كثير من الناس اليوم قلت مراقبتهم لألسنتهم، وضعف تذكرهم ليوم معادهم، فلم يعد الواحد من أولئك يبالي بما يخرج من لسانه، فتراه يتكلم بالكلام العظيم المفسد لأمر الدنيا والدين، وهو يضحك ويمرح، وما ذلك إلا لقسوة قلبه، وغلبة هواه، وعدم محاسبته لنفسه. وإليكم...
أما بعد:
إن من نعم الله على الإنسان وآلائه التي امتن بها عليه: أنْ علمه البيان، فقال سبحانه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1 - 4].
وقال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8 - 9].
فامتن عليه بأن جعل له لسانا يعرب به عما في نفسه، بلا مشقة ولا كلفة.
ومع عظم شأن المنة باللسان إلا أنه أيضاً شديد الخطر، فرب كلمة تصدر منه تهوي بصاحبها في جهنم سبعين سنة؛ كما ثبت في الحديث، بل إن أكثر أهل النار يدخلون النار بسبب ألسنتهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم".
لهذا كان من الواجبات المؤكدة على كل مسلم: أن يحترس من لسانه، فلا يتكلم إلا بخير، فإن لم يجد كلمة خير فليصمت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
وقول الخير: كل كلام تترتب عليه مصلحة دينية أو دنيوية، وقول الخير يتفاوت منه المباح والمستحب والواجب.
وكثير من الناس اليوم قلت مراقبتهم لألسنتهم، وضعف تذكرهم ليوم معادهم، فلم يعد الواحد من أولئك يبالي بما يخرج من لسانه، فتراه يتكلم بالكلام العظيم المفسد لأمر الدنيا والدين، وهو يضحك ويمرح، وما ذلك إلا لقسوة قلبه، وغلبة هواه، وعدم محاسبته لنفسه.
وإليكم نماذج مما تقع فيه المخالفات الشرعية بشكل ظاهر في كثير من المجالس:
فمنها: القول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].
وقال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116 - 117].
وفي هاتين الآيتين بيان واضح أن من أعظم الآثام وأخطرها: أن يقول العبد في دين الله ما لا علم له به، فيحرم أو يحلل دون حجة ولا برهان، إنما بمجرد التخرص والظن، فما إن يطرح سؤال في المجلس حتى تجد عامة المجلس يصرخون ما بين محلَّلٍ ومحرِّم.
يا عباد الله: إن دين الله ليس بلعبة يتلاعب به من شاء، فلا ينبغي للسائل أن يسأل إلا أهل العلم والاختصاص، والمسؤول إذا لم يكن له علم من كتاب الله أو سنة رسوله مطلعاً على اختلاف العلماء، فلا يحل له أن يجيب، بل عليه أن يقول: الله أعلم.
لقد كان خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين يتدافعون الفتوى كل منهم يحيل السائل على أخيه، حتى يرجع السائل إلى الأول، خوفاً من الله، وتهرباً من تبعة القول على الله -عز وجل-، وكانوا أعلم الناس وأفقه الناس.
أيها الإخوة: هل يرضى أحدكم أن يعالج مرضه عند متخصص في الكهرباء أو في السباكة مثلاً؟
لا ترضون، فكيف تأخذون دين الله عن غير أهل الاختصاص؟
إن الله -عز وجل- أحالنا عند الجهل إلى أهل الذكر، فقال: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
فإذا سمعتم من يسأل عن أمر ديني، وليس في المجلس عالم، فقولوا له: سل أهل العلم، ولا تسألنا، فأنتم بهذا التوجيه تنفعونه، وتنفعون أنفسكم.
ومن آفات المجالس: الخوض في قضايا السياسة، وأخبار الدول، وقضايا السلم والحرب والاقتصاد، وغير ذلك من الموضوعات التي لو فكر العاقل لعلم أنه يخوض في ما لا يعنيه، وفي الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
يا عبد الله: إن الله لن يسألك يوم القيامة عن هذه القضايا، ولكن ستسأل عن ثلاث: عن ربك، ونبيك، ودينك.
وستسأل بعد البعث عن عمرك فيما أفنيته، وعن شبابك فيم أبليته، وعن علمك ماذا فعلت فيه، هل عملت به أم خالفته؟ وعن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته.
إنك ستسأل يوم القيامة ماذا كنت تعبد، وبم أجبت الرسول -صلى الله عليه وسلم، فهذه هي القضايا الكبرى الحقيقية المصيرية التي يجب الاشتغال بها، والسعي الجاد في إعداد الجواب الصحيح لها.
ثم يكفي المسلم أن يعلم أن الخطر الأكبر الذي يهددنا ليس هم اليهود ولا النصارى، ولا الدول الكبرى ولا الصغرى، ولا النفط ولا المياه، وإنما الخطر الأكبر هي أنفسنا، حين تأمر بالسوء فنتبع أمرها؛ لأن الله -عز وجل- لن يسلط علينا عدواً ولا مرضاً ولا مصيبة إلا بسبب ذنوبنا؛ كما قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [الشورى: 30 - 31].
إلى غير ذلك من النصوص القاطعة الدالة على أن الله إنما يسلط العدو والبلاء على المسلمين بسبب ذنوبهم، فإذا آمنوا واتقوا وأصلحوا أنفسهم، وأقلعوا عن كل ما يغضب الله، وحققوا أسباب النصر والعزة، فليبشروا، قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحـج: 40].
وقال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2- 3].
ثم إن مصادر هذه الأخبار التي يتداولها كثير من الناس، هي في غالبها -إن لم تكن كلها-مصادر مأخوذة من كفار لا يتورعون عن كذب، أو من قوم مغرضين مدسوسين يقومون ببذر أسباب الشقاق والنزاع، وإثارة الفتن، وزرع الكراهية بين المجتمعات الإسلامية، وحكوماتها، ولا سيما هذه البلاد -حرسها الله-.
فهل تتوقع من عدو كافر أن يصدق معك؟ أم هل تتوقع من مغرض حاسد أن ينصح لك؟
إنهم لا يعطونك من الأخبار إلا ما يعلمون أنه لا يكشف لهم خطة، ولا يمسهم بسوء.
إنهم لا يعطونك -وهم يضمرون لك العداوة- إلا ما يضرك ولا ينفعك، أو لا يضرك ولا ينفعك.
لقد جاءت القنوات الفضائية، فبهرت كثيراً من الناس بأخبارها وتحليلاتها، فظنوا أن كل ما فيها حق وصدق، ولذلك يحفظونها وينقلونها في مجالسهم مقتنعين بها، وكأنها قرآن منزل، وهذا غلط كبير، غلط في متابعتها، وغلط في تصديقها، وغلط في نشر أخبارها؛ لأن مفاسد هذا التصرف أعظم من مصالحه بكثير.
أيها الإخوة: إن القضايا المتعلقة بالأمة لا يجوز أن يتكلم فيها كل أحد، وإنما ترد إلى أولي الأمر من العلماء والحكام، فيصدر فيها العلماء الحكم الشرعي المناسب، ويتخذ الحاكم فيها القرار المناسب، أما إشاعتها في المجالس بين عوام الناس، فهذا غلط، وقد جعله الله من صفات المنافقين، فقال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) من الأمن أو الخوف أذاعوا به) أي نشروه وشهروه، ثم أدب الله المؤمنين، فقال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) أي في حياته: (وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم العلماء والأمراء: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
أي الذين يقدرون هذا الخبر قدره، ويدركون صدقه وكذبه، ويقدرون المصلحة في نشره، أو كتمانه، هذا هو الأدب الشرعي المتعلق بالأخبار التي لها شأن عام، وما أكثر ما يقع الناس في مخالفته هذه الأيام إلا من رحم الله.
فاتقوا الله -عباد الله- واحفظوا ألسنتكم، فإنها أكثر ما يكب الناس في نار جهنم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم...
أما بعد:
تتردد في بعض المجالس كثير من الأخبار السيئة المتعلقة بأولي الأمر، من كبار العلماء والحكام، فهل سألت نفسك هل هذا العمل حلال أم حرام؟ وما هو موقفك منه؟
أولاً: الغيبة محرمة بنص الكتاب والسنة والإجماع، وإذا كانت الغيبة متعلقة بالعالم أو الحاكم كان وزرها أعظم؛ لأن فسادها أكبر، فإن فساد علاقة الناس بعلمائهم يؤدي إلى فساد دينهم، وفساد علاقتهم بحكامهم يؤدي إلى فساد دنياهم.
والشرع إنما جاء لتحقيق مصالح الدين والدنيا.
ثانياً: أمرنا الله -عز وجل- بالنصح لأئمة المسلمين، وهم العلماء والحكام، والنصح لهم لا يكون بنقل كلام السوء عنهم، ولو كان حقاً، ولكن بحفظ أعراضهم وصيانتها، ونشر الجميل من محاسنهم وفضائلهم، وستر السيئ من معايبهم وهفواتهم، وبالدعاء لهم، وتأليف القلوب عليهم، حتى تجتمع عليهم الكلمة، ولا يحصل الاختلاف والنزاع والشقاق، وقد نص على ذلك جمع كثير من أهل العلم.
ومن رأى خللاً وأراد إصلاحه، فيكون ببذل النصح لهم مباشرة، أو رفع هذا الأمر إلى من يقدر على الوصول إليهم، وإبلاغها لهم، فإن عجزت عن الأمرين جميعاً، فأمسك عليك لسانك.
كان أبو بكرة -رضي الله عنه- في الجامع، فلما قام الأمير يخطب الجمعة، قال أحد الخوارج بصوت مسموع: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق؟ فقال الصحابي الجليل الذي تربى على يدي محمد -صلى الله عليه وسلم-: اسكت، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله" [رواه أحمد وغيره بإسناد حسن].
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن ليخلُ به، وليأخذ بيده، وليكلمه فيما بينه وبينه" [الحديث رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني].
ولما أشاع بعض الناس من أهل المكر، أو من أهل الجهل؛ أشاعوا في عثمان قول السوء مما هو بريء منه، كرهته قلوب جماعة من الناس، فقدموا المدينة وقتلوه -رضي الله عنه-، وحصل بسبب ذلك فساد عظيم.
فالواجب -إخوة الإسلام-: ألا تأذنوا لأحد في مجالسكم أن يطعن في كبار العلماء، أو الحكام أو الأمراء؛ لأنه إثم، وإن رضيتم بكلام المتحدث فأنتم شركاؤه، بل افعلوا معه كما فعل أبو بكرة -رضي الله عنه- مع ذلك الخارجي.
ثم إن كثيراً من كلام الناس يتعلق بالغضب للدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بالصبر عند حصول الأثرة، والنقص في أمر الدنيا، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" ثم ذكر الثالث فقال: "ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف".
وفي رواية: "إن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط" [متفق عليه].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله، قالوا: "لا تسبوا أمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإن الأمر قريب" [رواه ابن أبي عاصم والبيهقي بإسناد حسن].
فاحمدوا الله على نعمة الإسلام، واجتماع الكلمة، ورغد العيش، واستتباب الأمن، وظهور الشريعة، وتحكيم الكتاب والسنة، فأنتم في كيان لا مثيل له، بل أنتم محسودون عليه، ولكن أعداء التوحيد والسنة يريدون إفساد هذه النعمة، فاحذروا مكرهم، وإن خرجوا عليكم بلباس الناصح الأمين.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي