إذا كان الفائزون الرابحون السعداء هم الذين جمعوا بين العلم النافع، والعمل الصالح، كان على كل عاقل لبيب أن يحرص أشد الحرص أن يبحث عن صفات هؤلاء السعداء، ليكون واحداً منهم، ولكن من الذي يتفكر فيها ويتذكرها ويعمل بها؟! إنه لا يفعل ذلك إلا...
أما بعد:
فإن الله -تعالى- أنزل كتابه الكريم، وبين فيه صفات أهل السعادة والفوز والفلاح، وبين فيه صفات أهل الشقاوة والخسارة والنار، حتى يتفكر العاقل في الصفات الحميدة، فيتحلى بها قدر استطاعته، ليكون من أهل الجنة, ويتفكر في الصفات الذميمة، فينآى بنفسه عنها، خوفاً من الله، حتى لا يكون مصيره إلى النار، وفي ذلك يقول تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد: 19].
أي أن الناس فريقان: فريق يعلم الحق، يعلم الكتاب والسنة، فيعمل بعلمه، ويتقرب إلى الله على نور من الله، قد جمع بين العلم النافع، والعمل الصالح، فهو على الصراط المستقيم.
وفريق يعلم الحق، لكنه لا يعمل به، أو لا يعلم الحق أصلا، فهذان بمنزلة الأعمى الذي لا يهتد سبيلا، فهل يستوي الفريقان؟
والجواب: لا يستويان.
وإذا كان الفائزون الرابحون السعداء هم الذين جمعوا بين العلم النافع، والعمل الصالح، كان على كل عاقل لبيب أن يحرص أشد الحرص أن يبحث عن صفات هؤلاء السعداء، ليكون واحداً منهم، ولكن من الذي يتفكر فيها ويتذكرها ويعمل بها؟!
إنه لا يفعل ذلك إلا أولوا الألباب، ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) [الرعد: 19].
ثم بين صفاتهم التي نالوا بها مراتب العز والرفعة في الدنيا والآخرة، فقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد: 20].
فالله قد أخذ على عباده العهود والمواثيق أن يعبدوه وحده، ولا يشركون به شيئاً، وأن يطيعوا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويتبعوه ولا يعصوه ولا يبتدعوا في دينه ما لم يشرعه.
فهؤلاء المفلحون الفائزون، وفوا بهذا الميثاق، فأخلصوا الدين لله، وأخلصوا المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن صفاتهم: أنهم: (يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فلا يقطعون شيئاً أمرهم الله بهم لا فيما يتعلق بحقوقه، ولا فيمال يتعلق بحقوق خلقه، ومن ذلك: أنهم يبرون آباءهم وأمهاتهم، ويحسنون إلى أزواجهم وأولادهم، ويصلون أرحامهم، ويحسنون إلى جيرانهم، يرحمون الفقراء والمساكين، وأصحاب الحاجات، فيواسونهم، ويعينونهم بما يستطيعون، يحسنون إلى دوابهم وبهائمهم، وما ملكت أيديهم.
وهم مع هذه الأعمال الجليلة الفاضلة؛ كما وصفهم الله: (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) [الرعد: 21].
فالسبب الذي حثهم ودفعهم إلى القيام بالواجبات، وترك المنكرات، هو خشيتهم من الله، وخوفهم منه، ليقينهم أن الله مطلع عليهم، وتذكرهم الدائم أن ربهم سيحاسب العباد، فمن تيسر حسابه وحسن، كان من أهل الجنة، ومن ساء حسابه وعسر، كان من أهل النار -والعياذ بالله-.
ومن كمال علمهم: أنهم لم يغتروا بصالح أعمالهم ومواظبتهم على طاعة ربهم، ومجانبتهم معصيته، فهم يطيعون الله، ومع ذلك يخافونه ويخشونه.
ولما كانت الرتب الرفيعة لا تنال إلا بالصبر، مدحهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ) [الرعد: 22].
فالقيام بالطاعات يحتاج إلى صبر، والكف عن المعاصي يحتاج إلى صبر، وأقدار الله المؤلمة تحتاج إلى صبر، لذلك هم يستعينون بالصبر على أمورهم الدينية والدنيوية، ولما كان الصبر صفة مشتركة تكون في البر والفاجر، قيدها هنا سبحانه بأنهم يصبرون ابتغاء وجه ربهم، أي يصبرون لله -تعالى- يريدون ثوابه، ويخافون عقابه، لا يصبرون لأجل أن يمدحهم الناس على الطاعات، أو من أجل أن ينالوا بها دنيا وعرضاً زائلا.
ومن صفات المفلحين الفائزين الرابحين: محافظتهم على الصلاة، فيقمونها ويحسنون أداءها، فهم يتطهرون لها كما أمر الله، ويصلونها في أوقاتها، ويصلونها مع الجماعة، إن كان من أهلها، ويخشعون في صلاتهم، ويحضرون قلوبهم فيها، فلا تذهب قلوبهم في أودية الدنيا ومشاغلها، ما داموا قائمين بين يدي ربهم.
ومن صفات المفلحين الفائزين أولي الألباب: أنهم ينفقون مما رزقهم الله في السر والعلن، فينفقون على أنفسهم وأهليهم بالمعروف، دون إسراف ولا بخل، ويخرجون الزكاة الواجبة المستحقة إلى أهلها.
ويتنفلون بنوافل الصدقات سراً وجهراً في وجوه البر والخير والإحسان.
ومن صفاتهم: أنهم أحسن الناس مع من أساء إليهم، فيصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كان هذا حالهم مع من أساء إليهم، فما ظنك بحالهم وأخلاقهم مع من أحسن إليهم؟
وفي هذه الصفات الثلاث: يقول تعالى عنهم: (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [الرعد: 22].
جعلني الله وإياكم من أولي الألباب الذين يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فإن الله -تعالى- لما وصف أولي الألباب بتلك الصفات الحميدة؛ أخبر عن عاقبتهم ومآلهم وجزائهم، فقال سبحانه: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ) [إبراهيم: 21 - 22].
ومعنى: (عَدْنٍ) أي إقامة، فإذا دخلوها لم يخرجوا منها، بل هم أصلا لا يبغون عنها حولاً، لما يرون فيها من أنواع السرور والحبور، والملذات والنعيم.
ثم قال تعالى: (يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد: 23].
أي ومن فضل الله عليهم: أن يتم عليهم نعمته في الجنة، بأن يجمعهم بأهل الإيمان من أحبابهم وأقاربهم، فيجمع الآباء والذرية والأزواج، أي إذا ماتوا على التوحيد، فدخلوا الجنة.
أما القريب الكافر، فهو من أهل النار -والعياذ بالله-.
ومن إكرام الله لهم: أن يأذن للملائكة، فتدخل عليهم، وتسلم عليهم، وتهنئهم بما صاروا إليه، من الفوز العظيم، والنعيم المقيم؛ كما قال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [إبراهيم: 23 - 24].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، واجمعنا فيها بآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وذرياتنا، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم أعز الإسلام...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي