كشف حساب

عاصم محمد الخضيري
عناصر الخطبة
  1. سنة مضت من عمرك .
  2. قصة تدوين التاريخ الهجري .
  3. ما الذي أضفته خلال مسيرة عام كامل؟ .
  4. حرص السلف على عمارة أوقاتهم في النافع المفيد .
  5. الأصول الأربعة لأي فساد في كل زمان ومكان .
  6. الحث على اغتنام الأعمار في الباقيات الصالحات. .

اقتباس

ضياع الوقت أشد من الموت.. قدم كشفك الحسابي عن مجموع الحصيلة الكلية للأرباح والخسائر الإيمانية والعلمية، والأخلاقية والسلوكية والدعوية لمجموع عام كامل، بل في كل الأعوام والأيام السابقة.. لا بد أن يكون هناك جرد حسابي دقيق نقدّمه بين الفينة وأختها، نحسب فيه أرباحنا وخسائرنا في تلك الأيام المنصرمة، ونضع فيه قوائم معلومة عن المكاسب والهزائم والانتصارات، ونقوّم فيه مسيرة طويلة مفعمة بالأحداث والملمات في جميع مجالات الحياة.. أعمار ضائعة وليال تائهة، وأصحابها سامدون، والله أعلم بما يوعون.. أتحدث عن هذه الأعمار المسروقة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدَّر فهدى، وأخرج المرعى، وإليه الرجعى، الحمد له فلولاه ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، ولم ينزل هديه علينا ولا لشرعة الهدى سلكنا ولا إليه جهرة أنبنا، ولا لداعي الحق قد أجبنا، فاغفر لنا اللهم إنا تبنا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين له بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

سنة مضت..

وكذا السنين..

مضيُّها طيف بسرعته خفت..

تمضي.. وتحكي كل حادثة سرت..

تمضي.. وقد كتبت من العجب العجاب وسطرت..

تمضي.. وتفشي سرها..

وتنوح لو هي أسمعت..

يا صاحِ.. قد بُحّت حبال الصوت..

بل هي بالصراخ تمزقت..

وتقول لي..

أمضي عليك.. وأنت في الغفلات..

قد منَّيت نفسك ما اشتهت..

أمضي عليك..

وجعبتي ملأى..

وفي أحشائي الحرّى.. تجارب هذه الدنيا

وأنت.. أنت لا قلب وعى عبراً...

ولا أذان صغت..

قد جاعت الأيام فيك لكنها لم تشبع، ومن دم عمرك الدفاق أيضًا ما ارتوت

حتى ما يمضي كل هذا الوقت، وأنا الذي ما زلت أعرفك  الذي من حقبة مرت عليك

وأنت أنت مرت عليك سنون عمرك ما تغير أي شيء فيك هو أنتَ أنت..

العقل نفس العقل والعلم ذات العلم هو أنت أنت..

لكنما جسم بغير الجسم أعرفه..

أواه من نفس توفي حسها، توفي عمرها وهي التي تتنفس التضييع..

أواه من نار بقلبك قد خبت..

هذه الأيام تمضي وهي مسرعة وكل يوم مضى يدني من الأجل..

هذه الأزمان تقول بملء فيها: حذاري حذاري من بطشي وفتكي.

والمؤمن كل أيامه واحدة في قربه ودنوه من ربه، فسيان أول العام وآخره، وسيان شوال وصفر وذو الحجة ورجب كل ساعاته فرار في فرار، فرار إلى الله لا عن الله..

 سنة مضت عام أتى.. ما هذه الأيام إلا دورة عمرية فيها العظات تبرجت

ورحى الحقيقة تطحن والناس مثل القمح من لم يصله الدور هذا الحين في طحن ففي الدور الجديد سيطحن..

عام مضى سنة أتت..

 ثم أما بعد.. حدود آخر العام وأوله لم توضع إلا وسيلة لتنظيم الدورة السنوية وليست رسمًا عباديًّا أو عمليًّا يبتدئ به عمل أو ينتهي.

سنة مضت..

كتب أبو موسى الأشعري -رضي الله تعالى- عنه إلى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ يا أمير المؤمنين لمبعث النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

 وقال بعضهم: بل أرّخْ يا أمير المؤمنين بهجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال عمر: "بل نؤرخ لهجرة رسول الله؛ فإن هجرته فرقان بين الحق والباطل"، قال ذلك الشعبي وغيره.

قال ميمون بن مهران: "رُفع إلى عمر صكّ محلّه شعبان، فقال: أيّ شعبان يريدون؟ أشعبان الذي هو آتٍ أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثمّ قال لأصحاب رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين، لكن بعضهم أبى هذه الفكرة، وقال: هذا يطول علينا، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقال بعضهم -وقد ردَّ الفكرة-: إن الفرس كلّما قام ملك طرح تاريخ مَن كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-".

ثم قالوا من أي الشهور؟ قالوا: من رمضان، ثم قالوا: اكتبوه من شهر الله المحرم فهو منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام، ثم أجمعوا عليه.

تلك كانت قصة تدوين التاريخ الهجري فلم تكن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر الله المحرم، ولكن هو اتفاق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع أصحابه -رضوان الله عليهم- أن يجعلوا تدوين ابتداء التاريخ في بدء شهر الله المحرم، واستبان من هذا أن تخصيص أول العام الهجري أو آخره بعبادة مخصوصة فيه هو مما أحدثه المحدثون.

سنة مضت.. عام أتى.. والله يخلف ما مضى

ماذا هنالك؟!  كم هنا حدث جرى!!

كم من صغير مات أو رجل قضى!!

كم نكسة حدثت لنا !!  كم عبرة مرت بنا!!

كم فرحة كتبت لنا!!  كم من حزين ضاحك!  كم من سعيد قد بكى! ماذا جرى؟

سنة مضت عام أتى.

لا بد أن يكون هناك جرد حسابي دقيق نقدّمه بين الفينة وأختها، نحسب فيه أرباحنا وخسائرنا في تلك الأيام المنصرمة، ونضع فيه قوائم معلومة عن المكاسب والهزائم والانتصارات، ونقوّم فيه مسيرة طويلة مفعمة بالأحداث والملمات في جميع مجالات الحياة.

الأمة القوية هي التي لا يغض من قدرها أن تعترف أنه في يوم مضى كبا حصانها، وتعثر في حلبة السباق، وأن تعترف أنه في يوم من الأيام مضى سيفها وتكسر في إحدى ساحات النزال.

كم عدد الهزائم التي مُنيت بها هذه الأمة في مسيرة عام كامل؟

كم حجم الانتصارات التي تضمخ تاريخها بها، وشرفت بها دواوينها، وكم قدر التضحيات التي سكبتها في ميادين العطاء المتنوعة؟

وكم حجم الأخطاء التي وقعنا فيها ولم نفق من أزمة البحث في دائها ودوائها؟

الأمة القوية هي التي لا تأنف من تقديم جرد حسابي شامل دقيق على كل المستويات الفردية والأممية، وفي كل الجوانب النفسية والعلمية، والشرعية والسياسية، والدعوية وجميع المجالات.

هذا الجرد الحسابي ما لم تتدرب عليه الأمم والحضارات والأفراد بشكل مدروس فلن تنهض من كبواتها، ولن تلتئم نبوات سيوفهم، ولم تستفد من حجم هذه الدروس الهائلة التي يمكن أن تخرج بها.

سنة مضت، عام أتى، والله يخلف ما مضى..

سأحدثكم في هذا المقام عن المستوى الفردي، ما الذي أضفته لنفسك أيها الفرد المسلم في مسيرة عام كامل؟

هل تغير شيء فيك؟ هل زدت على نفسك شيئًا؟ هل زوّدت أمتك منك؟ هل حاسبت نفسك على حجم الإنفاق الهائل للدقائق والساعات بل والشهور التي لم تتقدم فيها أنملة إن كنت لم تتأخر بها؟

ما هذه الأيام والليالي التي تضيع منك هدرًا وتموت سدى؟!

يجب أن نكون صرحاء جدًّا في موضوع كبير كالحديث عن الزمن وضياعه، كم هي أحجام الأوقات المهدرة التي لا تعود علينا ولا أحد بمصلحة دين ولا دنيا؟!

كم عدد المجالس التي عقدناها مع أصحابنا! فكان أكثرها طيرةً علينا وحسرة على مستقبل أعمالنا، بل وعلى أدياننا وأفكارنا وإيماننا وعدد الجلسات التي أصبحت مكانًا للتحزب والتعصب والتهاتر والتراشق بين الأصحاب؟!

كم مجلس غيبة؟! كم مجلس ريبة؟! كم مجلس بهتان؟! كم ضاعت أزمان؟!

شلالات من الزمن تقول آه على الرحيل ضاع الزمان بلا دليل، فكأننا موت ونحن نشم من الحياة هوى عليلاً.

وفي حين أصبح شعار كثير من هذه المجالس: اجلس بنا نضيع ساعة، وكأن الله لم يجعل الليل والنهار آيتين للناس، ولم يقسم بالعصر والضحى وبالفجر والليل.

ضياع الوقت هو أشد من الموت كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "لأن الموت يحجبك عن الناس، وضياع الوقت يحجبك عن الله والدار الآخرة".

قدم كشفك الحسابي عن مجموع الحصيلة الكلية للأرباح والخسائر الإيمانية والعلمية، والأخلاقية والسلوكية والدعوية لمجموع عام كامل، بل في كل الأعوام والأيام السابقة.

لا تملك وأنت تريد أن تدخل العام الهجري الجديد إلا أن تتذكر ثمن الأوقات عندنا وعندهم، وهذه النفائس المهدرة التي تقول لنا مساء وصباح: حذارِي حذاري من بطشي وفتكي، أعمار ضائعة وليال تائهة، وأصحابها سامدون، والله أعلم بما يوعون.

أتحدث عن هذه الأعمار المسروقة، ثم لا أجافي الحقيقة، وأنا أتحدث عن الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو يطلق دورة تدريبية عملاقة في حفظ الوقت يقول فيها: "أثقل الساعات عليّ هي ساعة آكل فيها أو أشرب فيها، وكم من الوقت الذي يضيع هدرا بها".

أم أنك تتحدث عن عبيد بن يعيش -رحمه الله- وقد عاش أكثر من ثلاثين سنة لا يأكل بيديه؛ كانت أخته تلقمه وهو يكتب الحديث؛ كي لا يضيع وقته.

هذا العام المنصرم سيذكرنا بفضل بن يونس -رحمه الله- عندما رأى يومًا محمد بن النضر حزينًا كئيبًا، فقال له: ما شأنك حزين كئيب؟ قال: محمد بن النضر: "مضت الليلة من عمري، ولم أكتسب شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون".

ونحن نردد أيضًا معه: إنا لله وإنا إليه راجعون على مجازر يومية نرتكبها في حق الزمن لم نخرج منها إلا بالسبهللية لا في عمل دين ولا في عمل دنيا.

إذا كان عمر الإنسان ستين سنة يذهب ثلثها بالنوم، وخمسها بالأكل وبالشرب، وثلثها بالاسترواح، كم سيبقى منها؟! سيبقى خمسة عشر سنة، هل هي زاد حقيقي؟!

تحت فؤادك الأيام فتّا *** وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صدق *** ألا يا صاح أنت أريد أنت

أراك تحب عرسا ذات غدر *** أبت طلاقها الأكياس بت

تنام الدهر ويحك في غطيط *** بها حتى إذا مت انتبهت

يروح اليوم والأيام دهرا *** ولم أرك اغتنمت ولا انتفعت

وتذبح علق وقتك بالتناسي *** وإهدار الزمان وما أسفت

تربص وانتظر فلسوف يأتي *** زمان يشتوي غضبا ومقت

إذا أرداك وقتك في مهاوي *** فليتك ثم ليتك ما حييت

قيل عن حماد بن سلمة أنه لو قيل له إنه يموت غدًا ما قدر أن يزيد في عمله شيئًا.

ما كنا نتكلم عن خيال أو شبه خيال، فأرواح كأرواحنا، وطينة كطينتنا، ولكن إحساسهم بالزمن ليس كما نحس به، أن يستوقف أحد البطالين أحد الأئمة ليقول له: "يا إمام أريد أن أجلس معك نتحدث قليلاً". فقال له: "أمسك الشمس في السماء عن المسير حتى أجلس معك".

نعم هذه الخطبة لم تأتِ لمحاسبة تقصيرنا في آخر العام، أو التذكير بعبادة أو ذكر، أو استغفار، فتخصيص ذلك في أوله أو آخره لا دليل عليه، ولم تأتِ الخطبة لتزعم أن صحائف هذا العام ستطوى هذا اليوم أو باليوم الذي يليه، ولكنها أتت لتقول: هل نحن نحس بالزمن؟ هل نحن نشعر به؟ إذاً نحن أحياء وإنما الميت ميت الأحياء كما يقول أبو تمام. وصدق شوقي حين قال:

دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني

الحياة السوية هي الحياة التي نشعر بها أن أعمارنا هي معركة يومية ندافع بها الآجال وكل يوم يذهب منا بعضه سيذهب كله.

أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من إضاعة الأوقات، ومن منع وهات، ومن درك السيئات والخطيئات؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 أما بعد: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَةِ" أي: كاحتراق الخوصة.

كان كثير من السلف بل وكثير من المعاصرين أيضًا -وأخبارهم مشهورة- شديدي الحرص على أوقاتهم كثيري الظن بأعمارهم أعرف وتعرفون، أعرف أن الفضيل بن عياض قال يومًا: "أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة حفظًا لوقته"، وأعرف أيضا وتعرفون أن داود الطائي -رحمه الله- كان يستفّ الفتيت، ويقول: "بين سفّ الفتيت وأكل الخبز مقدار قراءة خمسين آية"، ضنًّا بعمره أن يأكله الخبز.

فضول الأكل وفضول الكلام، وفضول النوم، وفضول مخالطة الناس هي الأصول الأربع لأي فساد في أي زمان ومكان، وهي القاضيات على كل مشروع جاد ومحرقة للأعمار.

ذكروا أن ابن الجوزي -رحمه الله- كان يستعيذ بالله دوما من صحبة البطالين، ويقول: "تعوذوا بالله من صحبة البطالين"، ويتعوذ منهم ويقول: "لقد رأيت خلقًا كثيرًا يكثرون الزيارة، ويطيلون الجلوس، ويطيلون أحاديث الناس، وما لا يعني، ويتخلله غيبة".

ويقول رحمه الله: "ما أكثر البطالين؟!"، ثم إنه -رحمه الله- أعد خُطة محكمة للقضاء على تضييع الأوقات مع البطالين، يقول ابن الجوزي: "أقمت أعمالاً لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان، فجعلت للقائهم، قصّ الورق، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر".

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع

إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى *** ولم أستفد علما فما ذاك من عمري

سنة مضت عام أتى..

كان من يسمع أخبارهم وشذرات مما يروى عنهم يعد ذلك تطرفًا وتشددًا ومغالاة وغلوًّا، وأين ما يكن من ذلك فإنها دلالة أكيدة على أنهم يعرفون أعمارهم حق المعرفة، وأنها أنفس ما يملكون، وإلا فمن يصدق أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة -رحمهما الله جميعا- قد توفي أحد أولاده يومًا فلم يذهب لتجهيزه ولم يذهب لدفنه، وإنما أوكل مهمة ذلك لأحد أقربائه، وأما هو فقد ذهب يحضر درس أبي حنيفة مخافة أن يفوته منه شيء، ولا تذهب نفسه حسرات عليه، وقد لازم -رحمه الله- أبا حنيفة 29 سنة لم يخرم منها حرفًا واحدًا، لم يخرم منها يومًا واحدة، هل هو تطرف وتشدد؟!

إذًا اسمع تطرفًا من نوع آخر..

أبو يوسف -رحمه الله- يباحث في مسألة فقهية، قال تلميذه القاضي إبراهيم الجراح: مرض أبو يوسف فأتيت أعوده فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال يا إبراهيم: ما تقول في مسألة كذا؟ قلت في مثل هذه الحالة يرحمك الله؟! قال: وما بأس بذلك لعله أن ينجو به ناجٍ، ثم قال: يا إبراهيم أيما أفضل في رمي الجمار أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ قلت: راكبا، قال: أخطأت، قلت: ماشيًا. قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك. قال: أما  ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل فيه أن يرميه ماشيًا، وما لم يوقف عنده للدعاء فالأفضل راكبًا، ثم قمت من عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات -رحمه الله-.

الوقتُ  أغلى من الياقوتِ والذهبِ *** ونحن نَخسرهُ في اللهوِ واللعبِ

والفوتُ مقترِبٌ والموتُ مرتقِبٌ *** والحالُ  منقلِبٌ والناسُ في لعبِ

إنّهُ الوقتُ، الذي يمضي بنا *** نحوَ غاياتٍ لهُ، لا نفهمُ

إنّه كالسّيفِ ماضٍ حدُّهُ *** ما مضى منهُ فصولٌ تُختَمُ

فليكُنْ وعيٌ – لدينا – مُدركٌ *** ما لهُ أو ما عليهِ، فاعلموا

فرصةٌ إنْ أقبلتْ في لحظةٍ *** تحملُ البُشرى، علينا نُقدِمُ

إنّ للوقتِ اعتباراتٍ، متى *** جاءتِ الأحداثُ أمراً يَعظمُ

سيبدأ عام جديد ثم ماذا؟ هل هناك خطة محكمة مكتوبة لقضاء الأيام القابلة بما ينفع؟ وهل لدينا القدر الكبير من المسئولية تجاه قيمة عظيمة كالزمن؟ أم أن العادة مستحكمة فنحن نحب الأشياء التي تأتي عبر المصادفة والعشوائية والعفوية؟

سيبدأ عام جديد يعجبني شباب ورجال إذا سيموا خطة خسف بأوقاتهم قالوا بملء أفواههم.. لا، ويعادون بأوقاتهم بل ويتبرءون من كل لصّ في ثياب صديق يسرق من أعمارهم ما يشاء.

إنك تجد أن نظام الفزعة في حياتنا متجذرة بأعظم صورة، ستجد أن كثير منا لا يمكنه أن يجد حرجًا بخروجه مع أصحابه بأيّ ساعة من ليل أو نهار بأدنى إشارة وبلا سابق موعد، وقد يذهب اليوم واليومان وقد قضاها فيما لا ينفع، وقد يغره على المدى الطويل والقصير، وربما يترك واجبات ونحوها.

ما أحوجنا إلى مفهوم الولاء والبراء وتنزيله على قيمة كبيرة من الزمن حمايةً لحمى الأعمار أن تُنهَب منا في غير صالح القول والعمل.

أعرف في هذا العام الذي سينقضي مجاميع شبابية هائلة في هذه البلدة وغيرها كل أحاديثها عن أخبار الكتيبة الفولانية، أو أخبار الجماعات الأخرى، وعن الخطأ الكبير الذي وقع به أمير تلك الجبهة، أو قائد السرية، وعن حكم الشرع فيه، وهل لا يزال داخلاً في دائرة الإسلام أم خرج منها، وما موقفنا من ذلك العالم الذي خالفنا في تلك المسألة أو تلك القضية.

وتقوم مشارح عملاقة لتشريح المواقف والأشخاص والأحوال، وربما خشبات إعدامية للحكم على شخص أو فئة أو قضية، وتجد أن أغلب المتحدثين في ذلك إن لم يكن كلهم لم يتأهلوا بعد إلى معرفة أدنى علم واستقصاء عن وضع هذه الحالة أو الموقف أو الشخص.

بل وتجد كثيرًا منهم لم يجالسوا أهل العلم بقراءة علم أو شرح ونحو ذلك، ولم يستقيموا في الدروس طويلاً إلا مقدار فواق ناقة، ثم تجده يتكلم في قضايا الأمة المصيرية على أريكة ناعمة بما لو كانت هذه الأحداث واقعة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر كلهم، ثم نسأل أنفسنا، لماذا يقع كثير من شبابنا في غمرات الغلو أو الجفاء تجاه القضايا والأحداث والأشخاص؟

كم من الأوقات التي قضت منا في التحليل السياسي والتبادل الإخباري، وإرسال المقاطع المؤججة غير المسكنة والمفسدة غير المصلحة؟!

كم من الوقت أنفقناه في معرفة هذه الوقائع الدقيقة، ونحن لم نرتكز على أصول صحيحة ننطلق منها إلى معرفة ذلك.

نعم أما إني أيها الفضلاء لست أعني القدر المتفق عليه بمعرفة الأحداث ليدعو الرجل للمسلمين والمجاهدين في سبيل الله على أعدائهم، أو يعمل معروفا لهم، أو يعينهم بأنواع الدعم المستطاع، ولكن أن يتحول هذا الاطلاع وهذه المتابعة إلى طغيان سافر وسجال مقصود وتحزب واستخفاف لقيط، وقيل وقال، وتهاتر ومعارك جدلية، فهذا هو الخطر الماحق، والجدل الحارق للأزمان والأنفس بل وللأديان.

 حتى إنني أعرف مجاميع كثيرة قد انشطرت لانشطارات كثيرة أيضًا وتفرق أصحابها على اختلاف آرائهم تجاه بعض القضايا السياسية والشرعية، وهم يعرفون حق المعرفة ويعلمون حق العلم أنهم لم يؤثروا في الوضع القائم ولم يغيروا في سياسات المنطقة ولكنه ذهاب العمر بلا طائل والخسران المبين.

نعم إن هذه الحروب الكافرة على الإسلام والمسلمين والتحالفات الصليبية والعدوانية على ديارهم يجب أن نبرأ إلى الله منها، وأن نعادي خائضيها والمعتدين أجمعين، وأن نعمل وفق المستطاع إلى التخفيف من الشر وتقليله وإظهار الخير وتكثيره.

سنة مضت عام أتى..

هل انقضى العام الفائت في متابعة حارة ومسعورة للمباريات الرياضية؟ وهل انقضى في عقد الجلسات في الانتصار للفرقة الناجية في إحدى الجولات؟ كم مباراة شهدتها؟ كم ساعة في كل مباراة؟ كم جلسة تحليلية وانتصارية لكل واحدة منها؟

الجرد الحسابي كفيل أن تفغر له أفواهنا، وأن تتصدع حسباتنا، من أكبر المشكلات التي حلت على بني الإنسانية هو أن الوقت لا يرجع ولا يُشترى بالمال ولا بالعلم، ولا بالآهات ولا بالصيحات، ولا بالبكاء ولا بالعويل، ومن لم يبكِ على أوقاته الضائعة فلن يبكي على شيء آخر أثمن منه.

سنة مضت عام أتى.. والله يخلف ما مضى..

يخلف ما مضى بالمشاريع الاستثمارية التي نعلم أن الله يبارك بها كصلة الأرحام والعلم النافع الذي يبقى معك بعد موتك والتسبيح المضاعف.

أورادك لا تتركها، صلوات جماعة مع المسلمين لا تنم عنها، برنامجك العلمي لا تتركه، قراءتك للكتب النافعة لا تفرط بها، وخير الأعمال أدومها وإن قلت، أدرج كشفًا حسابيًّا جديدًا في كل عمل، وكن منضبطًا حذرًا من الفوات والإهمال، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة.

وأما صلة أرحامك وبرك بوالديك فليس فيهما ضياع عمر، بل فيهما نسيئته وزيادته، "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك"، "اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك"، واحرص على وقتك أشد حرصًا من أصحاب الأموال على دنانيرهم ودراهمهم.

 لكل فرد مسلم عام خاص يبدأ من ولادته وهو عمره الحقيقي، وأما العام الذي يبتدئ بمحرم فهو لضبط منظومة التاريخ، وستسأل عن عامك لا عن عام الزمن.

اللهم بارك لنا في أعمارنا..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي