التحذير من التهاون بالشهادة

محمد بن صالح بن عثيمين
عناصر الخطبة
  1. إقامة الشهادة لله وحده .
  2. أهمية الشهادة بالحق ووجوب أدائها .
  3. تهاون الناس في الشهادة وبعض صور ذلك .
  4. خطر شهادة الزور على الشاهد والمشهود له .
  5. مفاسد شهادة الزور على الدين والدنيا والفرد والمجتمع .

اقتباس

أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه، بل بما يعلم أنه لا يستحقه يدعي أنه عاطف عليه، وراحم له بذلك. والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له، ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثما بما شهد به، وأكسب المشهود له إثما، فأدخل عليه ما لا يستحقه، وظلم المشهود عليه ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الملك العظيم العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم ما تخفون وما تعلنون: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[غافر:19- 20].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والحكم والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بين لأمته ما فيه خيرها وسعادتها وحذرها من سوء العاقبة والمصير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وأقيموا الشهادة لله، أقيموها لله وحده، لا تقيموها لقريب من أجل قرابته، ولا لصديق من أجل صداقته، ولا لغني من أجل غناه، ولا لفقير من أجل فقره، ولا تقيموها على بعيد من أجل بعده، ولا على عدو من أجل عدواته، أقيموا الشهادة لله وحده، أقيموها كما أمركم بذلك ربكم وخالقكم ومدبر أموركم، والحاكم بينكم، والعالم بسركم وعلانيتكم، أقيموها كمـا قـال الله -سبحانه وتعالى-:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء: 135].

أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم، وخطرها جسيم، في تحملها وأدائها، فلا يحل كتمانها: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[البقرة: 283].

ولا يحل أن يشهد إلا أن يكون عالما بما يشهد به علما يقينا، وأنه مطابق للواقع تماما، فلا يحل أن يشهد بما لا يعلم، ولا بما يعلم أن الأمر بخلافه، بل لا يحل أن يشهد، ولا بما يغلب على ظنه حتى يعلمه يقينا كما يعلم الشمس، فعلى مثلها فليشهد أو ليترك.

أيها المسلمون: إن من الناس اليوم من يتهاون بالشهادة، فيشهد بالظن المجرد، أو بما لا يعلم أو بما يعلم أن الواقع بخلافه، يتجرأ على هذا الأمر المنكر العظيم، مراعاة لقريب، أو توددا لصديق، أو محاباة لغني، أو عطفا على فقير، يقول: إنه يريد الإصلاح بذلك، زين له سوء عمله فرآه حسنا، كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء عمله فرآه حسنا.

فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)[البقرة: 11].

فقال الله فيهم: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)[البقرة: 12].

عباد الأصنام زين في قلوبهم عبادتها، وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)[الزمر: 3].

وهي في الواقع لا تزيدهم من الله إلا بعدا.

أيها الناس: إن كل مفسد ربما يدعي أنه مصلح، أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له، فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح، أو بسبب إرادة سيئة زينت له، فاتبع هواه.

ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله، وتنفيذ أحكامه، والعمل بما يرضيه.

أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه، بل بما يعلم أنه لا يستحقه يدعي أنه عاطف عليه، وراحم له بذلك.

والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له، ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثما بما شهد به، وأكسب المشهود له إثما، فأدخل عليه ما لا يستحقه، وظلم المشهود عليه إن كان فاستخرج منه ما لا يجب عليه.

إن من الناس من يشهد للموظف المهمل لوظيفته بمبررات لإهماله لا حقيقة لها، فيشهد له بالمرض، وهو غير مريض، أو يشهد له بشغل قاهر وهو غير مشغول، أو يشهد له بنقل أهله إلى مقر عمله الجديد وهو لم ينقلهم، أو باستئجاره سيارة وهو لم يستأجر، أو يشهد بأجرة أكثر مما استأجرها به، وكل هذا من الشهادة بالباطل.

وإن من الناس من يشهد لشخص بأنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا، وهو لم يقم بها ولم يباشرها، يزعم الشاهد بذلك أنه يريد الإصلاح بنفع المشهود له، ولم يدر أنه بهذه الشهادة ضر نفسه، وضر المشهود له، وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه.

لقد قال الله -تعالى- بعد أن أمر بإقامة الشهادة بالقسط، قال: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا)[النساء: 135].

فلا تشهد لغني من أجل غناه، ولا لفقير من أجل فقره، فإن الله أولى بهما بل أقم الشهادة لله وحده.

أيها المسلمون: إن شهادة الإنسان بما لا يعلمه علما يقينا مثل الشمس، أو بما يعلم أن الواقع بخلافه، سواء شهد للشخص أو عليه، هي من شهادة الزور التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعلها من أكبر الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثا ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قالوا لا يسكت، أو قالوا ليته سكت"[البخاري (2511) مسلم (87) الترمذي (3019) أحمد (5/37)].

وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه- ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الكبائر، فقال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور"[البخاري (5632) مسلم (88) الترمذي (3018) النسائي (4010) أحمد (3/131)].

أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليتبين بهما تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- لشهادة الزور، والتحذير منها.

لقد عظم النبي -صلى الله عليه وسلم- التحذير منها بقوله وفعله، عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئا، فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها.

وعظمه بقوله حين جعل يكرر القول بها، حتى قال الصحابة: لا يسكت، أو تمنوا أن يسكت.

وعظمه أيضا حين صدر القول عنها بأداة التنبيه "ألا" وحين فصلها في حديث أنس عما قبلها من الكبائر، وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟".

أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله ورسوله أيها الراجون لرحمة الله أيها الخائفون من عذابه أيها المؤمنون بيوم الحساب يوم تقفون بين يدي الله -عز وجل- لا مال ولا بنون، تنظرون أيمن منكم فلا ترون إلا ما قدمتم، وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم، وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم.

إنكم ستسألون عما شهدتم به، وعمن شهدتم عليه، أو شهدتم له، فاتقوا واحذروا.

أيها المؤمنون: تصوروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المبلغ عن الله، القائم بأمر الله، الناصح لعباده، تصوروه وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر ليحذروها، ويبتعدوا عنها، وتصوروه كأنه أمامكم كان متكئا ثم يجلس عند ذكر شهادة الزور، وتصوروه يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور.

لقد تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشرك والعقوق وهو متكئ لم يجلس؛ لأن الداعي إلى الشرك، والعقوق ضعيف في النفوس؛ لأنه مخالف للفطرة، لكنه جلس حينما تحدث عن شهادة الزور؛ لأن الداعي إليها قوي، وكثير، فالقرابة والصداقة، والغنى والفقر، كلها قد تحمل ضعيف العقل والدين على أن يشهد بالزور، لكن المؤمن العاقل حينما يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من شهادة الزور هذا التحذير البليغ، لا يمكنه أن يقدم على شهادة الزور، مهما كانت الأسباب والدواعي.

أيها المسلمون: إن شهادة الزور مفسدة للدين والدنيا، وللفرد والمجتمع.

إنها معصية لله ورسوله.

إنها كذب وبهتان، وأكل للمال بالباطل، فالمشهود له يأكل ما لا يستحق، والشاهد يقدم له ما لا حق له فيه.

إن شهادة الزور سبب لانتهاك الأعراض، وإزهاق النفوس، فإن الشاهد بالزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية، وإذا شهد بالصغير هانت عليه الشهادة بالكبير؛ لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر من المعصية، وتهابها فإذا وقعت فيها هانت عليها وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه.

أيها المسلمون: إن شهادة الزور ضياع للحقوق، وإسقاط للعدالة، وزعزعة للثقة والأمانة، وإرباك للأحكام، وتشويش على المسئولين والحكام، فهي فساد الدين والدنيا والآخرة، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار"[ابن ماجة (2373) الحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"].

فالحذر الحذر -أيها المسلمون- من شهادة الزور، وإن زينها الشيطان في قلوبكم، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تصرفكم عن الحق ظنون كاذبة، أو إرادات آثمة فتشاقوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين.

وفقني الله وإياكم لإقامة الحق والعدل والبيان، وجنبنا الباطل والجور والبهتان، وحمانا عما يضرنا في ديننا ودنيانا، إنه جواد كريم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي