خصلة ذميمة، نهى عنها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفِعاله، وأوصى بها أصحابه في سُنته؛ لأنها تولّد الحقد في القلب، والحسد وإضمار السوء للآخرين، ألا وهي الغضب. وقد قيل: الغضب جنون ساعة. وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه، وربما كان سبباً لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف، كالسكر والضغط وما شابهه. فالغضب جماع كل شر، والتحرز منه جماع كل خير. والواجب عليك إن كان بك غضب أن يكون غضبك دفعاً للأذى في الدين، وانتقاماً ممن عصى الله ورسوله.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي ما كان يغضب لنفسه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تخالفوا أمره ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
عباد الله: خصلة ذميمة، نهى عنها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفِعاله، وأوصى بها أصحابه في سُنته؛ لأنها تولّد الحقد في القلب، والحسد وإضمار السوء للآخرين، ألا وهي الغضب.
فالغضب -عباد الله- يفسد كثيراً من الدين، والغضب يؤدي إلى أن يُؤذِي ويُؤذَى؛ فاستمع إلى هذه الوصية النافعة الجامعة القصيرة، ممن لا ينطق عن الهوى، -صلى الله عليه وسلم-.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" (رواه البخاري: 6116).
فالغضب، بَيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فيغلي القلب، ولذلك يحمرُّ وجهه، وتنتفخ أوداجه، وربما يقف شعره.
فما هو مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تغضب"؟
يحتمل معنيين: إما أن يقال: لا تغضب الغضب الطبيعي؛ وهذا فيه صعوبة؛ لأن نفس الغضب أمر طبيعي لا يزول من الجبلّة؛ فيكون معناه: اضبط نفسك، واجتنب أسباب الغضب، ولا تتعرض لما يجلبه؛ فيكون هذا أمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادة، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.
وإما أن يقال: "لا تغضب": أي لا تنفِذ مقتضى الغضب الذي غضبت من أجله؛ فلو غضبت فلا تشتم ولا تضرب، ولو غضبت فلا تتكبر ولا تحتقر، ولو غضبت فلا تظلم، ولو غضبت فلا تحلف وتنذر على التقاطع والتهاجر مع أخيك المسلم، ولو اشتد غضبك فلا تتفوه بكلمة الطلاق فتندم بعد ذلك ولا ينفع الندم.
فالغضب يحصل به مفاسد عظيمة إذا أنفذه الإنسان؛ فلا تعمل بما يأمرك به الشيطان عند الغضب، بل جاهِد نفسك على ترك تنفيذه، واستعن بالله على ذلك فهو خير معين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (رواه البخاري: 6114، ومسلم: 2609).
فالذي يملك نفسه عند الغضب ويردّها عنه، هو القوي الشديد والنهاية في الشدة لغلبته هواه المُرْدِي الذي زيَّنه له الشيطان المغوي، فدل هذا على أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو.
فالغضب -عباد الله- له آثار سلبية على نفس الغاضب في مظهره وفي لسانه.
فمن آثاره في الظاهر؛ تغير اللون، وشدة رعدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الانتظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتشتد حمرة الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه، لسكن غضبه حياءً من قبح صورته؛ هذا أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان؛ فانطلاقه بالقبائح، كالشتم والفحش وغيرهما، مما يستحي منه ذوو العقول.
وأما أثره في الأعضاء؛ فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن، فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه، فمزق ثوبه، وضرب نفسه وغيره، حتى الحيوان والجماد بالكسر وغيره، وربما سقط فأغمي عليه وعجز عن الحركة.
وأما أثره في القلب؛ فالحقد على المغضوب عليه، وحسده، وإظهار الشماتة بمساءته، والحزن بسروره، والعزم على إفشاء سره، وهتك ستره، والاستهزاء به وغير ذلك من القبائح.
ولهذا حُكي عن إبليس -لعنه الله- أنه يقول: "متى أعجزني ابن آدم، فلن يعجزني إذا غضب؛ لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه منه، ويعمل بما أريده وأرتضيه".
وقد قيل: الغضب جنون ساعة. وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه، وربما كان سبباً لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف، كالسكر والضغط وما شابهه.
فالغضب جماع كل شر، والتحرز منه جماع كل خير.
والواجب عليك إن كان بك غضب أن يكون غضبك دفعاً للأذى في الدين، وانتقاماً ممن عصى الله ورسوله.
وهكذا كانت حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله، لم يقم لغضبه شيء؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ" (رواه البخاري: 6109).
ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة، ويَقُولُ: أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ" (رواه البخاري: 6038، ومسلم: 2309).
وروي أن رجلاً قال لعمر: إنك لا تقضي بالعدل، ولا تعطي الحق، فغضب واحمرّ وجهه، قيل له: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع أن الله يقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وهذا جاهل، فقال صدقت، فكأنما كان ناراً فأطفئت.
وسبَّ رجل ابن عباس -رضي الله عنهما-، فلما فرغ قال: "يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟" فنكَّس الرجل رأسه واستحى.
وروي أن جارية كانت تصب الماء لعلي بن الحسين، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجّه، أي جرحه، فرفع رأسه إليها، فقالت له: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال لها: قد عفوت عنك، قالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
هكذا كانت أحوالهم عند الغضب -رضي الله عنهم وأرضاهم-؛ فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى:37].
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر من يغضب بتعاطي أسبابٍ تدفع عنه الغضب وتُسكِّنُه:
منها: تغير الحال بالجلوس والاضطجاع؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، "قَالَ لَنَا: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ" (رواه أبو داود: 4782، وصححه الألباني).
ومما يعين على ترك الغضب: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ" فَقَالُوا: لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ" فَقَالَ: "وَهَلْ بِي جُنُونٌ" (رواه البخاري: 3282).
وقال ابن القيم: "ولما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم، أُمر أن يطفئهما بالوضوء والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم".
والسكوت مما يعين على ترك الغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه، فإذا سكت زال هذا الشرُّ كلُّه عنه.
ومن الأسباب المعينة على ترك الغضب: ذِكْر الله –تعالى-، وهذا يدعوه إلى الخوف منه سبحانه؛ كما قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)[الكهف:24]، قال عكرمة: يعني إذا غضبت. وقال سبحانه: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) [الأعراف:200]، ومعنى قوله ينزغنك: أي يغضبنك، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36]، يعني أنه سميع بجهل من جهل، عليم بما يذهب عنك الغضب.
ومن أسباب دفع الغضب: تذكر ثواب من كظم غيظه؛ كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى:37]، قال ابن كثير: "أي سجيتهم وخلقهم وطبعهم، تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس".
قال محمد بن جعفر: "الغضب مفتاح كل شرٍّ".
فلنتق الله عباد الله، ولنتمسك بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم الغضب، في تعاملاتنا مع والدينا، وإخواننا، وجيراننا، وأقاربنا، ومن تحت أيدينا من موظفين وعمالة وغيرهم، ولنعفُ ولنصفح عن زلات إخواننا، فإن في ذلك جماع الخير كله، وضده -وهو الغضب- فيه جماع الشر كله.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. يا ذا الجلال والإكرام .
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي