قصة صالح وقومه .. عظات وعبر

علي بن يحيى الحدادي
عناصر الخطبة
  1. بعض حكم ذكر القرآن لقصص الأمم الغابرة .
  2. قصة نبي الله صالح -عليه السلام- مع قومه .
  3. عظات وعبر مستفادة من قصة نبي الله صالح مع قومه .

اقتباس

لما انقضت الأيام الثلاثة جاءهم العذاب، وتحقق الوعد، ونصر الله أولياءه، وأهلك أعداءه، فجاءهم العذاب من فوقهم، ومن تحتهم، فرجفت بهم الأرض رجفاً عظيما، وجاءتهم صيحة عظيمة عند الصباح، فهلكوا عن آخرهم، فهم على ركبهم جاثين، وعلى...

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فإن الله -تعالى- يقص علينا في كتابه قصص الأمم الخالية، حين يرسل إليهم الرسل، فيؤمن به بعضهم، ويكفر به أكثرهم، ثم تكون العاقبة: أن يهلك الله الكافرين، وينجي المؤمنين ، ليكون لنا فيهم عظة وعبرة، والسعيد من وعظ بغيره، فلا نفعل مثلما فعل من كذب وأعرض، وعادى الله ورسوله، فتكون عاقبته إلى الخسارة والندامة، ولكن نكون كأولئك الذين آمنوا وصدقوا وصبروا وثبتوا، حتى أتاهم وعد ربهم الذي لا يخلف، من النصر والتأييد، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.

ومن القصص التي تكرر ذكرها في القرآن: قصة قوم صالح، وذلك أن الله -تعالى- أرسل إلى ثمود، وهم عاد الثانية، الذين كانوا يسكنون الحجر المعروفة بمدائن صالح، ولا تزال مساكنهم قائمة إلى يومنا هذا، وهي التي مر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، ونزل بها، ونهى النبي أصحابه أن يدخلوا بيوتهم، ونهاهم عن استعمال مياه أبارهم، إلا مياه البئر التي كانت تردها الناقة، كما ثبت في الصحيحين.

ومن العجائب: أن تخرج بعض المقالات التي تدعي أن ديار ثمود ليست هي هذه، وإنما هي ديار أخرى في جنوب الجزيرة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى على ما كان معروفاً عند العرب في الجاهلية، وهذا كلام بالغ الخطورة، ففيه تكذيب الأحاديث الصحيحة، ونسبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجهل، وأنه يقول على الله بغير علم، وأن الله يقره إذا أخطأ، وهذا كله من الباطل الذي لا شك في بطلانه.

وكانت ثمود قد جاءت بعد هلاك عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف، وقوي سلطانهم، وعظم شأنهم، وأغدق الله عليهم النعم، فكانوا في بيوت عالية، وجنات مثمرة، وعيون متفجرة، ونخيل باسقة مثمرة، وأمن ظلاله وارفة، كما قال تعالى في شأنهم: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء: 146 - 149]

فلما كفروا وجحدوا، وعبدوا مع الله آلهة أخرى، تلك الجريمة التي هي أعظم الجرائم، والذنب الذي ليس بعده ذنب، أن تعبد مع الله إلها آخر، من قبر أو شجر أو حجر، أو ملك أو نبي أو ولي تدعوه، وتستغيث به، وتطلب منه الشفاعة عند الله، تذبح له، تنذر له، ذلك هو أعظم ذنب على الإطلاق، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك".

فأرسل إليهم سبحانه عبده ورسوله صالحاً، لتقوم به الحجة عليهم، وتنقطع به المعذرة منهم؛ كما قال تعالى: (رُسُلًا) أي أرسلنا رسلا: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء : 165].

وقد اختار الله صالحا اختيارا، فاصطفاه وأحسنه نباته وأدبه، قبل أن يوحي إليه، حتى عرف بين قومه بالفضل والكمال، ولذا قالوا بعدما أرسل: (يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) [هود: 62].

فلما بعث أتى قومه، وأعلن فيهم بما أرسل به، قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 73].

هذه هي دعوة كل الرسل دون استثناء: (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

جاؤوا يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه، هذه هي دعوة النبيين التي قابلتها الأمم بالتكذيب إلا من رحم الله، وهي الدعوة التي زهد فيها كثير من الدعاة أفرادا وأحزابا، بل يقابلونها بالسخرية والاستخفاف، والتجهيل والتضليل، ولذا كثر في الناس من يتوجه إلى غير الله بالعبادة، لكن باسم التوسل بالصالحين، ومحبة الأولياء والمتقين، وأننا نعلم أنهم لا يملكون شيئاً، ولكن ندعوهم ليكونوا وسائط بيننا وبين الله، وهذا هو عين ما وقع فيه أولئك المكذبون للرسل، إذ قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر: 3].

ومن حكمة الله -تعالى-: أنه يؤيد رسله بالبينات، والآيات الباهرات، التي لا يقدر عليها بشر، حتى تكون دليلاً على صدق نبوتهم، وحجة على رسالتهم، أنهم مؤيدون من عند الله.

وكانت آية صالح: الناقة الشريفة العظيمة التي أضافها الى نفسه إضافة تشريف وتعظيم، فقال (هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ) [الأعراف: 73].

وفي أخبار بني إسرائيل: أن الله أخرجها لهم من بطن صخرة -والعلم عند الله-.

وقال لهم صالح: (لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الشعراء: 155].

أي ترد البئر يوماً خالصا لها، فإذا شربت منه حلبوها وشربوا من لبنها، وفي اليوم الثاني يكون ورد البئر لهم ولدوابهم.

وفي الآخرة: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ) [القمر: 28].

وأمرهم صالح بأن يذروها تأكل في أرض الله، ونهاهم عن قتلها، أو مسها بسوء؛ كما قال تعالى: (قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف: 73].

ومع ما جاءهم به من الحجج والبينات، ومع ظهور الحق فيما يدعوهم إليه، إلا أنهم أبوا أن ينقادوا للحق، إلا قليلاً منهم، بل قابلوه بالجهل والظلم، فقالوا له: (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [هود: 62].

لقد علموا أن صالحاً لا يدعوهم إلا إلى أن يعبدوا الله وحده، ويذروا عبادة غيره، مما كانوا يعبدونه هم وآباؤهم من قبل، من الأصنام والأوثان، ولم يكن لهم حجة على عبادتهم الأوثان إلا أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فهم يعبدونها كذلك.

هم يعلمون أنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، ولا تنفع ولاتضر، بل ذلك بيد الله وحده، لكنهم يعبدونها؛ لأنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، وهكذا يعمي التعصب للآباء والمشايخ، والطرق والبلدان، قلوب المتعصبين، فلا ترى الحق وهو أمام أعينها كالشمس.

ولم يمنع ذلك الإباء والعناد والاستكبار صالحا من الاستمرار في الدعوة والتذكير والنصح، فكان يذكرهم بنعم الله عليهم، لعلهم يشكرون الله، فيعبدونه وحده.

وكان يذكرهم بمن هلك قبلهم من الأمم التي كذبت الرسل، لعلهم يتعظون فيقلعون عن تكذيبهم، ولكن: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النــور: 40].

ركبوا رؤوسوهم، وأصروا واستكبروا استكبارا، فما آمن لصالح بعد ذلك الجهاد العظيم إلا قليل من المستضعفين من قومه، ممن ليس لهم مناصب ولا رئاسة، ولا مال في قومهم، وهكذا هم غالب أتباع الرسل.

وفي هذا درس لمن اتعظ: أن الميزان في نجاح دعوة الداعي، هو: استقامته في دعوته على الحق الذي جاء الله به، وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وليس الميزان؛ كثرة الأتباع والجماهير، أو بلوغ المناصب القيادية، والاستيلاء على زمام الأمور.

وفي الحديث الصحيح: "أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه إلا الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد".

فلا يصلح أن يستفاد من قلة الأتباع، أو ضعف الأتباع، بطلان الدعوة، وفساد الداعي.

ولما طال بهم الأمد، وضاقت أنفسهم من دعوة صالح، ومن الناقة، تمالأ أعداء الله على قتله، وقتل أهله، وعلى عقر الناقة.

فأما الناقة فعقروها.

وأما صالح وأهله، فنجاهم الله منهم، وأدار الدائرة عليهم.

فلما عقروها أخبرهم صالح بأنهم سيتمتعون في دورهم ثلاثة أيام، ثم يأتيهم العذاب المستأصل: (فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود: 65].

فلما انقضت الأيام الثلاثة جاءهم العذاب، وتحقق الوعد، ونصر الله أولياءه، وأهلك أعداءه، فجاءهم العذاب من فوقهم، ومن تحتهم، فرجفت بهم الأرض رجفاً عظيم، وجاءتهم صيحة عظيمة عند الصباح، فهلكوا عن آخرهم، فهم على ركبهم جاثين، وعلى وجوههم جاثمين -والعياذ بالله-، قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف: 78].

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 67].

فلم تغن عنهم قصورهم ولا جناتهم ولا أجسامهم، من عذاب الله شيئاً.

وقال لهم صالح بعدما هلكوا وهم جثث هامدة: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79].

نعوذ بالله من غضبه وسخطه، ونعوذ به من رد الحق جهلا وظلماً، ونسأله سبحانه أن التوفيق لما يرضيه عنا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فتلك قصة قوم صالح، وما ذكرها الله لنا للتسلية والأنس، وإنما لنتعظ بما فيها، ونعتبر بمعانيها.

وخلاصة عظتها: أن من آمن واتقى، وعمل صالحاً، وأطاع الله ورسوله، كان من الفائزين برحمة الله ورضوانه، الناجين من سخطه وعقابه -نسأل الله من فضله-.

ومن ظلم وعصى الله ورسوله، كان الخاسرين الخاسئين، المستحقين للعذاب، والعقوبات العاجلة والآجلة -نعوذ بالله من حال أهل النار-.

معاشر المؤمنين: صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي