من دعا إلى الله فهو على سبيل رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو على بصيرة وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، وليس على بصيرة ولا هو من أتباعه، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته، لهم من حفظ الله وعصمته إياهم، بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا...
أيها الإخوة المؤمنون: إن من أبجديات التفكير والبدهيات في عقل كل إنسان: أن الله أوجد الخلق من العدم، وغذاهم بالنعم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].
كل ذلك ليقوموا بعبادته على المنهج الذي شرعه من خلال إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
وتم وعد الله، فأشرقت الأرض بشمس الهدى، ودخل الناس في دين الله أفواجا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
فكان لا بد لهذا الدين الذي كمل من عناية، ولتلك النعمة التي تمت من رعاية لذلك، فقد حمل الله الأمة مسؤولية هذا الدين الذي ارتضاه بالتمسك به، وتطبيقه في جميع شؤون الحياة في العبادات والمعاملات، والجنايات والعلاقات الدولية، سواء في ذلك الفرد والأسرة، والمجتمع والدولة، حكاما ومحكومين.
فبعد أن بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرسالة، وأدّى الأمانة، أشهد الأمة على ذلك، وأشهد الله عليهم؛ ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله في خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم عرفة في حجة الوداع أنه قال للناس: "وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد".
ومع ذلك فقد أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ عنه؛ كما في الحديث الذي رواه البخاري: "بلغوا عني ولو آية".
والحديث الآخر: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها".
ومن هنا جاءت أهمية الدعوة إلى الله؛ لأنها وظيفة الرسل وأتباعهم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "فمن دعا إلى الله فهو على سبيل رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو على بصيرة وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، وليس على بصيرة ولا هو من أتباعه، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته، لهم من حفظ الله وعصمته إياهم، بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم -جعلنا الله منهم بمنه وكرمه-" ا. هـ.
ثم حمل الخلفاء الراشدون من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمانة، وواصلوا السير بالدعوة إلى الله على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، ففتحوا البلاد بالحجة والبيان قبل السيف والسنان، ووصل الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، وظلت الدعوة إلى الله هي الهمُّ الأكبر، والشغل الشاغل؛ للمسلمين، حتى طال الأمد، وضعف الوازع، وفتر الدعاة، وظهرت دواعي الهوى، فكان لا بد من بعث الهمم إلى الدعوة الله، وبث روح الاعتزاز بالدين، خصوصا مع الصحوة المباركة التي نعيشها بحمد الله.
يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "لن يُصلحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلحَ أوَّلَها".
عباد الله: إن الدعوة إلى الله -تعالى- ضرورة شرعية دل عليها الكتاب والسنة، بل لقد نبهت الكتب السابقة قبل نزول القرآن الكريم على أن شعار هذه الأمة، هو الدعوة إلى الله؛ كما جاء في قوله عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ) [الأعراف: 157].
فقد قدم الله -تعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما أساس الدعوة، قدمهما على تشريع الحلال والحرام.
ومما يؤكد أهمية الدعوة إلى الله -تعالى-: أن الله جعلها قسيمة الجهاد في سبيله، كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً) [التوبة: 122].
فقد سمى الله الخروج في طلب العلم لتعلمه وتعليمه نفيرا، وجعله مقابلا للذين ينفرون للجهاد في سبيله.
كما أن الله -تعالى- جعل الدعوة من وسائل التمكين في الأرض، قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ) [الحـج(41].
وأعظم فضائل الدعوة على هذه الأمة، هي: الخيرية المطلقة التي نالت بها قصب السبق على كل الأمم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران: 110].
لأن نفع الناس وتعليمهم الهدى والخير من أعظم الأعمال التي يحبها الله -جل جلاله-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ) [فصلت: 33].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي - رضي الله عنه -: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"[متفق عليه].
عباد الله: وإن من بركة الدعوة إلى الله ما يكون لها من آثار طيبة من رجوع إلى الحق، والعمل به، وانتشار الخير، واندحار الشر وأهله.
وإن أعظم الآثار قاطبة ما يعيشه المسلمون إلى يوم القيامة من إيمان بالله، وتوحيد خالص، وخروج من الظلمات إلى النور؛ ببركة دعوة سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، ثم أتى الصحابة من بعده عليه الصلاة والسلام، ودعوا إلى الله فكانت لدعوتهم آثار عظيمة، فإنهم قد نشروا الإسلام شرقا وغربا، ثم جاء من بعدهم من السلف.
وهكذا توالت الدعوات المباركة، حتى جاءت الدعوة الإصلاحية المباركة في هذه البلاد التي لا يخفى على أحد ما كانت عليه من الجهل والضلال، وعبادة غير الله، والطواف بالقبور، فقام الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب التميمي -رحمه الله- بدعوة الناس، وبيان الحق لهم، بمساعدةٍ وتأييد من الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، حتى عمَّ الخير أرجاء البلاد، ونعمت بالتوحيد من جديد.
ومنذ تلك الانطلاقة المباركة وهذه الدولة في سائر عهودها، وعلى تتابع ولاة أمورها ترعى الدعوة إلى الله، وتذلل العقبات في طريقها، ولا أدلّ على ذلك من إنشاء وزارة تحمل اسم الدعوة.
فأمْرُ الدعوة إلى الله -تعالى- لا يقل أهميةً عن الأمور التي يحتاجها الناس، والتي أقيمت لأجلها الوزارات.
فنسأل الله أن لا يغير علينا نعمته، وأن يحفظها علينا، وأن يديم على هذه البلاد أمنها وتوحيدها، ودعوتها، وسائر بلاد المسلمين.
إن الدعوة إلى الله -تعالى- يقصد بها كل ما فيه ترغيب في الدعوة إلى دين الله، والتمسك به، ويجمل ذلك، ويوضحه قول الله -تبارك وتعالى-: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125].
فسبيل الله هو الإسلام وهو الصراط المستقيم، هو الذي يجب الدعوة إليه لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان، ولكن إلى دين الله الذي بعث به محمد -عليه الصلاة والسلام-، وعلى رأس ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، وتوحيد الله بالعبادة، والإخلاص له.
ويدخل في ذلك الدعوة إلى ما افترض الله على العباد من واجبات؛ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن النكر، والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات، والحرب والسلم، وفي كل شيء؛ لأن دين الله -عز وجل- شامل يشمل مصالح العباد، والمعاش والمعاد، ويشمل مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال؛ يشمل الأخوة الإيمانية، والجمع بين المسلمين، والتأليف بينهم.
إذا فالمقصود من الدعوة: إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار ومن غضب الله، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى نور والهدى، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة.
وبعد أن بين الله -تعالى- في الآية المتقدمة المقصود بالدعوة: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ).
بين شيئاً من أساليب الدعوة، فقال: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
فبين الكيفية التي ينبغي أن يتصف بها الداعية ويسلكها، فإنها تكون أولاً: بالحكمة.
والمراد بها الأدلة المقنعة الموضحة للحق، وأعظم ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، وهذا الأسلوب إنما يكون لمن كان طالبا للحق محبا له، فإن كان عنده جفاء وشدة فينتقل معه إلى الأسلوب الآخر، وهو: الموعظة الحسنة، وهي الموعظة بالترغيب والترهيب، فإن كان معاندا معارضا فينتقل معه إلى الأسلوب الآخر، وهو: المجادلة بالتي هي أحسن أي الذي لا يكون فيها غلظة أو فضاضة؛ لأن هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو.
عباد الله: إن من المعلوم أن للوسائل أهمية كبيرة في تحقيق المقاصد، وإن أعظم مقاصد الدعوة إلى الله -تعالى- تبليغ رسالة الإسلام، ونشر الخير.
وإن الوسائل المحققة لهذا المقصد العظيم كثيرة لا حصر لها، لذا كان من الضروري أن يتعرف الناس عموما، والدعاة إلى الله خصوصا، على أفضل الوسائل لتبليغ دين الله -عز وجل-، لا سيما ونحن نعيش في زمن تطورت فيه الوسائل، وأصبح العالم؛ كالقرية الواحدة.
ومن هذا المنطلق: اهتمت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بأمر وسائل الدعوة، فأقامت معرضاً سنوياً انطلق منذ عشرة سنوات يهتم بوسائل الدعوة، فهو حري بالزيارة والاطلاع.
فنسأل الله أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي