بلغ مرتبة الحب!.
أتدري ما معنى الحب؟
إنه الحب الذي تنامى أمره حتى وصل خبره إلى أعدائهم من المشركين، حتى استقر ذلك في نفوسهم، فصاروا يتحينون قتال المسلمين في الحروب حين يحضر وقت الصلاة؛ لعلمهم بمكانتها عندهم.
استمع إلى جابر بن عبد الله وهو يحدثنا هذا الحديث العجيب، فيقول: "غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوماً من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر، قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال، وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد" [صحيح مسلم، ح(840)].
أتدري ما منزلة الولد من القلب؟!
إنها منزلة تفوق الوصف، وتنبو عن البيان، ومع ذلك يقول المشركون هذه الكلمة وهم في منأىً عن المسلمين، يقولونها وهم يسمعون عن عنايتهم بالصلاة واهتمامهم بها فقط، فكيف بهم لو كانوا يعيشون وسط المسلمين؟! أم كيف بهم لو ذاقوا لذتها؟!
نعم -أيها المصلون-، فالصلاة في حياة المؤمنين الصادقين تتجاوز هم الأداء، وتترفع عن الخوف من تبعات التفريط فحسب، لترتقي إلى مقامات الأنس والتلذذ.
دعونا نعود مرةً إلى بيت النبوة، لنقف وقفة أخرى مع علاقته صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة، ولكن هذه المرة مع قيام الليل، يقوم بأبي هو وأمي ونفسي، حتى تنتفخ قدماه وتتورمان، فتخاطبه زوجه عائشة -رضي الله عنها- بنبرة الزوجة المشفقة، بل والمستغربة في الوقت نفسه من هذا القيام الطويل، مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فتقول: يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيجيبها بلغة العبد الشاكر: "أفلا أكون عبدا شكورا" [البخاري ح(1078)، صحيح مسلم ح(2820)].
كأنه يقول لها: "يا عائشة أأترك تهجدي بعد هذه النعمة العظيمة بغفران ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟".
أتظنين يا عائشة أنني إنما أعبد الله خوفاً من الذنوب وطلباً للمغفرة فقط؟!
كلا يا عائشة إن لعبادتي -مع الخوف من الله والطمع في مغفرته- سبباً آخر، هو شكري لله -عز وجل- على نعمه وآلائه؟!
ولسان حاله يقول: ألم يجدني يتيماً فآواني؟ ألم يجدني ضالاً فهداني؟ ألم يجدني عائلاً فأغناني؟!
أليس لربي عليّ من الأفضال ما لو قمت الدهر كله ما وفيت بحق الشكر له؟! أفلا أكون عبداً شكوراً؟!
أيها المصلون: إن هذا الحب العظيم لهذه الصلاة، وهذا الانشراح الكبير بها من قِبَلِ النبي -صلى الله عليه وسلم- امتد أثره إلى أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-، فتلقاه عنهم التابعون، وأخبارهم في هذا عجب من العجب عجب في طولها، وعجب في كثرتها، وإليك أخي المصلي إشارات عابرات تنبه على مقدار الحب العظيم لهذه الصلاة، فهذا الصحابي الجليل عدي بن حاتم -رضي الله عنه- يقول: "ما دخل وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها" [سير أعلام النبلاء 3/164].
وهذا ابن عباس يحدث عنه أحد أصحابه: ابنِ أبي مليكة: فيقول: "صحبت ابن عباس -رضي الله عنه- من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل، قام شطر الليل، فكانت من قراءته: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].
فجعل يرتل، ويكثر في ذاكم النشيج.
ومن الصحابة إلى التابعين لهم بإحسان، فهذا عامر بن عبد قيس يقول: "لولا مواقيت الصلاة -يعني الصلوات الخمسة المفروضة- تقطع على القيام والسجود؛ لأحببت أن أجعل عمري راكعاً، ووجهي مفترشاً حتى ألقاه، ولكن الفرائض لا تدعني أفعل ذلك".
وأعجب من هذا ما وقع للتابعي الجليل، عالم أهل البصرة وعابدها في زمانه: ثابت البناني: الذي قام الليل خمسين سنة.
ثابت الذي بلغ حب الصلاة به إلى أنه كان يدعو في السحر، فيقول: "اللهم إن كنت أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره، اللهم فأعطنيها".
ثابت البناني الذي كان يقول: "الصلاة خدمة الله في الأرض، لو علم الله -عز وجل- شيئاً أفضل من الصلاة، لما قال: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [آل عمران: 39].
وهذا أبو إسحاق السبيعي -أحد أعيان التابعين، تتقدم به السن، فيقدم وصية لأبنائه الشباب، حفظها التاريخ حتى وصلت إلينا، فيقول: "يا معشر الشباب اغتنموا -يعني: قوتكم وشبابكم- ذهبت الصلاة مني، وضعفت قوتي، وإني لأصلي، فما أقرأ وأنا قائم إلا البقرة وآل عمران".
ولنا أن نتساءل: يا ترى ماذا كان يقرأ أبو إسحاق أيام شبابه إذا كانت هذه قراءته أيام ضعفه؟!
بقي أن تعلم -أخي المصلي- أن هذه القراءة التي يشكو ضعفه فيها كانت منه وعمره تسعون سنة!.
أما أتباع التابعين، فلا تقل سيرهم عن سير أسلافهم في هذا الشأن.
يحدثنا علي بن الفضيل بن عياض عن عبادة الإمام الكبير سفيان الثوري، فيقول: "رأيت سفيان الثوري ساجداً حول البيت فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه؟".
أتدري كم هي سبعة أسابيع؟
إنها تسعةٌ وأربعون شوطاً، ولك أن تجعل كل شوطٍ دقيقة، ثم لك أن تتسائل بعدها: ما الذي جعل سفيان يفعل هذا؟
لا نجد تفسيراً مقنعاً إلا التلذذ بمناجاة الله -تعالى-.
يا قوم! يا قوم: هل تجدون تفسيراً لأمثال هذه المواقف إلا الحب العظيم لهذه الصلاة؟! قيامُ الليل مستحبٌ في حقهم؟! فما الذي دفعهم إلى ذلك؟! رضي الله عنهم وأرضاهم.
أما -والله- إنه التلذذ بهذه الصلاة، فتنورت بها قلوبهم، وأشرقت بها نفوسهم، واستنارت بصائرهم، فكانت قرة عيونهم.
اللهم ارزقنا ما رزقتهم من حب وتلذذ بهذه الصلاة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا معشر المصلين: لكأني بأصحاب الهمم العلية يتساءلون: كيف نصل إلى هذه المرحلة من الحب للصلاة؟
وهذا سؤال عظيم، وجوابه أعظم، لكن دونك هذه الأسباب المجملة التي تعين على الوصول إلى هذه المرحلة:
السبب الأول: التفكر في عظيم النعم التي أحاطك الله بها، وغذاك بها، وأنك محتاج إلى شكرها، وأنك ما شكرت الله بمثل العمل الصالح: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ: 13].
وخير هذه الأعمال الصلاة، وتذكر وأنت تؤدي هده الشعيرة العظيمة قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟".
السبب الثاني: أن تدخل على الصلاة وأن تنظر إلى أنها فرصةٌ للدخول على الرب -عز وجل-، تدخل وأنت مغتبط بذلك، فرحٌ، ولا تكن ممن يدخل فيها وهو يشعر أنها حملٌ ثقيل يريد إلقاءه عن كاهله، أو يؤديها للتخلص فقط من تبعة التكليف، فإن مَنْ هذه حاله فلذة الصلاة أبعد عليه من الثريا.
قال بكر بن عبد الله المزني: مصوراً هذا الفخر والسرور: من مثلك يا ابن آدم؟! خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت على ربك، وليس بينك وبينه حجاب، ولا ترجمان، إنما طيب المؤمنين هذا الماء -يقصد الوضوء-.
السبب الثالث -مما يعين على ذوق هذه اللذة-: الإكثار من قراءة سير الصالحين، من العلماء والعباد.
السبب الرابع: أن تعيش الشعور بأن الصلاة في حياتك ليست مجرد تكليف تحطه عن كاهلك، بل هي ضرورة، لا تستقيم حياتك بدونها، بل أن تشعر أن بعدك عن الصلاة، كبعد السمكة عن الماء، وتربية النفس على هذا تحتاج إلى جهاد ومجاهدة، يقول ثابت البناني وهو يعبر عن مجاهدته لنفسه: "كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة".
السبب الخامس: البعد عن المعاصي، ومجاهدة النفس على ذلك، خاصة ما يتعلق بالنظر المحرم، فإن الصور -ولو كانت مباحة- إذا كثرت على القلب شوشت عليه فضعف، فكيف إذا كانت محرمة، فهي مع تشويشها تسبب ظلمة في القلب، فتكون المجاهدة أشد!.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي