إخوة الإسلام: ولما كان النسيان صفة بارزةً في الإنسان، فلقد نوّه القرآن الكريم في عدة مواضع بهذه الحالة التي تعتري هذه المخلوق. ومن أكثر هذه الحالات حديثاً، وأقبحها شأناً، هي تلك الحال التي يتناسى فيها العبد فضل خالقه عليه، ويعود إلى سالف حاله التي...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فكم هو عجيب هذا الإنسان! خلقه الله -تعالى-، وأبدع خلقه، وأتقن صنعه، وحشاه بأنواع الصفات، والمشاعر، والأحوال التي يرى فيها المتأمل عظيم قدرة الله -تعالى- في هذا المخلوق الضعيف!.
وكم في القرآن من آيات تلفت نظر المتدبرين إلى هذا المعنى، ومن أجمعها قوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].
إخوة الإسلام: إن من الأحوال التي تعتري هذا المخلوق، وتكرر ذكرها في القرآن بأساليب متنوعة، هي: حالة النسيان.
ولعل من أول آثار هذا الطبع: أن خروج أبينا آدم من الجنة كان بسبب نسيانه للعهد الإلهي: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115].
نسي فنسيت ذريته.
ولما كان النسيان طبعاً في الإنسان، كان من رحمة الله -تعالى-: أنه لا يؤاخذ المرء بنسيانه فيما بينه وبين ربه: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286].
قال الله: قد فعلت، فلله الحمد والمنة.
إخوة الإسلام: ولما كان النسيان صفة بارزةً في الإنسان، فلقد نوّه القرآن الكريم في عدة مواضع بهذه الحالة التي تعتري هذه المخلوق.
ومن أكثر هذه الحالات حديثاً، وأقبحها شأناً، هي تلك الحال التي يتناسى فيها العبد فضل خالقه عليه، ويعود إلى سالف حاله التي كان عليها، يقول تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
وهذه الحالة -أيها المسلمون- تتكرر أشباهها وأمثالها، فكم مُرضَ من مريض! وكم ابتلي من مبتلى! وكم اشتدت الكربات على مكروب! فدعا ربه حينها: إنْ ربه شفاه، أو عافاه من بليته، أو فرج كربته أن يتوب، ويعود فيجاب دعاؤه، ثم يعود إلى ما كان عليه.
قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) [الزمر: 8].
ولا ينجو من هذه الحال إلا من وصفهم الله بقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)[المعارج: 19 - 36].
فبدأ بالصلاة، وختم بالصلاة!.
والمصيبة الأعظم من هذه: أن بعض الناس قد تُطيف به المصائب من كل جانب، ويتتابع عليه الابتلاء؛ فتراه يذهب يمنة ويسرة، ويتصل بهذا، ويستشف بذاك، وينسى التعلق بالله! لا شكاً في قدرة الله، ولكن ضعف الإيمان، والثقة بما في أيدي الخلق.
إخوة الإسلام: وللنسيان والتذكر مقامات مع الخالق والخلق:
أما مع الخالق، فإن أعظم ما ينبغي تدريب النفس عليه، هو: كثرة ذكر الله -تعالى-، ومن أعظم ما ينبغي الهرب منه: نسيان هذه العبادة، أو الغفلة عنها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب: 41].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية: "إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه، إلا مغلوبا على تركه، فقال: (فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء: 103].
بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال.
وقال: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 42].
فإذا فعلتم ذلك، صلى عليكم هو وملائكته.
ولهذا مما وصفتْ به أمكم عائشة -رضي الله عنها- نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يذكر الله على كل أحيانه.
ولقد نعى القرآن على الغافلين عن ذكر ربهم، ويكفي ذماً للغافلين أن فيهم صفةً من صفات المنافقين، وأن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
إخوة الإسلام: ومن المقامات المتعلقة بالخالق في موضوع النسيان: أن أهل القلوب الحيّة، لا ينسون ذنوبهم، بل يتذكرونها -وإن تابوا منها-؛ ليكون ذلك دافعاً لمزيد من الاستغفار والندم، والحياء من الله -تعالى- يوم العرض عليه!.
فوالله، إن من أشد ما أقض قلوب الصالحين تذكرهم لحظة القدوم على الله، والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "والله ولو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي" [جامع العلوم والحكم (1/ 452)].
ويقول إسحاق بن إبراهيم -رحمه الله-: "وقفت مع الفضيل بن عياض بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً! إلا أنه واضعاً يده اليمنى على خده، وواضعاً رأسه يبكي بكاءً خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام فرفع رأسه إلى السماء، فقال: واسوأتاه والله منك وإن عفوت" ثلاث مرات [حلية الأولياء 3 /391].
والمعنى: أنك يا رب وإن تكرمت بالعفو والمغفرة، فإن الحياء من معصيتك باق لا يزول.
وللنسيان مقام آخر مع الخالق، وهو أن الإنسان -في الأصل- لا يكثر من تذكر عمله الصالح؛ لأن ذلك قد يفتح عليه باب العجب والغرور، أو باب التساهل بالمعاصي بحجة أنه له رصيداً من العمل الصالح، والمؤمن يعلم أنه ما من طاعة يوفق لها، أو معصية يصرف عنها، إلا وهي محض فضل الله -تعالى-، فكيف يعجب أو يمنّ؟!: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53].
قال بعض السلف: "إنما يتولد الإعجاب بالعمل من نسيان رؤية المنة -أي نسيان منة الله على العبد-.
وإن كان العبد لا بد فاعلاً، فليذكر حسناته وسيئاته؛ ليتزن الأمر قليلاً، قال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: "إن ذكرك حسناتك، ونسيانك سيئاتك غرة" [حلية الأولياء 1/420].
أما مقام النسيان مع الخلق، فله مقامات، منها: أن نبلاء الرجال لا ينسون معروف من أحسن إليهم يوماً من الدهر، مهما كان هذا الإحسان، وعلى رأس ذلك الوالدان، وشيوخ العلم.
رؤي الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو يكرم أعرابياً إكراماً يستكثر مثله من الشافعي القرشي الإمام على ذلك الأعرابي البسيط، فقال: إن هذا الأعرابي أفادني لفظة في غريب اللغة وأنا في مكة!.
فماذا يقول الجاحدون لجميل من أحسن إليهم من والد أو معلم؟! -والله المستعان-!.
ومقام آخر من مقامات النسيان مع الخلق: نسيان الخطأ، والعفو عن الزلة: فإن عقلاء الرجال، وكرام الأخلاق من الناس ما زالوا ينسون أو يجاهدون أنفسهم على نسيان خطأ الناس عليهم، ويحاولون تناسي إحسانهم إلى الخلق، وعلى رأس هؤلاء نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-!.
أليس هو الذي قال لكفار مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء؟!" وهو الذي كان قادراً على حزّ رؤوسهم؟.
قال ذو النون المصري -رحمه الله-: "ثلاثة من أعلام الحلم: قلة الغضب عند مخالفة الرأي، والاحتمال عن الورى إخباتا للرب، ونسيان إساءة المسيء عفواً عنه واتساعاً عليه" [حلية الأولياء (9/ 393)].
ومما يدخل في هذا -أي النسيان المحمود-: الغفلةُ عن عيوب الخلق، ونسيانها، والانشغالُ بعيوب النفس، فهي كثيرة جداً، وطوبى لمن شغله عيب نفسه عن عيوب الناس.
قال بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله-: "إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به".
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "أدركتُ قوماً بهذه البلدة -يعني المدينة- لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوباً، وأدركتُ قوماً كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم".
أيها المسلمون: وثمة شيء نسيانه خطير، وآفاتُ الغفلة عنه عظيمة، فكم فتح من أبواب الغرور على من نسوه؟ وكم سبب نسيانه قسوةً في القلوب؟.
إنه الموت! كم في القرآن من ذم لمن غرهم الأمل، وألهاهم!
وهذا الذي جعل بعض السلف يقول: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة فسد علي" [هو الربيع بن خثيم، كما في حلية الأولياء].
ولهذا قال ثابت البناني -رحمه الله-: "ما أكثر أحد من ذكر الموت إلا رئي ذلك في عمله" [حلية الأولياء (2/ 325)].
اللهم أحيي قلوبنا بذكرك، وأعذنا من حياة أهل الغفلة!.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإذا ذكر النسيان على أنه صفة نقص في الإنسان، فإن الله -تعالى- لكمال علمه منزه عن النسيان، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64].
وقال موسى -في محاجته لفرعون لما سأله-: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه: 51 - 52].
وإذا ذكر نسيان الله لقوم في القرآن فهو بمعنى تركه لهم، وتخليه عنهم سبحانه وتعالى، ووكلهم إلى أنفسهم، وتلك وربك قمة الخذلان، وغاية الخسران!.
وقال عن المنافقين المخذولين: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67].
أي: نسوا ذكر الله، ونسوا عظمة الله، فلا يحسبون إلا حساب الناس، وحساب المصلحة، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس يذلون لهم ويدارونهم: (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67].
أي: تركهم، ولم يقم لهم وزناً ولا قيمة، كقوله تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) [الجاثية: 34].
فأي خذلان -يا عباد الله- أعظم من أن يسقط حساب الله من ضميره؟! وأن يوكل الإنسان إلى نفسه ويتركه ربه، ويتخلى عنه -والعياذ بالله-!.
إذن ما المخرج؟!
استمع إلى ما يقوله ابن رجب -رحمه الله-: "فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعد حينئذ للقاء الله -عز وجل- بالموت، وما بعده ذَكَرَهُ الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به وأعانه وتولاه، وثبته على التوحيد فلقيه وهو عنه راض، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد حينئذ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد -بمعنى: أنه أعرض عنه- فأهمله" [جامع العلوم والحكم: (1/ 476)].
فلنفتش عن قلوبنا -يا عباد الله- قبل أن تحق ساعة الموت، هل نحن ممن نسي الله فأنساه نفسه؟!
افحص قلبك وأعمالك -يا أُخيّ-، وانظر هل هي على ما يحب الله ويرضاه أم لا؟!
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي