بحر الأماني

عمر بن عبد الله المقبل
عناصر الخطبة
  1. أمنيات الكبار الدينية والدنيوية .
  2. بعض أماني العصاة والكفار بعد الموت .
  3. بعض أمنيات المؤمنين في الجنة .
  4. بعض صور ومظاهر الأماني المذمومة .
  5. قصة رائعة في أمنية بعض الصالحين .
  6. بعض الأمنيات الكاذبة .

اقتباس

في يوم من أيام مكة شرفها الله، وفي أوائل النصف الثاني من القرن الأول جلس أربعة نفرٍ كلهم من قريش: عبد الله، ومصعب، وعروة، أبناء الزبير بن العوام، وابنُ عمر -رضي الله عنهم ورحمهم-، فقال أحدهم للبقية: تمنوا؟! فقال: عبد الله بن الزبير أتمنى الخلافة! وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم! وقال مصعب أخوهما: أتمنى...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

ففي يوم من أيام مكة شرفها الله، وفي أوائل النصف الثاني من القرن الأول جلس أربعة نفرٍ كلهم من قريش: عبد الله، ومصعب، وعروة، أبناء الزبير بن العوام، وابنُ عمر -رضي الله عنهم ورحمهم-، فقال أحدهم للبقية: تمنوا؟! فقال: عبد الله بن الزبير أتمنى الخلافة! وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم! وقال مصعب أخوهما: أتمنى إمرة العراق، والجمعَ بين عائشة بنتِ طلحة، وسكنية بنتِ الحسين! فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة!.

قال الراوي: فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له [سير أعلام النبلاء 4/141].

إنه مجلسٌ يحكي شيئاً مما جُبِلَ عليه ابن آدم من ورود الأماني على قلبه.

إنه مجلسٌ يصور أنواعاً من الأماني التي تتردد في قلوب الناس.

إنه مجلسٌ جمع بين أعلى الأماني الدنيوية، وأعلى الأماني الأخروية: فأحدهم يتمنى الملك على الناس، والآخر يتمنى المغفرة، وبينهما أمنيتان متجاذبتان، فمصعبُ تمنى ولاية قطرٍ والزواج من امرأتين، وعروةُ تمنى أن يؤخذ عنه العلم.

ولننتقل إلى طيبة الطيبة لنستجلي خبر مجلسٍ من مجالس الأماني التي حفظها لنا التاريخ، إبان خلافة الفاروق -رضي الله عنه-، فقد قال يوماً لجلسائه، وهو يستكشف ما يدور في خواطرهم من أنواع الأماني.

قال عمر -رضي الله عنه- لجلسائه: تمنوا! فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله! ثم قال: تمنوا! فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله، وأتصدق! ثم قال: تمنوا! فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين! أي: كأنهم فهموا أن عمر يريد شيئاً آخر، فقال عمر -المسدد الملهم-: لكني أتمنى بيتا ممتلئا رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح [ينظر: حلية الأولياء 1/102، السير 1/14].

ولنرجع بالذاكرة قليلاً لنصل بها إلى أيام النبوة، وإلى ساعات الرسالة لنتوقف لحظات قليلةً نستمع فيها إلى أمنية من أماني صاحب الحوض المورود واللواء المعقود -صلى الله عليه وسلم-، ولنرى كيف كانت أمانيه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام؟.

روى الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل!.

الله أكبر! إنها الأماني الكبار التي تناسب الهمم الكبار، إنها أمنية من أشرف الأماني ألا وهي: القتل في سبيل الله! وليس مرةً واحدة، بل مراتٍ عديدة، لما يرى المجاهدون في سبيل الله من الكرامة.

وقد قيل قديماً: لئن كان الكلام يعبر عن عقل صاحبه، فإن الأماني تعبر عن همم أصحابها.

إخوة الإسلام: إنه استعراض بسيط لبعض ما ذكر في باب الأماني، التي لا تخرج عن أن تكون دنيوية أو أخروية، أو جمعت بين الأمرين.

ومن عجيب هذا الطبع الذي فطر عليه ابن آدم: أنه لا ينقطع عنه في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الدار الآخرة.

فهو الدنيا مستمرٌ معه إلى آخر نفَس، ألسنا نقرأ في القرآن قول ربنا: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100].

إنه مشهد يعبر عن استمرار إبحار هذا المخلوق في خضم بحر الأماني، ومَخْرِ عُبَابِه، حتى تصطدم أمانيه بصخرة الموت، وحواجز المنون، عندها تتوقف سفينة الأماني الدنيوية، وهل اصطدامها بصخرة الموت هو نهاية الأماني؟!

كلا، فهو سيركب سفينة أخرى من سفن الأماني في حياته البرزخية.

فعندما يوسد المرء في قبره، ويوجه له ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإذا أجاب عليها، وسمع المنادي يقول: "صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيقول -معبراً عن أمنيته-: ربِّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي!".

وعكسه تماماً حال الفاجر أو الكافر -والعياذ بالله- فإنه حين يخفق في جواب تلك الأسئلة، ويسمع ما يسمع من أنواع التقريع والتوبيخ يقول -معبراً عن أمنيته-: رب لا تقم الساعة!.

وهل ستنقطع الأماني عند هذا الحد؟!

كلا، بل هي في موقف القيامة أشد حضوراً، وأكثر تكرراً، حينما يقوم الناس لرب العالمين ويرون من الأهوال ما لم يكن في حسبانهم، ولم يخطر على قلوبهم، هنا تسترجع الذاكرة شريط الأماني مرةً أخرى.

ومن تأمل القرآن، فسيجد أن أكثر الأماني في ذلك اليوم العظيم تتردد على ألسنة الكفار والفجار، فهم حينما يقفون على النار لهم أمنية: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27].

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 23- 24].

وفي مشهد آخر تُسْمَعُ هذه الأمنية: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29].

وهو حينما يعطى كتابه بشماله له أمنيات: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 25 - 29].

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ: 40].

وهم حينما يدخلون دارَ الخزي والبوار يتمنون أيضاً، ولكن لا أمل في تحقق الأمنية، فاستمع إلى قول علام الغيوب عنهم: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 64 - 66].

ألا ما أعظم الفرق بين هؤلاء الخاسرين الذين تقطعت بهم الأماني، فلم يجابوا ولا إلى أمنية واحدة مما أرادوا، وبين أهل الجنة الذين يكفي أن تسمع عن خبر آخر واحد منهم يدخل الجنة لتعرف كيف تتحقق أمانيهم!.

استمع إليه في الخبر الذي حدثنا به ابن مسعود عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، رجلٌ يخرج منها زحفاً، فيقال له: انطلق! فادخل الجنة، قال: فيذهب فيدخل الجنة، فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟! فيقول: نعم، فيقال له: تمن! فيتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا، قال: فيقول أتسخر بي وأنت الملك؟! قال -أي ابن مسعود- فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه!" [الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه-].

فإذا كانت هذه أمنية آخر رجل يخرج من النار، وآخر رجل يدخل الجنة، فما ظنك بمن هم في الفردوس الأعلى؟!

نسأل الله الكريم من فضله.

ولو أردنا أن نسترسل في الحديث عن أماني أهل الجنة لطال حديثنا، ولكن حسبك أن تتذكر فيهم قول الله تعالى: (هُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35].

وقوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 71].

جعلنا الله وإياكم من أهلها، وبارك الله لي ولكم في كتاب ربنا وسنة نبينا.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ...

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الأماني -كغيرها من الواردات- للشرع فيها نظره وحكمه، فليس كل أمنية تخطر على قلب المسلم يجوز له التفوه بها، ومن ذلك: أن يتمنى الإنسان الموت من أجل ضرٍ نزل به، أو مصيبة حلّت به، ففي الصحيحين من حديث أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي!".

ومن فقه هذا الحديث: أن المنهي عنه هو تمني الموت جزعاً من المصائب، وعدم صبرٍ عليها، فأما إن كان تمنيه خوف الفتنة في الدين، فلا حرج فيه -إن شاء الله-.

ومن الاعتداء في باب الأماني: أن يتمنى الإنسان ما لا يمكن قدراً ولا شرعاً، كأن يتمنى الذكر خصائص الأنثى أو العكس، قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32].

أيها المسلمون: وبعد هذه الرحلة السريعة في بحر الأماني، فكم هو جميل أن نفكر كثيراً في أمانينا، وأن نراجع أنفسنا في أمانينا التي تتردد في نفوسنا، هل هي مما يعود علينا بالنفع في العاجل والآجل؟ أم هي أماني لا تتجاوز حدّ شهوة البطن أو الفرج أو الرصيد؟

إن الأماني -يا مسلمون- على قدر همم أصحابها، أخبرني ما هي أمانيك أخبرك أي رجلٍ تكون؟

توقف معي قليلاً عند هذه القصة القصيرة في سياقها العظيمة في مبانها، لتعرف قيمة المتمني من أمنيته: قيل لعيسى بن وردان: -وقد بلغ من السن مبلغاً-: ما غاية شهوتك من الدنيا؟! فبكى، ثم قال: أشتهي أن ينفرج لي عن صدري، فأنظر إلى قلبي ماذا صنع القرآن فيه، وما نكأ! [المتمنين، لابن أبي الدنيا (49)].

أخيراً -أيها الأحبة-: إن من الغرور البيِّن: أن يضحك الإنسان على نفسه، ويرى أنه بمجرد ما يقع في خاطره من الأماني الصالحة أن ذلك يكفيه، كلا، فلا بد مع الأمنية من أعمال تبرهن على صدق الأماني.

كم من شاب ممن هاموا في أودية المعاصي والشهوات، حينما تحدثه عن التوبة والرجوع إلى الله يقول لك: أتمنى أن الله يهديني! ثم إذا فتشت وإذا أعماله لا تدل على ذلك.

ورحم الله عون بن عبد الله: حين قال: "إن من أغر الغرة انتظار تمام الأماني وأنت أيها العبد مقيم على المعاصي".

ويقول يحيى بن معاذ: "لا يزال العبد مقروناً بالتواني ما دام مقيماً على وعد الأماني".

وهذا عمر بن عبد العزيز: الإمام الصالح، العابد، الزاهد يضرب بيده على بطنه، ويقول: "بطني بطيء عن عبادة ربه متلوث بالذنوب والخطايا، يتمنى على الله منازل الأبرار بخلاف أعمالهم!".


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي