خُلق أبونا آدم من تراب، ثم كتب الله -جل وعلا- له أن يهبط إلى الأرض مع زوجه، ثم كتب الله لذريته أن تعمر الأرض، ثم بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، لتقوم الحجة، وتتضح المحجة، على الخلق أجمعين، ثم الله -تبارك وتعالى- يتوفاهم، ثم يجمعهم، ثم ...
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، وحن الجذع إليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فإن الوصية بتقوى الله -جل وعلا- وإن تكررت على الأسماع إلا أنها أجل الوصايا وأعظمها، لم يستثن الله -جل وعلا- في الوصية بها أحد من خلقه، تكفل الله لأهلها بالأمن مما يخافون، وبالنجاة مما يحذرون، وبالرزق من حيث لا يحتسبون: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2 - 3].
عباد الله: أخرج الشيخان في صحيحهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
هذا حديث عظيم، فيه بيان أصل الخلقة للعقلاء الثلاثة من المخلوقات، يدل أول الأمر وآخره على أن الله -جل وعلا- وحده هو الخالق، وأن هذه الثلاث الطوائف من علا منها، وعظم، وهو قد عظم وعلا بفضل من الله ورحمته، وإلا فهو في أصله مخلوق، ولا أحد يخلق إلا الله -جل شأنه-.
في قوله عليه الصلاة والسلام: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نور، وخلق آدم مما وصف لكم" بيان لأصل كل واحد من هذه المخلوقات.
أما الملائكة، فقد جعل الله لهم سلطانا على بين آدم يرونه، ولا يتمكن بنو آدم من رؤيته، إلا أن الله -جل وعلا- أناطهم بأجل، وأعظم المقامات، ولن يجعلهم مكلفين، وقال عنهم وهو أصدق القائلين: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء: 26 - 27].
وهم مع ذلك ما أخبروا عن أنفسهم في كلام ربنا: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) [الصافات:164].
لا يتجاوزه، لا يتعداه، يعرف كل أحد منهم ما أوكله الله -جل وعلا- إليه، إلا أنهم في الجملة مكرمون، أطهار، قريبون من ربنا العزيز الغفار.
فهم مثل عليا، ولهذا كانت لهم علاقة، أو بعض علاقة، مع بني آدم، تلكم العلاقة تتفاوت، منها علاقة مع كل أحد، بصرف النظر عن إيمانه وكثره، فكون الملك ينفخ الروح للجنين في بطن أمه، وككون الملك يقبض الروح عندما تحل ساعة الأجل، وككون الملك بعضهم خزنة للسماء، وغير ذلك مما لا يتعلق بإيمان وكفر.
ومنهم من جعله الله -جل وعلا- مؤتمنا على عظائم الأمور، وفي مقدمتهم أولئك جبريل -عليه السلام- ولي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من الملائكة.
فإن يهود قدمت على نبينا -عليه الصلاة والسلام- فسألته أسئلة لا يعلمها إلا نبي، فإن أجبتها اتبعناك، فأجابهم، ثم قالوا: يا أبا القاسم بقيت واحدة إن وافقت ما اتبعناك، قال "وما هي؟" بعد أن أخذ عليهم العهود، قالوا: من وليك من الملائكة؟ قال: "ولي من الملائكة جبريل" قالوا: هذا الذي ينزل في الحرب، لو كان وليك من الملائكة ميكال لتبعناك، فأنزل الله -جل وعلا- قوله: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [البقرة: 97 - 98].
وغير جبريل، كثير من الملائكة.
وبالجملة، فإنهم أطهار.
وينبغي للمؤمن أن يستحيي من الملائكة إذا خلا، فإن معكم من لا يفارقكم- ليلا ونهارا-، ويعلم أن الملك الذي على اليمين يكتب الحسنات، والملك الذي على الشمال يكتب السيئات، وربما قدر لبعض العباد أن يكتب عليه من المعاصي -عياذا بالله-، فإذا وقف بين يدي الله، قال الملك الذي على الشمال: أنا اطلعت وكتبت، فيقول الملك الذي على اليمين: أنا اطلعت وشهدت، فيقول رب العالمين: وأنا اطلعت وسترت.
فالحياء من هذين الملكين من الدين، ولا شك؛ لأنه يبين يقين العبد أنه يعلم أن الله -جل وعلا- صادق فيما يقول، قال ربنا: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار: 10 - 12].
إلا أن الذي يظهر أن الملائكة، ولا نجزم بهذا، لكن هذا الذي يظهر من القرآن أن هؤلاء الملائكة ليس لهم إحاطة علم كلي بأعمال القلوب، وإنما أعمال القلوب لا يعلمها إلا الله وحده علام الغيوب، فالملائكة تكتب ما ظهر، والله -جل وعلا- وحده يعلم السر وأخفى.
وهؤلاء الملائكة لهم علاقة أخص بالمؤمنين، وأعظم ما تتجلى تلك العلاقة: ساعة الاحتضار، قال ربنا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
فهذا يكون عند ساعة الاحتضار، وتخبره الملائكة بأن لا يخاف مما هو قآدم عليه، وأن لا يحزن على ما خلفه وراءه؛ لأن الله -جل وعلا- وليه.
أما الجان، فمن أسلم منهم يقال له: جان، ومن بقي على كفره، فيوصف بأنه: شيطان، وإبليس وهو أبوهم، لما خلق الله أبانا آدم، أمر الملائكة بالسجود، قال مستكبرا: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ) أي من آدم: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [ص: 76].
فكتب الله -جل وعلا- عليه أن يخرج من رحمته، وطرده من المكانة التي كان فيها: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [ص: 77].
وليس المقصود هنا الخروج من الجنة، وإنما الخروج من المكانة، وعلو المنزلة، ورحمة ربنا -تبارك وتعالى-.
أوكل الله -جل وعلا- بكل أحد من بني آدم شيطان، لما عند مسلم في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة -رضوان الله عليها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها ليلا، فغارت عليه، قالت: فلما جاء ورأى ما أصنع، قال: ما لك يا عائشة، أغرت؟ قلت: يا رسول الله وما لي لا يغار مثلي على مثلك، فقال صلى الله عليه وسلم لها: "أو قد جاءك شيطانك" قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: "نعم" قالت: قلت: ومع كل إنسان؟ قال: "نعم" قالت: ومعك يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم".
فتأمل -أيها المؤمن- هذه اللفظة كم فيها من جلال التوحيد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسند الإعانة لربه -جل وعلا-؟ وكم فيها من بيان مقامه عليه السلام، إذ حتى الشيطان الذي وكل به هدي على يديه صلوات الله وسلامه عليه، فطوبى لأمته، ولمن آمن به عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء -أي الشياطين- لا هم لهم إلا أن يغوا بني آدم؛ لأن الشيطان قال بين يدي ربه: (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 17].
وأخذ عهودا على نفسه، وأقسم بين يدي رب العزة: أن يسعى كل السعي في إغواء بني آدم: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82- 83].
وعلى هذا، فإن المؤمن عليه أن يكثر من الاستعاذة من الشيطان وشره، وأن يستعين بالله -جل وعلا- على تدبر القرآن، وتأمل السنة، حتى يصل إلى مراده، وينجيه الله -جل وعلا- برحمته وفضله من همزات الشياطين.
على أن الجن منهم من أسلم، سواء كان قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- أو بعده، لكنه -قطعا- أشرف الجن من أسلم بنبينا -عليه الصلاة والسلام-، ومنهم، كما قص الله في كتابه من سمع القرآن يتلى من شفتيه الطيبتين المباركتين، من فيّ النبي -صلوات الله وسلامه عليه-: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف: 29].
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) [الجن: 1].
وأخبر الله -جل وعلا- عن إيمانهم وفرحهم بأنهم سمعوا هذا الذكر المبارك من نبي مبارك في ليلة مباركة -صلوات الله وسلامه عليه-.
أما بنو آدم، فإن الله خلقهم من طين: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طـه: 55].
وجعلهم مكلفين، فمن سما بروحه ونفسه سمىا إلى عالم الملائكة، ومن اتبع هواه واقترف الشهوات، سمى إلى عالم البهائم، وقال جل وعلا وقوله الحق: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه:55].
خُلق أبونا آدم من تراب، ثم كتب الله -جل وعلا- له أن يهبط إلى الأرض مع زوجه، ثم كتب الله لذريته أن تعمر الأرض، ثم بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، لتقوم الحجة، وتتضح المحجة، على الخلق أجمعين، ثم الله -تبارك وتعالى- يتوفاهم، ثم يجمعهم، ثم يعطى كل أحد كتابه، كتابا: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف: 49].
فاتباع الهُدى، والتزام هديه -صلوات الله وسلامه عليه-، مع تحقيق التوحيد في القلب، أعظم ما يعين على النجاة من أهوال يوم القيامة.
وبنو آدم منهم الكافر، ومنهم البر، ومنهم الفاجر، ومنهم الصادق، ومنهم المنافق، كما قال الله: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118- 191].
أشرفهم رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ثم الخليل إبراهيم -عليه السلام-، ثم بقية أولي العزم من الرسل، ثم بقية الأنبياء والمرسلين، ثم أتباعهم من الصحابة والحوارين، وأرفعهم مقاما الشيخان؛ أبي بكر وعمر -رضوان الله تعالى عليهما-، وذو النورين عثمان، وأبو السبطين علي، وبقية أصحاب محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، ثم من تبعهم بالهدى، ولزم طريقهم بإحسان.
عباد الله: كل ذلك يبين لك بإجمال بعض خلق الله الكبير المتعال، والله بعد أن ذكر ذلك كله في كتابه، قال: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38].
اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي