معشر المسلمين: لقد جمع اللهُ بين الخوفِ والرجاءِ، ليكونَ المؤمنُ معتدلاً في سيره إلى اللهِ، والدارِ الآخرةِ، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "في هذه الآية ترهيبٌ وترغيبٌ، أنَّ حسابَه وعقابه سريعٌ، فيمن عصاه وخالف رُسُلَهُ، وإنه لغفور رحيم، لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خير وطلب، ثم قال: جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر إنه...
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسَيِئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 33- 34].
عباد الله: إذا كنا نُصَدِّقُ بأنَّ وعدَ الله حقٌ، وأنَ وعيدَه صدقٌ، فعلينا أنْ نرجو وعدَه، وأنْ نخافَ وعيدَهُ، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم)[الحجر: 49- 50].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية دالةٌ على مقامَي الرجاء والخوف"[تفسير القرآن العظيم 2 / 553].
أيها المسلمون: إنَّ الخوفَ من عقابِ الله، وعذابِه، والرجاءَ لمغفرته، ورحمته دليلٌ على صحة الإيمان، ولقد أمر اللهُ -تعالى- عبادَه بخشيته، ورهبته، والخوف منه سبحانه دون سواه، قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
وقال عز وجل: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة: 44].
وقال تبارك وتعالى: (فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل: 51].
أيها المسلمون: إنَ الخوفَ من الله -تعالى- يقمعُ الشهواتِ، وسببٌ في البعد عن المعاصي والموبقات قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعةٌ يظلُّهم اللهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّهُ" وذكرَ منِهم: "رجلاً دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافَ اللهَ"[رواه البخاري ومسلم].
كما أنّ الخوفَ يُؤدي إلى فعل الخير، والسلامةِ منْ كلِّ شر.
قال الفضيلُ بن عياضٍ -رحمه الله-: "مَنْ خاف اللهُ دَلَّهُ الخوفُ على كل خيرٍ".
وقال أيضًا: "مَنْ خافَ اللهَ لم يَضُرَّهُ أحدٌ، ومن خاف غيرَ اللهِ لم ينفعْهُ أحدٌ".
كما أنّ الخوفَ والخشيةَ من الله منْ أعظم الأسباب في الاستقامةِ على الدين.
قال بعضُ السلفِ: "ما استعان عبدٌ على دينِه بمثلِ الخشيةِ مِنَ الله".
أيها المسلمون: لقد وعد اللهُ الذين يخافونه، ويخشونه، وعدهم بالمغفرةِ والأجر الكبير، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]ٍ.
فلنكن -عباد الله- من المتقين الذين يخشون ربَّهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون، وممن وصفهم الله بقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل: 50].
ولقد كان للسلف الصالحِ -عليهم رحمة الله- أحوالٌ في الخشية من الله، والخوفِ من وعيده؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة، ما سمعتُ مثلَها قط، فقال: "لو تعلمون ما أعلمُ لضَحكتُمْ قليلاً، ولبكيتم كثيرًا" "فَغَطَّى أصحابُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ورَضِيَ اللهُ عنهم وجوهَهُمْ ولهُم خَنِيْنٌ"[رواه البخاري ومسلم].
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-: "أنَّ عبد الرحمن بن عوف أُتِيَ بطعامٍ وكان صائمًا -أي عند الإفطار- فقال: قُتلَ مصعبُ بن عمير-رضي الله عنه- وهو خيرٌ مني وكُفنَ في بردةٍ، إنْ غُطِّيَ بها رأسُه بدت رجلاه، وإنْ غُطِّيَ بها رجلاه بدا رأسُه، ثم بُسِطَ لنا مِنَ الدُنيا ما بُسِطَ، أو قال: أُعطِينَا من الدنيا ما أُعطِينا، وقد خَشِينَا أنْ تكونَ حسناتُنا عُجِّلَتْ لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعامَ" [رواه البخاري].
وقال أحمد بن عاصم -رحمه الله-: "قلةُ الخوفِ من قلةِ الحزنِ في القلبِ، كما أنَّ البيتَ إذا لم يُسْكَنْ خرب".
وقال كعب الأحبار -رحمه الله-: "لأنْ أبكي مِنْ خشيةِ الله أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتصدق بوزني ذهبًا".
وقال الحسن -رحمه الله-: "المؤمنُ أحسنُ الناس عملاً، وأشدهم وجلاً، لا يزداد صلاحًا إلا ازداد فرقًا" أي خوفًا.
وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "من أعظمِ المصائب للرجل أنْ يَعلمَ من نفسِهِ تقصيرًا ثم لا يبالي ولا يحزنُ عليه".
ولقد كان سفيان الثوري -رحمه الله- كثيرًا ما يُسمَع يقول: يا رب سلّم سلِّم كأنه في سفينةٍ يخاف الغرقَ.
أيّها المسلمون: ومع الخوفِ لا بدَّ من الرجاء، إذ هو الجناحُ الثاني الذي يطير بهما قلبُ المؤمن، وإذا صدق فيهما، فإنه يُرجَى له الخيرُ في الدنيا والآخرة.
والرجاء: هو الانتظارُ لشيءٍ محبوب، وتوقع حصوله، لكن ببذل أسبابه وإلا صار تمنيًا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 218].
قال بعض السلف: "من علامةِ صحةِ الرجاء حسنُ الطاعة".
فلا بد من العملِ مع الرجاء، فمن رجا شيئًا بذل سببَهُ، فمن رجا المغفرةَ مثلاً أتى بأسبابها من التوبةِ، والاستغفارِ، والإيمان، والعمل الصالح، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82].
إنّ الخائف -أيها المسلمون- الذي يرجو ما عند الله، هو الذي يكف نفسَه عن القبائح، والمكروهات، ويحاسبُ نفسَه على الخطرات، والخطوات، ويخشى أن يُفجأه الموت وهو على أسوأِ الحالاتِ، بل إنَّه مع ذلك يجتهد في عملِ الصالحاتِ، ويستغل أوقاتَه في عمل الخير قبل الفوات. قال الإمام أحمدُ -رحمه الله-: "سبحانك ما أغفلَ هذا الخلقَ عما أمامهم، الخائفُ منهم مُقَصِّرٌ، والراجي مُتَوانٍ".
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه: "بهجة المجالس": كان يُقال: من خاف اللهَ ورجاهُ، أمنه خوفَه، ولم يُحرمْه رجاهُ.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلَنا من الذين يرجون رحمته، ويخافون عذابه، ونسأله -تعالى- العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر اللهَ.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالك يوم الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، جعل العاقبةَ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ من جمع بينَ الخوفِ والرجاءِ، وهو إمامُ المُتّقين، وسيدُّ المُرسلين، صلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
معشر المسلمين: لقد جمع اللهُ بين الخوفِ والرجاءِ، ليكونَ المؤمنُ معتدلاً في سيره إلى اللهِ، والدارِ الآخرةِ، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "في هذه الآية ترهيبٌ وترغيبٌ، أنَّ حسابَه وعقابه سريعٌ، فيمن عصاه وخالف رُسُلَهُ، وإنه لغفور رحيم، لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خير وطلب، ثم قال: جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر إنه سميع مجيب الدعاء"[تفسير القرآن العظيم 2 / 200].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلمُ المؤمنُ ما عندَ اللهِ مِنَ العقوبةِ ما طَمَعَ بجنّتِهِ أحدٌ، ولو يَعلمُ الكافرُ ما عندَ اللهِ من الرَحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أحدٌ"[رواه مسلم].
نسأل الله رحمته.
وقال بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله- في يوم جمعة: " لو قيل لي خذْ بيد خيرِ أهلِ المسجدِ، لقلتُ دُلُّونِي على أنصحهم لعامتهم، فإذا قيلَ هذا أخذتُ بيده، ولو قيل لي خذ بيد شرهم، لقلتُ دُلُّونِي على أغشِّهم لعامتهم، ولو أن مناديًا نادى من السَّماء: إنَّه لا يدخلُ الجنَّة منكم إلا رجلٌ واحدٌ، لكان ينبغي لكل إنسانٍ أنْ يَلْتَمِسَ أنْ يَكونَ هو، ولو أنَّ مناديًا نادى: إنَّه لا يدخل النارَ مِنكم إلا رجلٌ واحدٌ لكانَ ينبغي لكلِّ إنسانٍ أنْ يَفْرِقَ أنَ يكونَ ذلك الواحد" [نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 1 / 439].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله -تعالى-: يا آدم فيقول: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخيرُ في يديك، فيقول: أخرجْ بعثَ النارِ، قال: وما بعثُ النارِ؟ قال: مِنْ كُلِّ ألفٍ تسعَمائة وتسعةً وتسعين، فعنده يَشيبُ الصغيرُ، وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملَها، وترى الناسَ سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، قالوا يا رسول الله: و أيُّنا ذلك الواحد، قال: أبشروا، فإنّ منكم رجلاً ومن يأجوج و مأجوج ألفٌ، ثم قال: والذي نفسي بيده أرجو أنْ تكونوا ربعَ أهلِ الجَنَّةِ، فكبرنا، فقال: أرجوا أنْ تكونوا ثلثَ أهلِ الجَنَّةِ، فكبرنا، فقال: أرجوا أن تكونوا نصفَ أهلِ الجَنَّةِ، فكبرنا، فقال: ما أنتم في الناسِ إلا كالشعرةِ السوداءِ في جلدِ ثورٍ أبيضَ، أو كشعرةٍ بيضاءَ في جلدِ ثورٍ أسودَ"[رواه البخاري ومسلم].
نسأل الله -تعالى- أنْ يجعلنا من الذين يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار.
اللهم اجعلنا من الذين يرجون رحمتك، ويخشون عذابك، ونسألك اللهم عفوك، وغفرانك، ورحمتك، ورضوانك يا ربَّ العالمين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم على عبدك، ورسولك نبينا محمد، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك، وإحسانك، ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلامَ وانصرِ المسلمين، وأذلّ الشركَ واخذل المشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، وسائرَ بلادِ المسلمين.
اللهم أصلحْ ولاةَ أمرِنا وولاةِ أمورِ المسلمينَ.
اللهم وأصلح بطانتهم ومستشاريهم، اللهم ووفِّقْ مُخلصَهم، وادحر مُبْطِلَهم، اللهم احفظْ علينا أمنَنا وإيمانَنا، واسترْ عوراتِنا، وآمن روعاتنا، وأعذنا اللهم من غلبةِ الدينِ، وقهرِ الرجالِ، وشماتةِ الأعداءِ، ونسألك اللهم خشيتَك في الغيبِ والشهادةِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي