عام بلا حزن

يوسف بن محمد الدوس
عناصر الخطبة
  1. لكل إنسان في هذه الحياة همومه وأوجاعه .
  2. الحزن هو انعكاس لطريقة التفكير .
  3. ما سبب حزنك؟ .
  4. البلاء قد يكون مفيدًا .
  5. عام الحزب وكيف تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع البلاء .
  6. الحزن لا يليق بالمؤمن بحال من الأحوال. .

اقتباس

حياة المؤمن -يا عباد الله- حياة مختلفة، حياة ملؤها العطاء والبذل والصبر والاحتساب، ولذلك فإن الحزن لا يليق بالمؤمن بحال من الأحوال، ربما هو حزن عابر نعم لطبيعتنا البشرية، ولكنه ليس حزنًا مقعدًا عن العمل وعن العطاء، وعن الانطلاق في مسارب الحياة، والمشاركة في التعليم والدعوة والإصلاح والمتاجرة، ونحو ذلك.

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الخير محض نعمته، والشدائد بالغ حكمته، والهداية سابغ منته، الكل يدعوه عند الشداد في محنته، لكنما المسرف يستنكف عن انفراج كربته، والمؤمن يزداد تسليما واستشعارا لواسع رحمته، فشتان ما بين خاضع في شدة ورفاء وما بين متلون تبعا لحالته.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله: فعليكم بتقوى الله جل في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

عباد الله: لكل إنسان في هذه الحياة همومه وأوجاعه، ولكلّ منا طريقة في التفكير بها والنظر إليها، فتظهر نكهة فكره ولون روحه على شعوره، ولقد وجدنا في أيامنا هذه ممن حولنا من أحبابنا وأهلينا وأصحابنا من أثقلته الهموم، وأقعدته المصائب، وشلت أفكاره البلايا فقبع في مكانه، وظل حائرًا تارة يبكي، وتارة ينهار شاحب الوجه مقطب الجبين مرتعش اليدين، يجر خطاه اليائسة في طرقات الظلام.

يسير في هذه الحياة كمن يسير على بساط من الشوك؛ ليبدأ رحلته في الولوج إلى عالم حالك، ولو أمعن النظر ذلك الحزين المرتمي في طرقات اليأس لوجد أن شعوره بالحزن هو انعكاس لتفكيره، ولطريقة نظره إلى الأحداث التي تقع عليه في حياته.

 وحتى يتأكد لك ذلك -أيها المبارك- اسأل نفسك عندما تحزن ما سبب حزنك؟ ستجد أنك ما زلت مقيدًا بسلاسل الماضي، ولا زلت تكرر بعض العبارات المبنية على ماضٍ أليم، ووصف النفس بعدم الحظ والمصائب، ووقوع الظلم عليها، ونحو ذلك مما يؤكد المشاعر السلبية في داخلك بأساليب تجلب لك الضرر، وتثبط من عزيمتك في التفكير الجاد، وتعيق نموك وتطورك، وتجعلك في دوامة من السلبية التي لا تنقطع.

فالتفكير بأن الظروف والمصائب، والناس من حولك هم الذين جعلوك في هذه الحالة من الحزن، وهذه الحالة من البعد عن السعادة، هو تفكير غير دقيق وغير صحيح؛ لأنك في نهاية المطاف: أنت المسئول عما تشعر به، وأنت المسئول عن أفكارك، فاسأل نفسك هل هنالك من فائدة إذا كنت حزينًا أو تعيسًا، ثم لتنهض وابدأ في البحث بعمق عن نوع من الأفكار التي تؤدي إلى تلك المشاعر الإيجابية التي تليق بالمؤمن الراضي بالقدر خيره وشره.

 فكل أمر المؤمن خير له؛ كما جاء عن عبدالرحمن بن أبي ليلي عن صهيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (رواه الإمام مسلم).

وربنا -جل في علاه- قد قال في كتابه في آية بينة: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].

فاختيار الله العبد للبلاء إنما هو لحكمة خيرية؛ فلعلك بهذا البلاء تُعَدّ لأمر عظيم ولمستقبل مشرق مختلف تماما عما أنت فيه.

يوسف -عليه السلام- رماه إخوته وضيعوه، وتعرض للظلم والسجن، ثم في نهاية المطاف صار ملك مصر، وكان في منزلة رفيعة، نبينا -عليه الصلاة والسلام- مرت به الصعاب، وحزن لها حزنًا شديدًا، فما زاده ذلك إلا قوة وثباتًا.

 ولقد مر به -عليه الصلاة والسلام- عام سُمِّي عام الحزن من شدة وطأته على قلبه -صلى الله عليه وسلم- كانت بدايته بمرض عمه أبي طالب عندما اشتد المرض بأبي طالب، فلم يلبس أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب في سنة عشر من النبوة بعد الخروج من الشِّعب بستة أشهر، وقيل توفي في رمضان قبل وفاة خديجة -رضي الله عنها- بثلاثة أيام.

وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام، على اختلاف في ذلك، تُوفيت أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، وما أدراك ما خديجة التي كانت بالمكانة العظمى من نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك في الخمسين من عمره -عليه الصلاة والسلام-.

إن فقد خديجة -يا عباد الله- ليس بالأمر الهيّن على نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لاسيما في تلك الظروف، فقد كانت من نعم الله الجليلة على نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بقيت معه ربع قرن تحنّ عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في معالم الجهاد المُرّ، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول عليه الصلاة والسلام عنها: "آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد".

وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبٌ فِيهِ وَلا نَصَبٌ".

هذه خديجة التي افتقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- وافتقد عمه أبا طالب وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، والأعداء متكالبون عليه -صلى الله عليه وسلم-، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلبه عليه الصلاة والسلام.

ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قوم تجرءوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًّا على غم حتى يأس منهم، وخرج بعد ذلك إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته، أو يؤوه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرًا، بل آذوه أشد الأذية، ونالوا منه ما لم ينله قومه.

وكما اشتدت وطأت أهل مكة على النبي -صلى الله عليه وسلم- اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر -رضي الله عنه- وهو من أسياد قريش إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة فارا من أذية أهل مكة فأرجعه ابن الدغنة في جواره.

يقول ابن إسحاق: "لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراب ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب، وهي تبكي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك"، ويقول بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيء أكرهه حتى مات أبو طالب".

توالت هذه الآلام على رسولنا الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا العام الذي عرف بتاريخ السيرة باسم عام الحزن، وعرف بذلك وهو عام عصيب مليء بالحزن على قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

ثم إن المرء ليعجب أي قوة وأيّ ثبات عاشه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رغم هذا كله! إنه الإيمان بالله الذي يجعل المرء يستهين بكل شيء أمامه عندما يخالط الإيمان ببشاشته القلوب؛ فإن ذلك يستقر في القلب استقرار الجبال، وإن صاحب هذا الإيمان وهذا اليقين بوعد الله وبما عند الله يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت يراها في جنب إيمانه طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة فلا يبالي بشيء من ذلك (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد: 17].

حياة المؤمن -يا عباد الله- حياة مختلفة، حياة ملؤها العطاء والبذل والصبر والاحتساب، ولذلك فإن الحزن لا يليق بالمؤمن بحال من الأحوال، ربما هو حزن عابر نعم لطبيعتنا البشرية، ولكنه ليس حزنًا مقعدًا عن العمل وعن العطاء، وعن الانطلاق في مسارب الحياة، والمشاركة في التعليم والدعوة والإصلاح والمتاجرة، ونحو ذلك.

جهِلتْ عيونُ النّاسِ ما في داخـلـي *** فوجـدْتُ ربي بالفُـؤادِ بـصـيــراً

يا أيُّها الحُزن المُسافرُ فـي دمــــي *** دعْني فقلبي لنْ يكُون أسيراً

أحبتي الكرام: قد تطول الآلام، ويشتد الظلام، وتضيق النفوس، وهذا لا يعني أنك تعيس، بل يعني أنه لم يأتِ الوقت المناسب للفرج، فالله يخبأ لك فجرًا قريبًا وشمسًا مشرقة على قدر ألمك.

إنِّي أرى فجراً يخيطُ ثيابَه بيـضاً *** وفي شفتيه لحن شائقُ

وأرى بواكير الصباح وحولها *** ليلٌ سيجرفه الضياء الدَّافقُ


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي