إنها أيامٌ فضلى، وافرةُ الخيرات، كثيرةُ البركات، محلٌّ للنفحات، وموعدٌ للرحمات، حيث وفودُ الرحمن يجمعون بين شرفِ الزمان وشرفِ المكان، ويَفِدُون ضيوفا على الواحد الديّان، يتقاطرون من أصقاع الأرض كلِّها، ومن أرجاء المعمورة جميعِها، يحدوهم حسنُ الظن بربهم، دثارهم التقوى، وشعارهم التلبية، وحديثهم التكبير، ألسنتهم رطبةٌ بالذكر، وقلوبهم عامرةٌ بالشكر، تركوا شهواتهم، وهجروا لذيذَ سباتهم، وقدموا النفيسَ لبلوغ بيت الله سبحانه...
الحمد لله ربِّ الخلائق وفاطرها، ورازقها ومدبّرها، تسبّح له الطيور في أوكارها، والحيتان في بحارها، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادتَيْن تصحّحان الأعمال، وتزكّيان الأحوال، وبهما النجاةُ يومَ المآل، يوم أن تُحَدِّثَ الأرضُ بخَبَرِهَا، وتذعنَ الخليقةُ لحاشرِها، وتنتثرَ الكواكبُ بأمر مسيِّرِها.
اللهم صلِّ وسلم على المكرّمِ بالتنزيل، المؤيَّدِ بجبريل، عدد ما صلى عليه المسلمون في أول الأمة وآخرها، وعلى آله وصحبه، الذين نشروا السنن، وأرشدوا إلى محاسن الأعمال، وحذَّروا من شرِّها، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد أيها المؤمنون: فاهجروا الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها، واعملوا بالتنزيل، وخافوا الجليل، واستعدوا ليوم الرحيل؛ فذاكم التقوى، واعلموا أن حقيقةَ الأعمار ما بقي لا ما مضى، وأن نعيمَ الدنيا يعقبه كدر، وكأن شيئا لم يكن إذا انقضى.
أيها المؤمنون: يومان أو ثلاثة ويحُلُّ بنا أفضلُ الأشهر الحرم، وأعظمُها حرمة، إنه شهر ذي الحِجَّة، الذي أكّد النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمته بقوله: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا..." (أخرجه مسلم).
إنه خاتمة أشهر الحج المعلومات، كما في قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197]، وفيه الأيام المعلومات، التي قال ربنا - تعالى - فيها: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج: 28]، وهي عشر ذي الحجة، كما أن فيه الأيامَ المعدودات، التي أمر الله - سبحانه - بذكره فيها (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]، وهي أيام التشريق.
إنها أيامٌ فضلى، وافرةُ الخيرات، كثيرةُ البركات، محلٌّ للنفحات، وموعدٌ للرحمات، حيث وفودُ الرحمن يجمعون بين شرفِ الزمان وشرفِ المكان، ويَفِدُون ضيوفا على الواحد الديّان، يتقاطرون من أصقاع الأرض كلِّها، ومن أرجاء المعمورة جميعِها، يحدوهم حسنُ الظن بربهم، دثارهم التقوى، وشعارهم التلبية، وحديثهم التكبير، ألسنتهم رطبةٌ بالذكر، وقلوبهم عامرةٌ بالشكر، تركوا شهواتهم، وهجروا لذيذَ سباتهم، وقدموا النفيسَ لبلوغ بيت الله سبحانه..
فإذا رأت عيونُهم البيتَ المعظَّم؛ زال عن قلوبهم الكآبةُ والتألُّم، ينسِكون نُسُكًا واحدا، ويدعون ربًّا واحدا، إلها فردًا صمدا؛ الصبْرُ سلاحُهم، والاحتسابُ بإذن الله لزيمُهم، تضيق بهم فجاجُ مكة وبطاحُها، ينْحَرون الهوى بمنى، ويجأرون بالدعوات، فائضةً أعينُهم بالدمعِ والأكفُّ ضارعات، على صعيد عرفات، في موقفٍ مهول، يذكِّر بيوم العرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]، يسألون الرحمنَ الرحيم، السميعَ القريب المجيب مغفرةَ الزلّات، وتكفيرَ السيئات، ويُنزِلون بجوده وبلطفه الحاجات، فتُحَلُّ عُقَدُ الهموم، وتذهبُ الغموم، ويعظُمُ التوكُّلُ على الحي القيوم.
أيها المؤمنون: إن من الفطنة والكياسة: اهتبالَ الفرص، والتسابقَ إلى مواطن الهبات والمكرمات، وخاصةً أعظمَ مواسمِ العام: عشرَ ذي الحجة الشريفة، التي قال فيها رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" (أخرجه البخاري في صحيحه).
وما كان هذا الفضلُ إلا لهذه العشرٍ خاصة، كيف وقد فُضِّلت على الجهاد في سبيل الله في غيرها، في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ» قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟»، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟!"، ومع ذلكم الفضلِ المبينِ للجهاد؛ فالعملُ الصالحُ المستطاع في هذه العشر قد سبقه؛ سوى من قُتِلَ مجاهدا في سبيل الله.
وفي مسندِ أحمدَ - رحمه الله - من حديثِ ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ".
تجتمع فيها أمهاتُ العبادة، وأركانُ الإسلام، وآكدُ الفرائض، ويتذكَّر فيها المسلمون إكمالَ الدين، وإتمامَ نعمةِ الله عليهم، بدينِ الحق الذي ارتضاه الله لهم.
وحالُ كثيرٍ من المسلمين اليوم حقيقةٌ بالعَجَب؛ كيف لنفوسٍ أقبلت على الخيرات في شهرِ رمضانَ المبارك؛ أن تزهدَ وتقصِّرَ في أيامٍ هي أجلُّ وأكرم.
ما لقلوبِ الكثيرين في هذه العشرِ أضعفَ إخباتا، وما لألسنتِهم أقلَّ ذكرا؟! وما لأيديهم مقبوضةً عن الدعاء والمناجاة، وأيمانِهم مغلولةً عن بذل المعروف؟!
ألم يقسم الله تعالى بهذه العشر تعظيما لها وتشريفا: بسم الله الرحمن الرحيم. (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1، 2]. قال ابنُ رجبٍ - رحمه الله -: "وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجّة، وهذا الصحيح الذي عليه جمهورُ المفسّرين من السلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس".
إن من الحرمان إضاعةَ ساعاتِ تلكم العشرِ بما ضرُّه أقربُ من نفعه، فالغنيمةَ الغنيمةَ؛ بانتهاز الفرصةِ في هذه الأيامِ العظيمة؛ فما منها عوضٌ ولا لهما قيمة.
إنها أيامُ الفرصِ السوانح؛ كي يمُدَّ مخبتٌ لربه يدَيِ الاستغفار، ويقومَ على بابه بالذلِّ والانكسار، ويرفعَ قصة ندمه بمدادِ الدموع الغزار، قائلا: (وإلَّا تغفرْ لي وترحمْني أكنْ من الخاسرين).
فأحيوها - رحمكم الله - بالذكر والشكر، فلقد كان أبو هريرة وابنُ عمر - رضي الله عنهما - يخرجان إلى السوق فيكبِّران، ويكبر الناس بتكبيرهما؛ ولذا فقد شُرِعَ فيهما التكبيرُ المطلقُ في كل آن؛ فأقيموا هذه الشعيرةَ تعظيما لله، واتباعا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ذو النونِ -رحمه الله-: "ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرةُ إلا بعفوه، ولا الجنةُ إلا برؤيته - تبارك وتعالى-".
بذكر الله ترتاح القلوبُ *** ودنيانا بذكره تطيب
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسلام على رسوله وعبدِه، محمدِ بنِ عبدالله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واحذروا المعاصي؛ فإنها تحرِمُ المغفرةَ في مواسم الرحمة، وما استُقْبِلَتِ مواسمُ الطاعاتِ بأفضلَ من الاستغفار، الذي يمحو الله به أثرَ الذنوبِ الحائلةَ دون التوفيق، وَنِعْمَتِ النيةُ الصالحة، والعزيمةُ على الرشد والخير، وما أجلَّ مراغمةَ الشيطان، ونهيَ النفس عن الهوى، والعمل الصالح كثير الشعب، غير محصور في مكان، بل مكانه المسجدُ، والبيت، والسوق، وموضعُ العمل، وحينَ المسامرة والحادثة، وعلى الراحلة وفي الطريق.
ومن أعظم القربات: الانشغالُ بما يعني، وَوَدْعُ ما لا يعني، والأمرُ بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتماس رضا الله ولو كان في سخط الناس.
ومن جليل العبادة المغفولِ عنه: إقامةُ العدل في القول والفعل والحكم، وفي جماع الوصايا: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]، العدلِ المتمثلِ في قول كلمة الحق تُجاهَ النفس أو الوالدَينِ والأقربين، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
واذكروا أن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ" (أخرجه مسلم).
وهذا مترتبٌ على إعلان رؤية هلالِ ذي الحجة، أو إتمامِ عدةِ شهرِ ذي القَعدة، لا على الحساب في التقويم.
واذكروا أنكم في يوم تشرع فيه كثرة الصلاة على خير الورى، المبعوثِ إلى الناس طُرّا، فقد أمركم الله بهذا الأمر الذي بدأه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبحةِ بحمده وقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون فقال عز آمرا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
فاللهم صل وسلم على خير من بعثته هاديا، وأفضلِ من اجتبيته إليك داعيا، وارض اللهم عن آله أولي الفضل والتقى، وأصحابه أرباب العلم والهدى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء، وعنا معهم بعفوك وجودك يا ذا المن والعطاء.
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، ويسرنا للخير والإصابة، وأرشدنا لأفضال الأعمال عندك، وأحبِّها إليك، وهب لنا من رحمتك ما تبلغنا بها رضوانك وجنتَك، وما تغنينا بها عن رحمة من سواك.
اللهم اجعل مواسم الخيرات مقربة لنا إلى الهدى والرشاد، واجعلها لنا مربحا ومغنما، واجعل بيننا وبين الخذلان والخسار بعد المشرقين، يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وكفر خطايانا، واستجب دعاءنا، واقض ديوننا، وأذهب همومنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم انصر أنصارَ دينك، وارحم المستضعفين من إخواننا المؤمنين، اللهم آو مشرديهم، واحمل حفاتهم، وأطعم جوعاهم، وفك أسراهم، وأسبغ عليهم عافيتك، وارفع عنهم نقمتك.. اللهم وعليك بأعدائك وأعدائهم، اللهم اجعل ما مكروا به عليهم حسرة في الدنيا والآخرة، واجعلهم عظة وعبرة، يا قوي، يا عزيز ذا انتقام.
اللهم وأبطل كيد المحادين لدينك، الشانئين لشريعتك، الساخطين لصبغتك التي ارتضيتها لعبادك من الملحدين والمنافقين.. اللهم أظهر أضغانهم، واكشف أسرارهم، واهتك أستارهم، واحفظ بلاد المسلمين عامة بالإسلام، وهذه البلاد خاصة، عزيزة منيعة، حائزة على الخيرات، سالمة من الشرور والآفات، محكمة لشرعك، قائمة بالحق.
اللهم واحفظ بحفظك، واكلأ برحمتك إخواننا المرابطين على ثغورنا، والساهرين على أمننا، وقوِّ عزائمهم، وثبت الإيمان في أفئدتهم وأيدهم بروح من عندك يا رحمن.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي