كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة كثيرًا بسورة "ق والقرآن المجيد"، ففي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان -رضي الله عنها- قالت: "ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس"، أي: أنه كان يكثر من قراءتها في خطبة الجمعة، وهذه السورة سورة عظيمة ذكر فيها مبدأ الإنسان منذ خلقه الله -تعالى-، وذكر فيه أحواله وأعماله، وذكر فيها منتهاه وغايته، ابتدأ الله -تعالى- هذه السورة بالإنكار على المكذبين...
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف:1]، أنزله هدى للمتقين وعبرة للمتعظين، فأحيى به القلوب وأصلح به الأعمال وذكر به من الغفلة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما من خير إلا دلّ عليه، وما من شر إلا حذّرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، اتقوا الله عباد الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعظ الناس بهذا القرآن الذي جعله الله تعالى نورًا وهداية، فلا شيء أشفى لمرض القلوب من القرآن، ولا شيء أقوم للأحوال من القرآن (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة كثيرًا بسورة "ق والقرآن المجيد"، ففي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان -رضي الله عنها- قالت: "ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس" (رواه مسلم).
أي: أنه كان يكثر من قراءتها في خطبة الجمعة، وهذه السورة سورة عظيمة ذكر فيها مبدأ الإنسان منذ خلقه الله -تعالى-، وذكر فيه أحواله وأعماله، وذكر فيها منتهاه وغايته، ابتدأ الله -تعالى- هذه السورة بالإنكار على المكذبين، ابتدأ الله -عز وجل- هذه السورة بقوله (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق: 1- 3].
فابتدأ الله -تعالى- هذه السورة بالإنكار على المكذبين الذين كذّبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنكروا ما جاء به من البعث والحساب، وقالوا: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق:3]، ثم قال -عز وجل-: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق:4].
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: "أي قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض، وتفني من أجسامهم، ولهم كتاب مكتوب -مع علمنا بذلك- حافظ لذلك كله، وسماه الله -تعالى- حفيظًا؛ لأنه لا يدرس ما كُتب فيه ولا يتغير ولا يتبدل".
ثم بيَّن -عز وجل- أنهم حين كذّبوا بالحق لما جاءهم اختلط عليهم الأمر (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ) [ق:5]، أي: أمر مختلط اختلطت عليهم الحقائق، وهكذا كل مَن كذّب بالحق لا بد أن تلتبس عليه الحقائق، وأن تختلط عليه الأمور، فلا يعرف الحق من الباطل، ولا الصالح من الفاسد.
ثم نبّه الله -تعالى- هؤلاء المكذبين بالبعث على قدرته على ذلك بما يشاهدونه من هذه المخلوقات العظيمة الدالة عل قدرته البالغة فقال (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ –وهي جبال- وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [ق: 5- 8].
ففي مد الأرض، وبناء السماء، وتزيين الأرض بالنبات البهيج، وتزيين السماء بالنجوم النيرة في ذلك كله تبصرة وذكرى للعاقل يتبصر بعقله، ويتذكر بفكره تمام قدرة الله -عز وجل- وحكمته.
ثم قال: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق:9]، وهو الزرع فنبّه على قدرته على البعث بما يشاهده الناس من إنزال المطر من السماء، وإخراج النبات به من البساتين والحبوب (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) أي: طوالاً شاهقات (لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) أي: منضود بعضه على بعض متراكب، وهذا يكون قبل أن يتسق غلاف العنقود.
(رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:11]، ثم حذّر الله هؤلاء المكذّبين بما فعله بالمكذبين السابقين الذين حقّ عليهم عذاب الله -عز وجل-، وقرر الله -سبحانه وتعالى- قدرته على إعادة الخلق مرة ثانية بقدرته على الخلق الأول، فتقرر بهذا قدرته على البعث بالأدلة العقلية والحسية.
ثم بيّن الله في هذه السورة حال الإنسان من أول خلقه، وعلم الله -سبحانه- بتلك الحال، وأنه -عز وجل- يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، فضلاً عمـا يعمله ويُظْهِـرهُ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال: يعني ملائكته -تعالى- أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، وهذا كقوله عند المحتضر: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) يعني ملائكته، وكقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي: الملائكة هي التي نزلت بالذكر بإذن الله -عز وجل-، كذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله -تعالى- لهم على ذلك".
وبيّن الله -تعالى- بعد هذا أن كل إنسان معه ملكان يتلقيان ما يعمله من قول أو فعل (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، أي: رقيب حاضر يكتب كل ما يلفظ به وكل ما يفعله، وتأمل وصفه بقوله (رَقِيبٌ عَتِيدٌ)؛ فإن معنى رقيب أي: يراقب ما يتكلم به الإنسان وما يفعله و(عَتِيدٌ) أي معد لذلك.
سبحان الله! ملكان موكلان بكل إنسان متفرغان ومعدان لمراقبة ما يتلفظ به الإنسان وما يفعله الإنسان فيكتبانه، (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 17- 18].
ثم بيّن الله -عز وجل- نهاية هذا الإنسان الذي يكدح في هذه الحياة الدنيا ويكدح، ثم لا بد أن تكون نهاية المطاف هو لقاء الله -عز وجل-، والنقلة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، إنها سكرة الموت سكرة فراق الأهل، سكرة فراق المال، سكرة فراق الدار التي ألفها منذ خروجه من بطن أمه، سكرة فراق العمل الذي كان يؤمله ويتمناه، لا أقول العمل من أجل الدنيا التي هو حينذاك مودع لها، ولكنه العمل من أجل الآخرة التي هو مستقبل لها (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99- 100].
إنها سكرة الموت بالحق لا سكرة الهوى ولا سكرة الخمر واللذة (ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، وتَهْرَب، ولكن لا مفر من الموت ولا مهرب.
ثم بيّن الله -عز وجل- حال الإنسان بعد ذلك في يوم القيامة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق: 20- 21]، نفخ في الصور فقام هذا الإنسان، قام من قبره حافيًا عاريًا ومعه سائق وشهيد يأتي يوم القيامة ومعه سائق أي: ملك يسوقه إلى المحشر، وشهيد أي ملك يشهد عليه بأعماله، وتخيل هذا المشهد العظيم يقوم الإنسان من قبره، ويرى أرضًا تموج بأعداد عظيمة وهائلة من البشر ومن الخلائق، ثم يأتي إليه ملك يسوقه إلى المحشر وملك معه آخر يشهد عليه بما عمل.
(لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا) أي: في الدنيا نسيت يوم القيامة وغفلت عن يوم القيامة حتى فجاءك يوم القيامة، فبصرك اليوم حديد، وحدة البصر هي قوة نفاذه في المرء، أي أنك قد كشف عنك غطاء الغفلة، فأصبحت ترى الأمور على حقيقتها وحصل لك اليقين ببصر قوي، فأنت اليوم نافذ البصر عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة.
(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ذلك اليوم تحضر الأعمال فيه ويجازى العامل بما عمل ويلقى في جهنم (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق: 24- 26].
ويشهد على الإنسان في ذلك الموقف العظيم يشهد عليه شهود، وقد ذكر الله -تعالى- لنا منهم تسعة شهود، الشاهد الأول والثاني الملكان اللذان يكتبان الأعمال على الإنسان في الدنيا فيشهدان عليه كما ذكر الله -تعالى- هذا في هذه السورة (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ).
ويشهد عليه كذلك وهو الشاهد الثالث الأرض التي عمل عليها كما قال -عز وجل- (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة: 3- 5]، قد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبارها بأنها تشهد على كل عبد وأمة بما عُمل عليها، تقول: عمل عليَّ يوم كذا، عمل عليّ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وبقية الشهود هم أعضاء الإنسان وجوارحه، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- كله في كتابه، تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، وتشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وتشهد عليهم كذلك جلودهم (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت: 21].
فهؤلاء تسعة شهود التي ذكرها الله -تعالى- في القرآن: الملكان اللذان يكتبان الأرض، والسمع والبصر والألسنة، والأيدي والأرجل والجلود، هذه تسعة شهود تشهد على الإنسان في ذلك الموقف العظيم، فهل سيبقى للإنسان بعد ذلك عذر وهل سيبقى له حجة؟! وهذه الشهود كلها مجتمعة في الشهادة عليه بما عمله في هذه الدنيا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله: ذكر الله -تعالى- في هذه السورة مقولة قرينين؛ القرين الأول (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)، والمراد به الملك الموكَّل بعمل ابن آدم يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول: (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي: مُعَدّ مُحضَر بلا زيادة ولا نقصان.
(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق:24]، قال ابن كثير في تفسيره: "وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُخَاطَبَة مَعَ السَّائِق وَالشَّهِيد فَالسَّائِق أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَة الْحِسَاب، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيد عَلَيْهِ أَمَرَهُمَا اللَّه -تعالى- بِإِلْقَائِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمَصِير".
فأما القرين الثاني قال الله عنه: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) قال ابن عباس: "هو الشيطان فيتبرأ الشيطان الإنسان منه يوم القيامة، ويقول ربنا (مَا أَطْغَيْتُهُ) أي: ما أضللته (وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) عند ذلك يختصم الإنسان مع هذا الشيطان فيقول الله -تعالى-: (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق: 28- 29].
ثم يقول الله -تعالى- لجهنم: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) [ق:30]، وذلك أن الله -تعالى- قد وعد بملء جهنم، ووعد بملء الجنة وعد بملئهما من الجِنّة والناس أجمعين.
عن أنس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُلقَى في النَّار أهلُها وتقولُ هَل مِن مزيدٍ، قال: ويُلقَى فيها تقولُ هَل مِن مَزيدٍ حتَّى يضَعَ رِجْلَهُ أو قدَمَهُ فتقولُ قَطْ قَطْ" أي: حسبي حسبي. (متفق على صحته).
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق:31]، أي: أُدنيت وقُربت (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) [ق:32]، أي: لكل رجّاع تائب (حَفِيظٍ) أي: يحفظ العهد فيما بينه وبين ربه فلا ينكثه (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ) أي: خاف الله -تعالى- في السر حيث لا يراه أحد، (وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) أي: بقلب سليم خاضع لربه (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ) [ق:34]، بسلام من العذاب وسلام من الملائكة عليهم (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي: يخلدون في الجنة فلا يموتون فيها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً (لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا) [ق:35]، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهم مع ذلك ولهم فوق ذلك (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) النظر إلى وجه الرب العزيز الكريم، كما قال -سبحانه-: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى)، وهي الجنة (وَزِيَادَةٌ) وهي النظر إلى الرب العظيم.
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا) أي: أكثر منهم وأشد قوة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ) أي: ضربوا في الأرض فساروا في البلاد (هَلْ مِن مَّحِيصٍ) أي: هل لهم من مفرّ من قضاء الله وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه، وما حصلوه في هذه الدنيا؟! وهل رد عنهم شيئًا من عذاب الله -عز وجل-؟!
ثم قال -سبحانه-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]، فذكر الله -عز وجل- في هذه الآية العظيمة شروط الانتفاع بالقرآن؛ فذكر أربعة أمور إذا تحققت انتفع الإنسان بالقرآن، وتأثر به تأثرًا بليغًا، وهي مؤثر مقتضٍ، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع فقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) إشارة إلى المؤثر وهو ما تقدم من أول السورة والقرآن الكريم كله عظيم التأثير.
وقوله (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، وهذا هو المحل القابل، ولكن المراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا) [يس: 69- 70]، أي حي القلب، وقوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)، وهذا هو شرط التأثر به أي: أنه أصغى حاسة سمعه إلى ما يقرأ أو إلى ما يستمع (وَهُوَ شَهِيدٌ) إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغفلته، فإذا تحقق الشرط الأول وهو المؤثر، وهذا متحقق في القرآن، وتحقق المحل القابل وهو القلب الحي، ووجه وأصغى واستمع إلى هذا القرآن أو تدبره ولم يوجد مانع من غفلة القلب والسهو؛ فإنه يتأثر بالقرآن، وينتفع به انتفاعًا عظيمًا.
ولكن عندما لا يتحقق أيّ من هذه الشروط الثلاثة؛ كأن يكون قلبه غير حي، أو أنه لا يتدبر القرآن، ولا يصغي إليه، أو أنه يوجد مانع من غفلة وسهو القلب؛ كأن يقرأ القرآن بسرعة من غير تدبر ومن غير تأمل؛ فإنه لا ينتفع بقراءته، ولا بالاستماع للقرآن.
لكن إذا توفرت هذه الأمور الأربعة؛ فإنه ينتفع بالقرآن انتفاعًا عظيمًا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي