نعمة الأمطار

أحمد حسين الفقيهي
عناصر الخطبة
  1. نعمة الغيث .
  2. من الآيات والعبر في نزول الغيث .
  3. هل رضي الله عنا بإنزال المطر؟ .
  4. من مظاهر كفران نعمة إنزال الغيث .
  5. من السنن القولية والفعلية عند نزول المطر .

اقتباس

لما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد، غفلوا عن أشياء كثيرة، وفاتهم غيث القلوب، وهو النظر بنظر البصيرة، والاعتبار إلى هذه الآية العظيمة؛ ففي هذا الغيث العديد من مواطن للعبر، والكثير من آيات للتذكر ولعل من أبرزها أنه دليل باهر، وبيانٌ قاهر على توحيد الله، وعظيم أمره وجليل سلطانه؛ فلو اجتمع الأنس والجن والملائكة، وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ..

 

 

عباد الله: إننا نتقلب في هذه الأيام في نعم من الله زاخرة، وخيرات عامرة، فسماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضر، فتح الله لنا برحمته أبواب السماء، فعم بخيره الأرض، وانتفع العباد.

أيها المسلمون: لا يخفى على أحد ما حصل للعباد والبلاد من الضرر بتأخر نزول الغيث في الأعوام الماضية، فالآبار قد نضبت، والثمار قد ذبلت، والمواشي قد هزلت، ومعها القلوب قد وجفت، حتى كاد اليأس أن يصيب بعض القوم لما رأوا في مزارعهم وديارهم، فإذا بالرحيم سبحانه ينزل بعض رحمته، فتنهمر السماء وترتوي الصحراء، فلا إله إلا الله، ما أعظم جوُدَهُ، ما أكرم عطاءًه، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ) [الشُّورى:28].

عباد الله: إن إنزال الغيث نعمة من أعظم النعم واجلها، نعمة امتن الله بها على عباده، وأشاد بها في كتابه، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21]، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22].

وإن مما يدل على عظم تلك النعمة، تلك الأوصاف المتعددة التي وصف الله تعالى بها الغيث في كتابه، فأحياناً يصف الماء بالبركة، وأحياناً يصفه بالطهر، وأحياناً بأنه سبب الحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة يقول سبحانه: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ) [ق:9]، ويقول سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]، ويقول سبحانه: (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل:65] .

أيها المسلمون: لما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد، غفلوا عن أشياء كثيرة، وفاتهم غيث القلوب، وهو النظر بنظر البصيرة، والاعتبار إلى هذه الآية العظيمة؛ ففي هذا الغيث العديد من مواطن للعبر، والكثير من آيات للتذكر ولعل من أبرزها أنه دليل باهر، وبيانٌ قاهر على توحيد الله، وعظيم أمره وجليل سلطانه؛ فلو اجتمع الأنس والجن والملائكة، وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].

عباد الله: ينشئ المولى سبحانه السحاب فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم، وفي أوقات معلومة بتقدير العزيز العليم، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: ليس عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء؛ فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشُّورى:27].

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى -وهو يتحدث عن نزول المطر-: "فيرش السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدةٌ في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه، ثم قال رحمه الله: فـتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش"، فتبارك الله أحسن الخالقين ورب العالمين.

أيها المسلمون: ومن الآيات والعبر في نزول الغيث أنه دليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى وإثبات البعث والنشور؛ فالذي يحي الأرض بعد موتها بالغيث، قادر على إحياء الموتى بعد مفارقتهم للحياة، (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصِّلت:39]، (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [فاطر:9].

عباد الله: إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا ليس بها أنهار، وأنها تعتمد بعد الله في بعض شؤونها على مياه الآبار التي تغذيها الأمطار، فعلينا أن نقوم بشكره سبحانه على نعمته، وأن نستعين بها على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].

أيها المسلمون: إن إنزال المطر ليس بالتأكيد أن يكون دليل رضاً من الله عن خلقه، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر صباح مساء وعلى مدار العام، فالمطر قد ينزل إنعاماً، وقد ينزل استدراجاً، وقد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً، ولقد أهلك الله بهذا المطر أقواماً تمردوا على شرعه، وتنكروا لهديه، قال سبحانه: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) [القمر:9-16]. .

عباد الله: إن من مظاهر كفران نعمة إنزال الغيث التشبه بأهل الجاهلية في نسبة إنزال الغيث إلى غير الله من الكواكب والأنواء وغيرها من الأسباب، عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ما قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" رواه مسلم.

أيها المسلمون: ومن كفران النعم -أيضاً- تسخير هذه النعمة في معصية الله تعالى، حيث يخرج بعض الناس بعد نزول المطر إلى المتنزهات والصحاري، مصطحبين منكراتهم، ومعاصيهم من أنواع اللهو المحرم، وكثير من أولئك وللأسف يضيعون الصلاة أو يؤخرونها عن وقتها، وقد يصطحبون معهم أطباق الفضائيات ومختلف الآلات، وأما إهمال البنين والبنات، وتبرج النساء وعدم الاحتشام في تلك الرحلات أمر ظاهر لا يخفى ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا على أيدي السفهاء، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [المائدة:2]، يقول مجاهد رحمه الله: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية بن آدم.

اللهم أجعل ما أنزلته علينا عوناً على طاعتك.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل.

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله: ثبت عن نبيكم صلى الله عليه وسلم سنن قولية، وسنن فعلية، كان يأتي إذا نزل المطر ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رأى الغيث "اللهم صيباً نافعاً" رواه البخاري، وفي رواية لأبي داود: "اللهم صيباً هنيئاً" وثبت عنه أيضاً أنه قال: "مطرنا بفضل الله ورحمته" رواه البخاري، أما إذا نزل المطر وخشي منه الضرر فيدعا بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر" أخرجه الشيخان.

أيها المسلمون: ومن السنن الفعلية الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم عند الغيث استغلال وقت نزول المطر بالدعاء، واستحب بعض العلماء رفع اليدين أثناء الدعاء لحديث، "ثنتان لا يرد فيهما الدعاء عند النداء، وعند نزول المطر" أخرجه الحاكم، وحسنه الألباني رحمه الله.

وكذلك يستحب كشف بعض البدن حتى يصيبه المطر، ثبت في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض بدنه ليصيبه المطر، وقال: "إنه حديث عهد بربه" أي حديث عهد بتخليق الله تعالى له، وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن رأسه حتى يصيبه المطر.

أيها المسلمون: هذه الأمطار، وتلك الأجواء الباردة تدفعنا أحياناً لجمع الصلوات، ولبس الخفاف والجوارب، وهذه الأفعال أفرد لها علماؤنا أبواباً متفرقة في كتبهم، وحري بكل مسلم فضلاً عن طالب علم، أن يتفقه في دينه ويتعلم أحكام تلك الأفعال،حتى يقدم على عبادة ربه على بينة وبصيرة من دينه.
ثم صلوا على السراج المنير.

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي