إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير هذه الأمة، وأزكاها قلوباً، وأعمقها علماً، وأحسنها اتباعاً، واقتداءً بنبيها -عليه الصلاة والسلام-. وإن ميزان الاستقامة الصحيحة، هو استقامتهم وعقيدتهم وهديهم، فمن أحسن اتباعهم كان من المهتدين، ومن تنكب طريقهم كان من الضالين: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ) [البقرة: 137]. وإذا ذكر علماء الصحابة وفقهاؤهم؛ كان...
أما بعد:
فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير هذه الأمة، وأزكاها قلوباً، وأعمقها علماً، وأحسنها اتباعاً، واقتداءً بنبيها -عليه الصلاة والسلام-.
وإن ميزان الاستقامة الصحيحة، هو استقامتهم وعقيدتهم وهديهم، فمن أحسن اتباعهم كان من المهتدين، ومن تنكب طريقهم كان من الضالين، قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ) [البقرة: 137].
وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [التوبة: 100].
وإذا ذكر علماء الصحابة وفقهاؤهم؛ كان عبد الله بن مسعود في مقدمتهم، فإنه من السابقين الأولين، ومن العلماء الراسخين، ومن المجاهدين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسيفه ونفسه، ومن المجاهدين بفقهه وعلمه.
مرَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وهو غلام صغير، يرعى غنما لأحد كفار قريش، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل من لبن؟ قال: نعم، ولكني مؤتمن، فقال: هل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قال: فأتيته بشاة، فمسح ضرعها ودعا، فنزل لبن، فحلب في إناء فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص، فأتاه بعد ذلك فطلبه أن يعلمه من هذا القول الذي جاء به، فمسح رأسه، وقال: يرحمك الله إنك غُليّم مُعلم.
وصدّق الله كلام نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فكان ابن مسعود أحد كبار علماء هذه الأمة.
وكان من ألصق الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أكثرهم دخولاً عليه في داره، حتى كان الغريب يَقدَمُ المدينةن فلا يظنه إلا من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-.
شارك في غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- على نحول جسده، وقصر قامته، وكان معه يوم بدر، فمرَّ بأبي جهل جريحاً، فحز رقبته، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشره بقتله، ففرح بذلك فرحاً عظيماً.
ومرَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً وهو في المسجد يقرأ القرآن بصوته العذب، وتلاوته المتقنة، فأخذ يستمع إليه واقفا هو وأبو بكر وعمر، فلما فرغ من قراءته ركع وسجد، ثم أخذ يدعو ويستغفر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سل تعطه" ثم قال: "من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه من ابن أم عبد".
فلما طلع الصبح انطلق عمر يبشره، فوجد أبا بكر قد سبقه بالبشارة، قال عمر: "وما سابقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني".
وكانت طريقته وطريقة الصحابة في تعلم القرآن، هي أحسن الطرق، وأعظمها نفعا، وأبعد ما تكون عن أسباب الفتن والانحراف الفكري، فكانوا إذا حفظوا عشر آيات لم يحفظوا العشر التي تليها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فجمع الله لهم بين حفظ آياته، وفقه معانيها، بخلاف من يحفظ القرآن على جهلن فربما غلط في فهمهن فضل وأضل، كما حصل لمن بعدهم.
ولما ولي عمر الخلافة أرسله إلى أهل الكوفة معلماً ومفقهاً ومفتياً، وأخبرهم بأنه آثرهم به على نفسه، وإلا فكان يرغب أن يستبقيه عنده في المدينة، ليكون عونا لعمر بعمله ورأيه ومشورته.
وقد نفع الله به أهل الكوفة، فكم علم من جاهل؟ وذكر من غافل؟ وأطفأ من بدعة؟ وجد واجتهد فيما أوكل إليه، حتى خرّج للأمة كوكبة من كبار علماء التابعين، وعبادهم وصالحيهم.
كان ابن مسعود من أقوم الناس بشأن التوحيد، واتباع السنة، والزجر عن البدعة، دخل على زوجتهن وفي عنقها خيط، فسألها عنهن فقالت: خيط رقي لي فيه، فأخذه فقطعه، وقال: "إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك" سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
ثم أرشدها أن تقول كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب البأس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما".
وسمع الناس منادياً ينادي بعدما ناموا: من صلى في الجامع الأعظم دخل الجنة، فقام الناس رجالا ونساءً إلى المسجد الكبير يصلون، فقيل لابن مسعود: أدرك الناس، وقصوا عليه ما جرى، فخرج إليهم يناديهم ويشير بثوبه: اخرجوا، لا تعذبوا، فإنما هي نفخة من الشيطان، إنه لم ينزل بعد نبيكم كتاب، ولا ينزل بعده، فخرجوا.
وبلغه أن جماعة تحلقوا حلقاً في المسجد، على كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة، كبروا مائة، فخرج إليهم وزجرهم، وبين لهم أنهم بين أحد أمرين: إما أنهم أعمق علما من أصحاب محمد، وإما أنهم أتوا ببدعة وضلالة، وأغلظ عليهم، حتى عجب بعض من حضر من شدة ابن مسعود، والأمر في نظره، لا يستحق ذلك كله، ولكن النتائج كانت وخيمة أليمة، فعامة أولئك المبتدعة في طريقة الذكر هم الذين ابتدعوا فتنة تكفير الصحابة، وقتالهم في زمن علي -رضي الله عنه-، وهكذا البدع يجر بعضها بعضا -نسأل الله السلامة والمعافاة-.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فقد حفظت لنا كتب السنة جملة طيبة من غرر كلام ابن مسعود وتوجيهاته ونصائحه، والتي كانت تخرج عن علم راسخ، وفهم ثاقب، وقلب مشفق، وإليكم نماذج منها:
سئل أبو موسى عن رجل ضرب بسيفه في سبيل الله، حتى قتل أهو في الجنة، فقال أبو موسى: نعم؟ فأنكر عليه ابن مسعود إطلاق الجواب على سنة ضرب أم على بدعة؟ يعني إن كان جهاده موافقاً للسنة، فهو في سبيل الله، كالقتال مع ولاة الأمور الكفار والمشركين والخوارج، وإن كان القتال على بدعة كما يفعله الخوارج، فهذا ليس في سبيل الله، والمقتول فيه إلى النار -والعياذ بالله-.
وكان يقول: "اتبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم".
وصدق، فإن أصحاب رسول الله كانوا على الصراط المستقيم، والمنهج القويم، فمن اتبعهم استقام، ومن ابتدع في الدين شيئاً لم يفعلوه ضل وانحرف.
وكان يقول رضي الله عنه: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهليه، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق".
وفي هذه الموعظة نصيحة بطلب العلم الشرعي قبل أن يقبض بذهاب العلماء، فإن العلم لا ينزع من الصدور، ولكن إذا مات العلماء قبل أن يؤخذ عنهم ذهب العلم وضاع، فما أحرى الشباب خاصة بهذه الوصية.
فعمر الشباب هو أنسب الأعمار لتلقي العلم عن أهله، ولكن أكثر الشباب اليوم في غفلة، منهم من أضاع شبابه في الشهوات، ومنهم من أضاعه في برامج يظنها خيراً، وليست بخير كاستهلاك العمر في الأناشيد والتمثيل والرحلات، ونحوها.
وفي هذه النصيحة من ابن مسعود: التحذير من دعاة البدع والضلالة الذين يزعمون أنهم يدعون الناس إلى كتاب الله، ولكنهم في الحقيقة قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فهم يدعون إلى أهوائهم وبدعهم وضلالتهم كمن يدعو إلى الغلو في الدين، أو يدعو إلى التحلل من الدين، ثم تجد كلاً منهم يستدل بشيء من القرآن أو السنة، ويزعم أنه يدل على ما يدعو إليه.
ثم بين رضي الله عنه: أن العلامة الفارقة بين الحق والباطل، هو موافقة الأمر للعلم الموروث في الكتاب والسنة، وطريقة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن وزن الأمور بهذا الميزان أصاب الحق واهتدى -بإذن الله-.
ومن غرر وصاياه قوله: "إنها ستكون أمور مشتبهة، فعليكم بالتؤدة؛ فإن يكن الرجل تابعا بالخير خير من أن يكون رأسا في الشر".
إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصية في هذا الزمن زمن الفتن التي تطيش لها الأحلام، وتحار فيها العقول، إنها الوصية بالتؤدة والأناة والتروي؛ لأن الاستعجال ولا سيما من قبل الشباب، ومن قبل من قلَّ نصيبه من العلم، في إصدار الأحكام، واتخاذ المواقف، ولا سيما في القضايا الكبار التي تتعلق بالأمة، يجر إلى شرور عظيمة، ربما لا يمكن علاجها وتلافي آثارها إلا بعد دهور طويلة.
وانظروا كيف أدى الاستعجال، وحب الترأس، إلى ما آلت إليه الأوضاع في كثير من البقاع في العالم الإسلامي، من سقوط الدول، وسفك الدماء، وضعف أمر المسلمين، وكان سبيل السلامة بلزوم التأني، ورد المشكلات إلى أولي الأمر، وإلى الراسخين في العلم، والصدور عن رأيهم، فإنهم أعلم بالمشتبهات، وأبعد عن العواطف التي تعمي البصائر، وأقدر على الموازنة بين المصالح والمفاسد.
أيها الإخوة: إن نصائح ابن مسعود كثيرة، ولو ذهبنا نسردها لطال بنا الوقت، ولكن في هذا القدر كفاية لمن وفقه الله، فاتبع أحسن ما سمع.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي