أمَّا حال عمر - رضي الله عنه - مع تلك المجاعة، فلا تسلْ عن حاله! تغيَّرت عليه الدنيا، وأظلمتْ عليه المدينة، طال كمدُه، وتغيَّر لونُه، وذبل جسمُه، وحمل همًّا لا تتحمله الجبال الرواسي. كان -رضي الله عنه- أكثرَ الناس إحساسًا بهذا البلاء، وتحملاً لتبعاته، فعاش كما يعيش الناس، تنفَّس همومَهم وغمومَهم، وذاق حاجتَهم وفاقتَهم، بل كان أولَ مَن جاع وآخِرَ مَن شبع، ما قَرُب امرأة من نِسائه زمنَ الرمادة، حتى أحيا الناس من شدَّة الهمِّ، قال عنه خادمُه أسلم: كنَّا نقول: لو لم يرفعِ الله - تعالى - المَحْلَ عامَ الرمادة، لظننا أنَّ عمرَ يموت همًّا بأمر المسلمين....
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
يَرِقُّ الْجَنَانُ، وَيَتَلَعْثَمُ اللِّسَانُ، وَيَعْجُمُ الْبَيَانُ، حِينَمَا يَكُونُ الْحَدِيثُ عَنْ عَظَمَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَعَنْ نَجْمٍ أَدْهَشَ التَّارِيخَ بِطُهْرِهِ وَأَخْبَارِهِ.
إِذَا ذُكِرَ الْعَدْلُ تَلَأْلَأَتْ قَامَتُهُ، وَإِذَا ذُكِرَ الزُّهْدُ رَفْرَفَتْ رَايَتُهُ، وَإِذَا ذُكِرَ الْخَوْفُ تَأَلَّقَتْ نَسَاكَتُهُ.
وَإِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- جِيلًا فَرِيدًا، فَنَجْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَادِرٌ فِي هَذَا الْفَرِيدِ.
لَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْ تَارِيخِ عُمَرَ، فَأَخْبَارُهُ تَضِيقُ بِهَا الْأَسْفَارُ، وَمِنَ الظُّلْمِ أَنْ نَخْتَصِرَ حَيَاتَهُ فِي دَقَائِقَ مَعْدُودَاتٍ، وَإِنَّمَا حَسْبُنَا أَنْ نُشِيرَ إِلَى صَفْحَةٍ تَمَيَّزَ بِهَا عُمَرُ وَعُرِفَ، هِيَ اسْتِشْعَارُهُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَالْحُزْنُ لِمُصَابِهِمْ.
فَيَا مَنْ أَحْبَبْتَ عُمَرَ وَأَخْبَارَهُ، أَلْقِ لَنَا السَّمْعَ وَالْفُؤَادَ، مَعَ مَشَاهِدَ سَطَّرَهَا التَّارِيخُ، لِتَكُونَ لَنَا عِبْرَةً وَمَثَلًا، وَقُدْوَةً وَسَلَفًا.
لَقَدْ كَانَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ يَحْمِلُ نَفْسًا لَوَّامَةً، وَرُوحًا مَهْمُومَةً بِأَمْرِ النَّاسِ، فَكَانَ خَاطِرُهُ الَّذِي لَا يُغَادِرُهُ: كَيْفَ هُوَ حَالُ النَّاسِ، وَمَا صَنَعَ النَّاسُ، حَتَّى غَدَا هَذَا الشُّعُورُ يَسْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَيَنْبِضُ فِي قَلْبِهِ.
لَقَدِ اسْتَشْعَرَ الْفَارُوقُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ فِي سِرْبِهِ، وَعَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ فِي خِدْرِهَا، وَعَنْ كُلِّ رَضِيعٍ فِي مَهْدِهِ، اسْتَشْعَرَ مَسْئُولِيَّةَ ذَلِكَ، لَيْسَ أَمَامَ النَّاسِ، وَلَا أَمَامَ التَّارِيخِ، وَلَا أَيِّ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا أَنَّهُ مَسْئُولٌ أَمَامَ رَبِّهِ، وَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، حَتَّى وَقَرَ هَذَا الْيَقِينُ فِي قَلْبِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ** تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَادُ
فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ اسْتِشْعَارِهِ هَذَا لَا يَنَامُ إِلَّا غِبًّا، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا تَقَوُّتًا، وَلَا يَلْبَسُ إِلَّا خَشِنًا، وَكَانَ يَقُولُ: "إِذَا نِمْتُ بِاللَّيْلِ أَضَعْتُ نَفْسِي، وَإِذَا نِمْتُ بِالنَّهَارِ أَضَعْتُ رَعِيَّتِي"، فَكَانَتْ نَوْمَتُهُ وَرَاحَتُهُ خَفَقَاتٍ، فِي سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ.
هَا هُوَ الْفَارُوقُ يَعْدُو سَرِيعًا، قَدْ تَتَابَعَتْ أَنْفَاسُهُ، وَتَحَدَّرَ عَرَقُهُ، يَجْرِي خَلْفَ بَعِيرٍ أَفْلَتَ مِنْ مَعْطِنِهِ، فَرَآهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَلَحِقَهُ وَسَأَلَهُ، فَأَجَابَهُ عُمَرُ وَهُوَ يَلْهَثُ: "بَعِيرٌ نَدَّ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ"، فَلَمْ يَسَعْ عَلِيًّا إِلَّا أَنْ قَالَ بِإِعْجَابٍ وَخُشُوعٍ: "لَقَدْ أَتْعَبْتَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَكَ".
هُنَا وَقَفَ عُمَرُ، الَّذِي طَالَمَا كَرِهَ الثَّنَاءَ، وَاسْتَدْفَعَ الْإِعْجَابَ، فَقَدَّمَ لِلْبَشَرِيَّةِ دَرْسًا كَبِيرًا فِي سَطْرٍ صَغِيرٍ، قَالَ فِيهِ: "وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَوْ عَثَرَتْ بَغْلَةٌ بِالْعِرَاقِ، لَسَأَلَنِي اللَّهُ عَنْهَا، لِمَ لَمْ تُمَهِّدْ لَهَا الطَّرِيقَ يَا عُمَرُ".
اللَّهُ أَكْبَرُ، أَيُّ هَمٍّ كَانَ يَحْمِلُهُ عُمَرُ، وَأَيُّ شُعُورٍ كَانَ يَتَلَجْلَجُ فِي فُؤَادِهِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَلِمَاتٌ مَعْدُودَاتٌ، تَصْغُرُ دُونَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعِبَارَاتِ.
فَيَا لَلَّهِ، إِذَا كَانَ هَذَا الشُّعُورُ تُجَاهَ حَيَوَانٍ، فَكَيْفَ هُوَ شُعُورُ عُمَرَ تُجَاهَ الْإِنْسَانِ، بَلْ قُلْ لِي بِرَبِّكَ: كَيْفَ هُوَ شُعُورُهُ تُجَاهَ الْمَظْلُومِ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الشُّعُورُ لَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ مِنَ الضَّعِيفَيْنِ: الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ.
نَعَمْ... لَقَدْ خَافَ عُمَرُ، وَلَكِنْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَافَ؟ مِنْ مَوْتِ الْبَغْلَةِ؟ كَلَّا، مِنْ سَرِقَتِهَا؟ كَلَّا، بَلْ خَافَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَعَثَّرَ -أَيْ: تَسْقُطَ -، فَاسْتَشْعَرَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَهِّدْ لَهَا الطَّرِيقَ.
ثُمَّ أَيْنَ هِيَ هَذِهِ الْبَغْلَةُ؟ هَلْ هِيَ فِي مَدِينَتِهِ؟ أَمْ فِي أَطْرَافِهَا؟ حَتَّى يَسْتَشْعِرَ مَسْئُولِيَّتَهُ فِي التَّقْصِيرِ عَنْ أَمْرٍ هُوَ يُشَاهِدُهُ، كَلَّا، كَلَّا، بَلْ هِيَ فِي أَقَاصِي دَوْلَتِهِ، فَرَغْمَ هَذَا الْبُعْدِ، حَمَلَ عُمَرُ هَمَّهَا، وَلَمْ يَتَخَلَّ عَنْ مَسْئُولِيَّتِهِ تُجَاهَهَا.
لَقَدْ عَرَفَتْ رَعِيَّةُ عُمَرَ أَنَّ خَلِيفَتَهُمْ يَحْمِلُ هَمَّ النَّاسِ، فَكَانَتْ مُعَانَاتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَنْتَهِي حِينَ يُرْفَعُ أَمْرُهُمْ إِلَى عُمَرَ.
هَذَا شَابٌّ مَكْرُوبٌ، مَسَّهُ الضُّرُّ مِنَ الْأَمِيرِ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَتَعَنَّى فِي سَفَرِهِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ مِنَ اللَّهِ يَا عُمَرُ، ثُمَّ مَضَى الرَّجُلُ فِي سَبِيلِهِ، وَمَضَى النَّاسُ خَلْفَهُ يُعَنِّفُونَهُ.
أَمَّا عُمَرُ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ الْعِزَّةُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ بِعَصَا السُّلْطَةِ، وَإِنَّمَا هَزَّتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ، فَلَحِقَ بِالرَّجُلِ، يَسْتَفْهِمُ مِنْهُ الْخَبَرَ، فَقَدْ قَرَأَ الْعَبْقَرِيُّ عُمَرُ فِي وَجْهِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَأَنَّ الْمَظْلُومَ قَوِيٌّ فِي عَدَالَةِ عُمَرَ.
أَوْقَفَ عُمَرُ الرَّجُلَ فَسَأَلَهُ، فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ: وُلَاتُكَ يَظْلِمُونَ، وَلَا يَعْدِلُونَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: مَنْ هُوَ الْوَالِي؟ قَالَ: عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، فَلَمْ يَكَدْ عُمَرُ يَسْمَعُ تَفَاصِيلَ شَكْوَى مِنْ رَجُلٍ غَرِيبٍ، حَتَّى أَمَرَ رَجُلَيْنِ، وَقَالَ لَهُمَا: "ارْكَبَا إِلَى مِصْرَ، وَأْتِيَانِي بِعِيَاضٍ".
- وَحِينَ تُذْكَرُ أَخْبَارُ عُمَرَ فِي حَمْلِ هَمِّ النَّاسِ، يَأْتِي فِي مُقَدِّمَتِهَا مَوَاقِفُهُ عَامَ الرَّمَادَةِ.
ضَرَبَتْ أَرْضَ الْحِجَازِ مَسْغَبَةٌ مَا عَرَفَتْهَا الْعَرَبُ فِي أَيَّامِهَا؛ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ يَتَلَوَّى بَيْنَ أَهْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
وَانْجَفَلَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُمْ، وَيُسْكِتُ بُطُونَهُمْ، وَكَانَتْ أَعْدَادُهُمْ تَزِيدُ عَلَى سِتِّينَ أَلْفًا.
أَمَّا حَالُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ تِلْكَ الْمَجَاعَةِ، فَلَا تَسَلْ عَنْ حَالِهِ!
تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَأَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، طَالَ كَمَدُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَذَبُلَ جِسْمُهُ، وَحَمَلَ هَمًّا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي.
كَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَاسًا بِهَذَا الْبَلَاءِ، وَتَحَمُّلًا لِتَبِعَاتِهِ، فَعَاشَ كَمَا يَعِيشُ النَّاسُ، تَنَفَّسَ هُمُومَهُمْ وَغُمُومَهُمْ، وَذَاقَ حَاجَتَهُمْ وَفَاقَتَهُمْ، بَلْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَاعَ وَآخِرَ مَنْ شَبِعَ، مَا قَرُبَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ زَمَنَ الرَّمَادَةِ، حَتَّى أَحْيَا النَّاسَ مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ، قَالَ عَنْهُ خَادِمُهُ أَسْلَمُ: كُنَّا نَقُولُ: لَوْ لَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ -تَعَالَى- الْمَحْلَ عَامَ الرَّمَادَةِ، لَظَنَنَّا أَنَّ عُمَرَ يَمُوتُ هَمًّا بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ.
تَعَايَشَ مَعَ الْجُوعِ، وَمَسَّهُ أَلَمُ الْفَقْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: "أَيُّهَا الْبَطْنُ لَتُمَرَّنَنَّ عَلَى الزَّيْتِ، مَا دَامَ السَّمْنُ يُبَاعُ بِالْأَوَاقِي".
قُدِّمَتْ لَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ مَائِدَةٌ، فِيهَا سَنَامُ الْجَزُورِ وَكَبِدُهُ، وَهُمَا أَطْيَبُ مَا فِيهِ، فَسَأَلَ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالُوا: مِنَ الْجَزُورِ الَّذِي ذُبِحَ الْيَوْمَ، فَأَزَاحَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: بَخٍ، بَخٍ، بِئْسَ الْوَالِي أَنَا، إِنْ طَعِمْتُ طَيِّبَهَا، وَتَرَكْتُ لِلنَّاسِ كَرَادِيسَهَا، أَيْ: عِظَامَهَا.
وَنَمَا إِلَى عُمَرَ أَنَّ جَمَاعَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الضُّرِّ أَكْثَرُ مِمَّا نَزَلَ بِغَيْرِهِمْ، فَحَمَلَ الْفَارُوقُ جِرَابَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ، وَأَمَرَ خَادِمَهُ أَسْلَمَ أَنْ يَلْحَقَهُ بِقِرْبَةٍ مَمْلُوءَةٍ زَيْتًا، وَأَسْرَعَ عُمَرُ الْخُطَى، حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُحْتَاجِينَ، وَرَقَّ لِحَالِهِمْ، وَتَأَثَّرَ مِنْ خَمَاصَتِهِمْ [[مَخْمَصَتِهِمْ]]، فَوَضَعَ بِنَفْسِهِ الطَّعَامَ فِي الْقِدْرِ، وَنَفَخَ فِي النَّارِ، فَكَانَ الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ لِحْيَتِهِ الْبَيْضَاءِ، فَطَبَخَ لِلْقَوْمِ طَعَامَهُمْ، وَوَزَّعَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَبِعُوا.
هَذَا الْمَوْقِفُ حَرَّكَ مَشَاعِرَ الشَّاعِرِ حَافِظِ إِبْرَاهِيمَ، فَهَاجَتْ نَفْسُهُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدْرِ مُنْبَطِحًا *** وَالنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا
وَقَدْ تَخَلَّلَ فِي أَثْنَاءِ لِحْيَتِهِ *** مِنْهَا الدُّخَانُ وَفُوهُ غَابَ فِي فِيهَا
رَأَى هَنَاكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى *** حَالٍ تَرُوعُ -لَعَمْرُ اللَّهِ- رَائِيهَا
يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ *** وَالْعَيْنُ مِنْ خَشْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا
وَفِي صَفَحَاتِ التَّارِيخِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعِسُّ لَيْلًا، فَرَأَى امْرَأَةً تَسِيرُ وَحْدَهَا، حَامِلَةً قِرْبَةً كَبِيرَةً، فَاقْتَرَبَ مِنْهَا وَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا ذَاتُ عِيَالٍ، وَلَيْسَ لَهَا خَادِمٌ، وَأَنَّهَا تَخْرُجُ كُلَّ لَيْلٍ لِتَمْلَأَ قِرْبَتَهَا مَاءً، فَأَخَذَ عُمَرُ الْقِرْبَةَ وَحَمَلَهَا، وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ دَارَهَا نَاوَلَهَا الْقِرْبَةَ، وَقَالَ: إِذَا أَصْبَحَ صَبَاحُ غَدٍ فَاقْصِدِي عُمَرَ يُرَتِّبُ لَكِ خَادِمًا، قَالَتْ: إِنَّ عُمَرَ كَثِيرٌ شُغْلُهُ وَأَيْنَ أَجِدُهُ؟ قَالَ: اغْدِي عَلَيْهِ وَسَتَجِدِينَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ عَمِلَتِ الْمَرْأَةُ بِمَشُورَةِ الرَّجُلِ؟ فَإِذَا هِيَ أَمَامَ عُمَرَ!! رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ.
وَحَدَثٌ آخَرُ لَيْسَ بِعَابِرٍ فِي حَمْلِ هَمِّ النَّاسِ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ رَوَاحِلُ مِنَ الْغُرَبَاءِ، فَخَيَّمُوا فِي أَطْرَافِهَا، فَسَمِعَ بِهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: هَلْ لَكَ أَنْ نَحْرُسَهُمُ اللَّيْلَةَ مِنَ السَّرِقَةِ، فَبَاتَا كُلَّ اللَّيْلِ يَحْرُسَانِ الْقَافِلَةَ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَجِيعِ اللَّيْلِ يَسْمَعُ عُمَرُ بُكَاءَ صَبِيٍّ لَا يَنْقَطِعُ، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ أُمِّهِ، وَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَأَحْسِنِي إِلَى صَبِيِّكِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فَسَمِعَ بُكَاءً، فَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ سَمِعَ بُكَاءً، فَقَالَ: وَيْحَكِ! إِنِّي أَرَاكَ أُمَّ سُوءٍ! مَا لِي أَرَى ابْنَكِ لَا يَقِرُّ مُنْذُ اللَّيْلَةِ؟ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ -وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ- قَدْ أَبْرَمْتَنِي أَيْ: آذَيْتَنِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي أُرَبِّعُهُ عَلَى الْفِطَامِ فَيَأْبَى عَلَيَّ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَفْرِضُ إِلَّا لِلْمَفْطُومِ. قَالَ: وَكَمْ لَهُ؟ قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا شَهْرًا. قَالَ لَهَا: وَيْحَكِ لَا تُعْجِلِيهِ.
قَالَ الرَّاوِي: فَصَلَّى عُمَرُ الْفَجْرَ، وَمَا يَسْتَبِينُ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ، مِنْ غَلَبَةِ الْبُكَاءِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "يَا بُؤْسًا لِعُمَرَ! كَمْ قَتَلَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ! ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا تُعَجِّلُوا صِبْيَانَكُمْ عَلَى الْفِطَامِ، فَإِنَّا نَفْرِضُ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ".
لَقَدْ بَكَى عُمَرُ لِبُكَاءِ صَبِيٍّ مَسَّهُ الْجُوعُ بِسَبَبِهِ، فَكَيْفَ لَوْ أَبْصَرَ الْفَارُوقُ تَأَوُّهَاتِ الْأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ، وَأَنِينَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَقَدْ طَارَ النَّوْمُ مِنْ جُفُونِهِمْ خَوْفًا مِنْ شَبَحِ الْمَوْتِ، كَيْفَ لَوْ أَبْصَرَ الْفَارُوقُ مَنَاظِرَ أَطْفَالِ الشَّامِ وَقَدِ ابْتَلَعَتْهُمُ الْبِحَارُ، وَلَفَظَتْهُمْ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ، جُثَثًا مُمَدَّةً، لِتَكُونَ هَذِهِ الْأَجْسَادُ الْبَرِيئَةُ، شَاهِدَةً عَلَى مَوْتِ الضَّمِيرِ الْعَالَمِيِّ، وَعَارًا فِي جَبِينِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَمْحُوهُ الزَّمَانُ.
تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- طُرَفٌ مِنْ أَخْبَارِ عُمَرَ فِي حَمْلِ هَمِّ النَّاسِ، وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَسَعُ النُّفُوسَ بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ تَقِفَ أَمَامَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ خَاشِعَةً، مُتَرَضِّيَةً عَنْ فَارُوقِ الْأُمَّةِ، رَاجِيَةً مِنْ رَبِّهَا الْكَرِيمِ أَنْ تَلْقَاهُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ، وَإِذَا عَمَّرَ الْعَبْدُ قَلْبَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِيمَانِ، وَمَحَبَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوْثِيقِ الْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ، تَحَرَّكَ فِي وِجْدَانِهِ إِحْسَاسُهُ بِآلَامِهِمْ، وَاغْتَمَّ لِمُصَابِهِمْ، وَدَمَعَتْ عَيْنُهُ لِأَوْجَاعِهِمْ، وَهَذَا الشُّعُورُ هُوَ مَوْقِفُ مَنْ لَامَسَ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ، فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
لَا تَكُنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ تَلُوكُهَا الْأَفْوَاهُ، وَتَسْتَعْذِبُهَا الْقَرَائِحُ، ثُمَّ لَا نَجِدُ لَهَا رَصِيدًا فِي تَطْبِيقَاتِ الْوَاقِعِ.
لَقَدْ كَانَتْ أَخْبَارُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رِسَالَةً فِي اسْتِشْعَارِ الْمَسْؤُولِيَّةِ لِكُلِّ قَادِرٍ، أَنْ يَتَّقِيَ رَبَّهُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، وَأَنْ يَسْتَشْعِرَ حَاجَاتِهِمْ، وَيَبْذُلَ الْوُسْعَ فِي نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ فِي الدِّينِ، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ جُهْدُهُ فَمِمَّا آتَاهُ اللَّهُ فَلْيَبْذُلْ.
إِنَّ السَّعْيَ فِي رَفْعِ مُعَانَاةِ الْبَائِسِينَ وَالْمُشَرَّدِينَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَالِ مَعَ أَهَمِّيَّتِهِ، بَلْ يَشْمَلُ السَّعْيَ بِاللِّسَانِ، وَبِالْقَلَمِ، وَبِالْجَاهِ، وَبِإِحْيَاءِ الْقَضِيَّةِ، وَأَهَمُّهَا وَأَقَلُّهَا الدُّعَاءُ، وَتَذَكَّرُوا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- أَنَّ الدُّنْيَا دَوَّارَةٌ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ الْعَدْلَ كَمَا يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فَإِنَّهُ يُعَاقِبُ الْمُتَخَاذِلِينَ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا، فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ".
اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، يَا مَلَاذَ الْخَائِفِينَ، يَا مَلْجَأَ الْمَظْلُومِينَ، اللَّهُمَّ فَرَجًا عَاجِلًا، وَنَصْرًا مُبِينًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَنْزِلْ عَلَيْهِمْ عَافِيَتَكَ، وَابْسُطْ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَكَ، وَارْفَعْ عَنْهُمْ بَلَاءَكَ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ بَأْسَكَ وَرِجْزَكَ عَلَى طَاغِيَةِ الشَّامِ، وَمَنْ حَالَفَهُ وَنَاصَرَهُ، اللَّهُمَّ عَذِّبْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَذِقْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، اللَّهُمَّ خُذْهُمْ أَخْذًا وَبِيلًا، وَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ اضْرِبِ الظَّالِمِينَ بِالظَّالِمِينَ، وَأَخْرِجِ الْمُسْلِمِينَ الْأَبْرِيَاءَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَالِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي