شباب قنع لا خير فيهم

نايف بن حمد الحربي
عناصر الخطبة
  1. فضل علو الهمة .
  2. صور وعبر من علو همة السلف الصالح .
  3. أسباب علو الهمة .
  4. حث الشباب على نبذ الكسل والتواني .
  5. علو الهمة في الأهداف والمنجزات. .

اقتباس

أجمعَ عُقلاءُ كُلِّ اُمَّةٍ, على أنَّ النَعِيمَ لا يُدرَكُ بالنعِيم, وأنَّ مَن آثَرَ الرَاحَةَ, فاتَتْهُ الراحَة, وأنَّهُ بحَسَبِ رُكُوبِ الأهوالِ واحتِمَالِ المَشَّاق, تَكونُ الفَرحَةُ واللَّذة, فلا فَرحَةَ لِمَن لا هَمَّ لَه, ولا لَذَّةَ لِمَن لا صَبرَ لَه.. قالَ عُمَرُ بنُ عبدِالعزيزِ لِدُكَين: "يا دُكَين, إنَّ لي نَفْسَاً تَوَاقَة, تَاقَتْ إلى الإمَارَةِ فَنَالَتْهَا, وتَاقَتْ إلى الخِلافَةِ فَنَالَتْهَا, وإنِّهَا اليومَ لَتَتُوقُ إلى الجَنَّة". وكانَ مِن دُعَاءِ الأَبْيُوُرْدِي دُبُرَ كُلِّ صَلاة: "اللهُمَّ مَلِّكْنِي مَشَارِقَ الأرضِ ومَغَارِبِهَا."..

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ أعقَبَ أهلَ العزائِمِ بالنَصَبِ بَهجَة, وَعَدَهُم الظَفَر, ووَفَّقَهُم لَمَّا أنْ أَلزَمَهُم نَهجَه, مُخَالَطَتُهُم للنَفْسِ مِن الأدوَاءِ دَواء؛ لِمَا تَحَلَّوا بهِ مِن صَادِقِ العَزَمَاتِ واللَهجَة, ألا فحَيَّا اللهُ تِلكَ الوُجُوه, وأَسعَدَهَا مُهجَةً مُهجَة, وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. 

أما بعد :فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، عَاقِبَتُهَا للنَفسِ زَكَاء, وللأذهَانِ صَفَاء, ومَن شَكَّكَ فليُجَرِّب, فالتَجرِبَةُ فُرقَانُ ما بينَ: الصِدقِ, وقولِ الأَدعِيَاء.

معاشرَ المسلمين:  كونوا على يَقينٍ بأنَّ:

شَبَاباً قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهم *** وبُورِكَ في الشَبَابِ الطَامِحِينَا.

إذْ ليسَ ثَمَّةَ شَخصٌ قد مُنِحَ حاسَةً زائِدة, وإنِّمَا هي أخلاَقُ ومَواهِب, مِنهَا الجِبِليُّ, وأخرى تُكتَسَب "فالعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ, والحِلْمُ بالتَحَلُّمِ, وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ"، وعن هذهِ التي تُكتَسَب, وعن عُلُوِ الهِمَّةِ مِنها خاصةً, سَيَدُورُ حَديثُنَا؛ إذْ إنَّ الهِمَّةَ عَمَلٌ قَلبي, والقَلبُ لا سُلطَانَ عليهِ لغَيرِ صَاحِبه, فهي في كُلِّ الأحوالِ طَلِيقَةٌ, لا تُكَبِّلُهَا قُيُودُ الأجسَاد؛ ولذا جاءَ في التنزيلِ عُذرُ المُكرَهِ في إتيانِ الكُفرِ بسَائِرِ جَوارِحِهِ دُونَ قَلبِه: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) [النحل: 106].

 ومِن جَمِيلِ قَولِ ابنِ تيمية: "ما يَصنَعُ أعدائي بي؟ أنا جَنَتِي وبُستَانِي في صدري، أنّى رُحْتُ فهيَ مَعِي..."، ولذا فالناسُ مُتَفَاوِتُونَ في حُظُوظِهِم ودَرجاتِهِم, وما ذاك إلا لِتَفَاوتِ هِمَمِهِم وعَزَمَاتِهِم, فَهِمَّةُ رَبِيعَة قَادَتُهُ لاستغلالِ العَرضِ بسؤالِ المرافَقةِ في الجَنَّة, بينما غَيرُهُ استَغَلَّهُ لسؤالِ ناقة, وفي الثانية بسؤالِ خِطَامٍ لها.

يقولُ مَمَّشَادُ الدَينَوَرِي: "هِمَتُكَ فاحفَظهَا؛ فإنَّ الهِمَّةَ مُقَدَمَةُ الأشياء, فمَن صَلُحَتْ لَهُ هِمَتُهُ وصَدَقَ فيها, صَلُحَ لَهُ مَا وَراءَ ذلِكَ مِن الأعمال".
شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهم *** وبُورِكَ في الشَبَابِ الطَامِحِينَا.

شَبَابَ الإسلام: أجمعَ عُقلاءُ كُلِّ اُمَّةٍ, على أنَّ النَعِيمَ لا يُدرَكُ بالنعِيم, وأنَّ مَن آثَرَ الرَاحَةَ, فاتَتْهُ الراحَة, وأنَّهُ بحَسَبِ رُكُوبِ الأهوالِ واحتِمَالِ المَشَّاق, تَكونُ الفَرحَةُ واللَّذة, فلا فَرحَةَ لِمَن لا هَمَّ لَه, ولا لَذَّةَ لِمَن لا صَبرَ لَه.

بَصُرتُ بالراحَةِ الكُبرَى فلَم أَرَهَا *** تُنَالُ إلا على جِسرٍ مِن التَعَبِ
وقالَ ابنُ الرُومِيُّ:

قَلْبٌ يَظَلُّ على أفكَارِهِ ويَدٌ *** تُمضِي الأُمُورَ ونَفْسٌ لَهْوُهَا التَعَبُ

ومِمَّا أُثِرَ عنِ الصِدِيقِ: "والله ما نِمْتُ فحَلمْتُ, ولا تَوَهَمْتُ فَسَهَوتُ, وإنِّي لعلى السَبِيلِ مَا زِغْتُ".

وقالَ الأميرُ شَمسِ المَعالي قَابُوس: "ابتِنَاءُ المَنَاقِبِ باحتِمَالِ المَتَاعِب, وإحرَازُ الذِكرِ الجميلِ بالسَعيِ في الخَطبِ الجَلِيل".

ولَمَّا عُوتِبَ عبدُاللهِ بنُ عَقيلِ الكِلابِي على شِدَةِ اجتِهَادِهِ, كانَ جَوابُهُ: "إنَّ الدُنيا كانت ولم أَكُن فيها, وسَتَكُونُ ولا أَكُونُ فيها, فلا أُحِبُّ أنْ أُغبَنَ أيَامِي".

نحنُ قومٌ لا تَوَسُطَ عِندَنَا *** لَنَا الصَدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ
تَهُونُ علينَا في المَعَالِي نُفُوسُنَا *** ومَن خَطَبَ الحَسنَاءَ لَم يُغلِهَا المَهرُ

ومِن وَصَايَا ابنِ العَاصِ: "عليكُم بِكُلِّ أَمرٍ مَزلَقَةٍ مَهلَكَة"، وقالَ مُعَاويةُ: "مَن طَلَبَ عَظِيمَاً, خَاطَرَ بِعَظَمَتِهِ".

ذَرِينِي وأهوالِ الزَمَانِ أُعَانِهَا *** فَأَهوَالُهُ العُظمَى تَليهَا رَغَائِبُهُ.

ومِن جميلِ قَولِ كَعبِ بنِ زُهَير:

وليسَ لِمَنْ لَمْ يَركَبْ الهَولَ بُغيَةٌ *** وليسَ لِرَحْلٍ حَطَّهُ اللهُ حَامِلُ

شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهم *** وبُورِكَ في الشَبَابِ الطَامِحِينَا

أَورَدَ ابنُ الجَوزيِّ في الصَيدِ قَولَهُ: "ولو أَمكَنَكَ عُبُورُ كُلَّ أحدٍ مِن العُلَماءِ والزُهَادِ فافعل؛ فإنِّهُم كانوا رجالًا وأنتَ رَجُل، وما قَعَدَ مَن قَعَدَ إلا لدَنَاءَةَ الهَمَّةِ وخَسَاسَتِهَا, واعلَم أنَّكَ في مَيدانَ سِبَاق، والأوقاتُ تُنتَهَب، فلا تَخلُدْ إلى الكَسَل، فما فاتَ مَا فاتَ إلا بالكسل، ولا نَالَ مَن نَالَ إلا بالجِدِّ والعَزم، وإنِّ الهِمَّةَ لتَغلِي في القُلُوبِ غَلَيَانِ ما في القُدُورِ".

فعالِي الهِمَّة: يَفزَعُ إلى المَجدِ فَزَعَا:

 إذا ذُكِرَ المَجدُ أَلفَيتَهُ *** تَأزَّرَ بالمَجدِ ثُمَّ ارتَدَى

وعالي الهِمَّةِ: دائِمُ التِرحَالِ في طَلَبِ مُبتَغَاهُ حيثُ لاح:

هِمَمٌ تَقَاذَفَتْ الخُطُوبُ بِهَا *** فَهُرِعْنَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدِ

فهو يَطِيرُ بجَنَاحِ الهِمَّةِ لا يَلوي على شيء:
إذا لم أَجِد في بَلدَةٍ ما أُرِيدُهُ *** فعندِي لأخرى عَزمَةٌ ورِكَابُ

عالي الهِمَّةِ: لا يُعطِي الدَنِيةَ, ولا يَرضَى بالسَفَاسِف :
قلتُ للصقرِ وهو في الجَو عالي *** اهبِطْ الأرضَ فالهَواءُ جَدِيبُ
قالَ لِيَ الصقرُ: في جَنَاحي وعَزمي *** وعَنَانِ السَمَاءِ مَرعىً خَصِيبُ

صَاحِبُ الهِمَّةِ يَعلَم: أنَّهُ إذا لم يَزِد شَيئاً في الدُنيا, فسيكونُ زائداً عليها, وهو لا يَرضَى أنْ يُوضَعَ في الحاشِيَة, وإنِّمَا هِمَّتَهُ تَأبى عليهِ إلا أنْ يُدَوَّنَ في المَتِن:
وما للمَرءِ خَيرٌ في حَيَاةٍ *** إذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتَاعِ

صَاحِبُ الهِمَّةِ لَديهِ قَنَاعَةٌ: بأنَّ مُمكِنَاتِ اليوم, هُنَّ مُستَحِيلاتُ الأمس, ومُمكِنَاتُ الغَد, هُنَّ مُستَحِيلاتُ اليَوم؛ ولذا لا مُستَحِيلَ في قَامُوسِهِ وإنِّمَا:

 لَهُ هِمَمٌ لا مَنتَهى لِكِبَارِهَا *** وَهِمَّتُهُ الصُغرَى أَجَلُّ مِن الدَهرِ.
وإنْ شِئتَ فَقُل: 
صَدرٌ رَحِيبٌ لِمَا يَأتِ الزَمَانُ بِهِ *** وَهِمَّةٌ تَسَعَ الدُنيَا ومَا تَسَعُ

قالَ عُمَرُ بنُ عبدِالعزيزِ لِدُكَين: "يا دُكَين, إنَّ لي نَفْسَاً تَوَاقَة, تَاقَتْ إلى الإمَارَةِ فَنَالَتْهَا, وتَاقَتْ إلى الخِلافَةِ فَنَالَتْهَا, وإنِّهَا اليومَ لَتَتُوقُ إلى الجَنَّة".

وكانَ مِن دُعَاءِ الأَبْيُوُرْدِي دُبُرَ كُلِّ صَلاة: "اللهُمَّ مَلِّكْنِي مَشَارِقَ الأرضِ ومَغَارِبِهَا."

قيلَ ليزيد بنِ المُهَلَّب: ألا تَبتَنِي دَاراً؟ فقال: مَنْزِلِي دَارُ الإمَارَةِ, أو القَبر!!
لا يَظهَرُ العَجزُ مِنَّا دُونَ نَيلٍ مُنىً *** ولو رَأينَا المَنايا في أَمَانينا.

قالَ يحيى بنُ مَعِين: "رأيتُ بِمِصَرَ ثَلاثَ عَجَائِب: النيلَ, والأهرامَ, وسَعِيدَ بنَ عُفَير".

وقال البَارُودي: 

لَوَلا التَّفَاوتُ بينَ الخَلْقِ ما ظَهَرَتْ *** مَزِيَّةَ الفَرْقِ بينَ الحِلْيِ والعَطَلِ

فانهَضْ إلى صَهَواتِ المَجدِ مُعتَلِياً *** فالبَازُ لَمْ يَأوِ إلاَّ عَاليَ القُلَلِ

ودَعْ مِن الأمرِ أدنَاهُ لأبعَدِهِ *** في لُجَةِ البَحرِ ما يُغنِي عن الوَشَلِ

قَدْ يَظفَرُ الفَاتِكُ الأَلْوِيُّ بحَاجَتِهِ *** ويَقْعُدُ العَجْزُ بالهَيَّابَةِ الْوَكِلِ.

شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهم *** وبُورِكَ في الشَبَابِ الطَامِحِينَا

وعلى قَدرِ طُمُوحِكَ تَأتِي هِمَّتُك: فالعنكَبُوت مِن حين يولدُ يَنسُجُ لنَفْسِهِ بَيتًا؛ لأنَّهُ لا يَقبَلُ مِنَّةَ الأُم، والحَيَةُ تَطلُبُ ما حَفَرَ غيرُهَا؛ إذ طَبعُهَا الظُلم، والغَرَابُ يَتْبَعُ الجِيَف، والصَقْرُ لا يَقَعُ إلا على الحَيِّ، والأسدُ لا يَأكُل البَايِت، والفيلُ يَتَمَّلَقُ حتى يَأكُل، والخُنفُسَاءُ تُطرَدُ فتَعُود.

قال المُتَلَمِّس:
إنِّ الهَوانَ حِمارُ البيتِ يَألَفُهُ *** والحُرُّ يُنكِرُهُ والفيلُ والأسَدُ
ولا يُقِيمُ بِدَارِ الذُلِّ يَألَفُهَا *** إلا الذَلِيلانِ عَيْرُ الحَيِّ والوَتَدُ
هذا على الخَسْفِ مَربُوطٌ بِرُمَّتِهِ *** وذا يُشَجُّ فما يَرثِي لَهُ أحدُ

أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم... 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ اللَطَائِفَ مِن رَحمَتِهِ نَفَل, المُدلِجُ بفَضلِهِ يَصِل, والمَطلُوبُ بِمَحضِ مِنَتِهِ يُنَل, لا يَخرُجُ عن هذا شيء, مِمَّا نَستَقبِلُ, أو مِمَّا قد أَفَل, وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على عبدِهِ ورَسُولِهِ محمد, وعلى آلهِ وصحبهِ والتابعين, ما لاحَ غَيثٌ, وما على الأرضِ انهَمَل.

أما بعد: شَبَابَ الإسلام.. أَخسُ النَّاسِ حَيَاةً, أَخَسُهُم هِمَّة:
لَحَى اللَّهُ صُعْلُوكًا مُنَاهُ وَهَمُّهُ *** مِنَ الْعَيْشِ أنْ يَلْقَى لُبُوسًا وَمَطْعَمًا
يَرَى الْخُمْص تَعْذِيبًا وَإِنْ يَلْقَ شَبْعَةً *** يَبِتْ قَلْبُهُ مِنْ قِلَّةِ الهَمِّ مُبْهَمًا

ولذا قالَ الفَارُوقُ: "لا تَصغُرَنَّ هِمَتُك, فإنِّي لَم أَرَ أَقْعَدَ بالرَجُلِ مِن سُقُوطِ هِمَّتِهِ."

وقالَ ابنُ نُبَاتَه: 
حَاولْ جَسيمَاتِ الأُمُورِ ولا تَقُل *** إِنَّ الْمَحَامِدَ وَالعُلا أَرْزَاقُ
وَارْغَبْ بنفسِكَ أَنْ تَكُونَ مُقْصِرًا *** عَنْ غَايةٍ فِيهَا الطِّلابُ سِبَاقُ

وفي مُحاضَراتِ الأُدَبَاء: "ما لَزِمَ أَحَدٌ الدَّعَة إلا ذَلّ, وحُبُّ الهُوَينَا يُكسِبُ الذُلَّ, وحُبُّ الكِفَايَةِ مِفتَاحُ العَجز".

وقال أبو دُلف:
وليسَ فَرَاغُ القَلبِ مَجداً وَرِفْعَةً *** ولكنَّ شُغْلَ القَلْبِ للهَمِّ رَافِعُ
وذُو المَجْدِ مَحمُولٌ على كُلِّ آلَةٍ *** وكُلُّ قَصِيرِ الهَمِّ في الحَيِّ وَادِعُ

ذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال: "هو عَبْدُ البَدَنِ, حُرُّ الثِيَاب, عَظِيمُ الرُّواقِ, صَغِيرُ الأخلاق, الدَهْرُ يَرفَعُهُ, وهِمَّتُهُ تَضَعُه."
إنِّي رَأَيْتُ مِنْ الْمَكَارِمِ حَسْبُكُمْ *** أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
فَإِذَا تُذُوكِرَتْ الْمَكَارِمَ مَرَّةً *** فِي مَجْلِسٍ أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا.

ومن جميلِ قَولِ الصاحبِ الطَالَقَانِي: "إنَّ الراحَةَ حيثُ تَعَبُ الكِرَامِ أَودَع لكنَّهَا أَوضَع, والقُعُودُ حيثُ قامَ الكِرَامُ أَسهَل لكنَّهُ أَسفَل".

فالحَرَكَةُ بَرَكَة, والتَواني هَلَكَة, ومَن لَمْ يَحتَرِفْ لَمْ يَعتَلِف, ومِن بينِ العَجزِ والتَواني تَنتُجُ الفَاقَةُ؛ ولِذا قالَ الرَّفَاءُ:
كأنَّ التَواني أَنكَحَ العَجْزَ بِنتَهُ *** وسَاقَ لها حِينَ أَنكَحَهَا مَهْراً
فِرَاشاً وطيئاً ثُمَّ قالَ لَهُ: اتكئ *** فقُصْرَاكُمَا لا شَكَّ أنْ تَلِدَا فَقْراً

شَبَابَ الإسلام: إنَّ أَعظَمَ مِعْوَلَ هَدمٍ يُقَوِّضُ به المُثَبِّطُونَ بِنَاءَ أمجَادِكُم: مَا يُحَدِثُونَكُم بهِ مِن أنَّ الوَضعَ لا يُنبئُ بخير, والمُستَقبَلُ مَجهُول!!

فليكن جَوابُكُم: فليَكُن, إنِّمَا نَقُومُ بفَرِيضَةِ الوَقتِ بالنِسبَةِ لَنَا, فإن تَمَّ الأمرُ على حالِهِ, عِشنَا بأمجَادِنَا أَعِزَّة, وإنْ حَدَث في الأمرِ حَادِث, فذلِكَ أَحرَى أنْ يُلقَى عن وجهِ الأرضِ الزَبَد, وعندَ أحمدَ وغيرهِ مِن حَديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا".

ولَكُم أنْ تَتَأمَّلُوا: فَرَجُلٌ يُعَايِنُ قِيَامَ الساعةِ أَيُّ مَطمَعٍ لَهُ في البَقاء؟! ومع هذا يأتِ الأمرُ النَبَويُّ: "فَلْيَغْرِسْهَا"، وما ذَاك إلا لِيُوحِي إليكم أهلَ الإسلامَ: أنْ كُونوا إيجابيينَ حتى في أَحلَكِ الظُرُوف.

فيا شَبَابَ الإسلام: اعرِفُوا قَصدَكُم, وصُبُّوا عليه عَزمَكُم, وحَاذِروا ضَبَابيةَ الآراء, فإنِّها تُشَوِّشُ على مُؤشِرِ البُوصَلَة, مِمَّا يُؤخِرُ الرِحلَةَ عن الوصولِ, هذا إنْ سَلِمَتْ مِن الضَيَاع:

ومُشَتَّتُ العَزَمَاتِ يُنفِقُ عُمْرَهُ *** حَيرَانَ لا ظَفَرٌ ولا إخفَاقُ.

رَحَلَ يحيى بنُ يحيى مِن بلادِ الأندلُسِ إلى المَدِينَةِ وهو صغير؛ لِيَسمَعَ مِن الإمامِ مَالِك, فبينما هُمُ في مَجلِسِ السَمَاعِ ذاتَ يَوم, إذْ قالَ قائِلٌ: حَضرَ الفيلُ, فخرجَ كُلُّ مَن في الدَرسِ لِيَنظُرَ إليهِ إلا يحيى, فقالَ لَهُ الإمَامُ مَالِك: لِمَ لا تَخرُجْ فتَنظُر إليه, وهو لا يَكونُ في بلادِ الأندلُس؟ فقالَ يحيى: إنِّمَا قَدِمتُ مِن الأندلُسِ لأنْظُرَ إليكَ لا إلى الفيل, فكانَ الإمامُ مالِكُ يَقولُ بعدَ ذلكَ: هذا عَاقِلُ أهلِ الأندلُس" .

فيا شَبَابَ الإسلام: ابنُوا أمجَادَكُم, وأحكِمُوا البُنيان؛ بهِ تُعلُونَ صَرْحَ دِينِكُم, وكونوا عِصَامِيينَ, لا عِظَامِيين :
وَدَعُوا التَفَاخُرَ بالتُرَاثِ وإنْ عَلا *** فالمجْدُ كَسبٌ والزمانُ عِصَامُ.

قالتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: "كُلُّ كَرَمٍ دُونَهُ لُؤمٌ، فاللُؤمُ أَولى بِهِ، وكُلُّ لُؤمٍ دُونَهُ كَرَمٌ، فالكَرَمُ أَولَى بِهِ".

وقالَ عبدُاللهِ بنُ مُعَاوية:
لَسْنَا وإنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا *** يومًا على الأحسَابِ نَتَكِلُ
نَبنِي كَما كانتْ أَوَائِلُنَا *** تَبنِي ونَفْعَلُ مِثلَ ما فَعَلُوا

تَكَلَّمَ رَجُلٌ عندَ عبدِالملِكِ بنِ مَروانَ بكلامٍ أَعجَبَهُ, فقالَ لَهُ: ابنُ مَنْ أنت؟ قالَ: "أنا ابنُ نَفْسِي يا أَميرَ المؤمنينَ، التي بِها تَوَصلْتُ إليك".
مالَي عَقلِي وهِمَتِي حَسَبِي *** ما أنا مَوْلى ولا أنا عَرَبي
إذا انتَمَى مُنْتَمٍ إلى أَحدٍ *** فإنَنِي مُنْتَمٍ إلى أَدَبِي

فيا شَبَابَ الإسلام: انفُضُوا النَومَ وهُبُوا للعُلا *** فالعُلا وَقفٌ على مَن لَمْ يَنَم
فالصلاةُ خَيرٌ مِن النَوم, والتَجَلُّدُ خيرٌ مِن التَبَلُّد, والمَنيَةُ خيرٌ مِن الدَنِيْة, ومَن عَزَّ بَزَّ :
فَثِبْ وَثبَةً فيها المَنَايا أَو المُنَى *** فَكُلُّ مُحِبٍ للحياةِ ذَلِيلُ.

فاعرِفُوا ما تُريدُونَ أنْ تَكونوا عليه غَداً اليوم, لَهُ خَطِطُوا, وبالعَمَلِ بهِ ابدءوا, ولا تُؤجِلّوا إلى غَدٍ, فقديماً قيل:
تَرجُو غَداً وغدٌ كَحَامِلةٍ *** في الحَيِّ لا يَدرُونَ ما تَلِدُ

وقد عَلمتُم أنَّ الهِمَّةَ مَولُودَةٌ مع الآدمي, وإنِّمَا تَقْصُرُ في بَعضِ الأوقَاتِ, فإذا حُثَّتْ سَارَتْ, ومتى رَأيتُم مِن أنفُسِكُم عَجْزاً, فَسَلُوا المُنْعِم, أو كَسَلاً, فألجَئوُا إلى المُوَفِّق, فلَنْ تَنَالُوا خيراً إلا بإذنِهِ, ولَنْ يَفُوتَكم إلا لِحِكمَتِهِ. 

شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهم *** وبُورِكَ في الشَبَابِ الطَامِحِينَا

أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي