وقد يتساهل بعض الناس أو كثير منهم بالأيمان في مجال الخصومات والتقاضي، فيحلف الخصم؛ ليكسب القضية على خصمه بالباطل دون مبالاة بحرمة اليمين. والجراءة على رب العالمين؛ واسمعوا ما ورد في حق هذا من الوعيد الشديد. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ..
الحمد لله الذي أمر أهل الإيمان بحفظ الأيمان. وتوعد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً بالعذاب الأليم والخسران. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يحث عباده على التزام الصدق ويعدهم عليه الثواب الجزيل ودخول الجنان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعلموا أن شأن اليمين عند الله عظيم، وخطر التساهل بها جسيم؛ فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عهد وميثاق -ينتهي عند حده، ويجب أن يوفى حقه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: " من حلف بالله فليصدق. ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله ".
والله تعالى يقول: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: لا تحلفوا، فيكون معنى الآية على هذا هو النهي عن الحلف؛ فلا ينبغي للإنسان التسرع إلى اليمين إلا عند الحاجة؛ فإن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالمحلوف به، وعدم تعظيمه، وكثرة الحلف من صفات الكفار والمنافقين، قال الله تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) فنهى نبيه عن طاعة الحلاف وهو كثير الحلف.
وقال عن المنافقين: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال عنهم:(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة) أي جعلوا الأيمان وقاية يتقون بها ما يكرهون ويخدعون بها المؤمنين.
ومن قبلهم حلف إبليس لآدم وزوجه ليخدعهما باليمين. قال الله تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي أقسم لهما أنه يريد لهما النصح والمصلحة. (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُور) أي خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية والمصيبة.
أيها المسلمون: ومن الاستخفاف باليمين أن تتخذ وسيلة لترويج السلع قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "الحلف منفقة للسلع ممحقة للكسب" رواه البخاري ومسلم. ومعناه: أن يحلف صاحب السلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا وهو كاذب في ذلك، وإنما يريد التغرير بالمشتري ليصدقه بموجب اليمين، فيكون هذا الحالف عاصياً لله آخذاً للزيادة بغير حق، فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه وربما يتلف الله ماله كله.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشَيمط زان. وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه " رواه الطبراني بسند صحيح، ومعنى "جعل الله بضاعته": أي جعل الحلف بالله وسيلة لترويج بضائعه، فيكثر من الأيمان ليخدع الناس فيشتروا منه اعتماداً على يمينه الكاذبة، فكان جزاؤه إعراض الله عنه يوم القيامة فلا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم. وانظر كيف قرنه بالزاني والمستكبر مما يدل على عظم جريمته نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
أيها المسلمون: وقد يتساهل بعض الناس أو كثير منهم بالأيمان في مجال الخصومات والتقاضي، فيحلف الخصم؛ ليكسب القضية على خصمه بالباطل دون مبالاة بحرمة اليمين. والجراءة على رب العالمين؛ واسمعوا ما ورد في حق هذا من الوعيد الشديد. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وروى الإمام أحمد والنسائي: أن رجلاً من كندة يقال له امرؤ القيس، خاصم رجلاً من حضرموت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أرض، فقضى على الحضرمي بالبيّنة، فلم يكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين، فقال الحضرمي: أمكّنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان.. وتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية ".
وروى الإمام مسلم في صحيحه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ". فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟. قال: "وإن كان قضيباً من أراك " وروى البخاري في صحيحه: أن أعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس"- قلت: وما اليمين الغموس؟ -قال: " الذي يقطع مال امرئ مسلم " -يعني بيمين هو فيها كاذب.
عباد الله: ومن الأيمان المنهي عنها: اليمين التي يحلف بها المسلم ليمتنع بها من فعل الخير، قال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم وتصدقوا على المساكين والمحتاجين.
وإذا حلف الإنسان على أن لا يفعل الخير فإنه يشرع له أن ينقض يمينه ويفعل ما حلف على تركه، ويكفر عن يمينه. قال الله تعالى:(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعي أحدكم إلى صلة رحمه أو عمل بر فيمتنع ويقول: حلفت أن لا أفعله، وتكون اليمين مانعة له من فعل الخير بل يكفر عن يمينه ويفعل الخير.
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ".
وإذا حلف على ترك مباح كلبس ثوب أو ركوب دابة أو أكل طعام ونحو ذلك فإنه يخيّر بين الاستمرار على يمينه وترك المحلوف عليه أو استعماله والتكفير عن يمينه، قال الله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) أي شرع تحليلها بالكفارة وهو ما ذكره في سورة المائدة في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ). فكفارة اليمين فيها تخيير وترتيب: تخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام، فمن لزمته كفارته يمين فهو مخير؛ إن شاء أطعم عشرة مساكين-وإن شاء كساهم وإن شاء أعتق رقبة- أيَّ هذه الخصال الثلاث فعل أجزأه. فإن عجز عن الطعام أو الكسوة أو العتق فلم يستطع واحداً منها، لزمه صيام ثلاثة أيام متتابعات.
عباد الله ومن الأيمان المحرمة الحلف بغير الله؛ فالحلف بغير الله شرك. قال -صلى الله عليه وسلم-: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " متفق عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " من حلف بالأمانة فليس منا " حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح؛ فالحلف بغير الله شرك؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له؛ والتعظيم الذي من هذا النوع حق لله؛ فالحلف بغيره من اتخاذ الأنداد له. وقد قال تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن تقول: وحياتك وحياتي- وقد كثر في هذا الزمان من يحلف بالشرف أو يحلف بالنبي أو بالأمانة، وكل هذا مما نهى عنه الله ورسوله، فيجب على من صدر منه شيء من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى. ولا يحلف إلا بالله عز وجل ليسلم من الشرك.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً –وذلك لأن الحلف بالله على الكذب محرم- لكن الحلف بغير الله أشد تحريماً لكونه من الشرك. وسيئة الكذب أخف من سيئة الشرك.
فاتقوا الله -عباد الله-، وعظموا اليمين بالله، ولا تتساهلوا في شأنها، واحذروا من الحلف بغير الله لتسلم عقيدتكم وتصلح أحوالكم..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي