البكاء -عباد الله- من دلائل عظمة الله وقدرته، ولذا قال: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم:43]، فهذا من دلائل وعلامات قدرة الله -سبحانه وتعالى-، وما ألذ البكاء وما أحلاه وما أجمله إذا كان هذا البكاء خيفةً من الله، أو عند سماع وتلاوة القرآن، أو عند الاعتبار والاتعاظ!.
أما بعد: فيا عباد الله: الإنسان إذا تهيأ للبكاء قيل له في اللغة: أجهش بالبكاء، فإذا امتلأت عيناه بالدموع ولم تنزل قيل: اغرورقت عيناه، فإذا نزلت هذه الدموع قيل: دمعت عيناه، فإذا كان مع هذا السيلان صوت قيل: بكى. هذا (بكاء) بالمد، وإذا كان هناك سيلان للدموع من غير صوت قيل: (بُكا) من غير مد.
البكاء – عباد الله – أنواع، بكاء يخاف فيه الإنسان من حوادث الدنيا، وهذا بكاء مذموم؛ لأنه يولد الاكتئاب والقلق. نوع آخر من أنواع البكاء: هو بكاء التصنع والكذب، كما فعل إخوة يوسف: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ) [يوسف:16]، وهذا أيضا مذموم.
نوع آخر من أنواع البكاء: هو البكاء لفقد حبيب، فيكون محمودا إذا لم يصحبه تسخّط ولا جزع؛ في الصحيحين، لما مات ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
تلك الأنواع من البكاء ليست محل حديثنا في هذا اليوم، محل حديثنا في هذا اليوم هو البكاء خوفا من الله -عز وجل-، البكاء للاعتبار والاتعاظ، البكاء عند سماع أو تلاوة القرآن.
البكاء -عباد الله- من دلائل عظمة الله وقدرته، ولذا قال: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم:43]، فهذا من دلائل وعلامات قدرة الله -سبحانه وتعالى-، وما ألذ البكاء وما أحلاه وما أجمله إذا كان هذا البكاء خيفةً من الله، أو عند سماع وتلاوة القرآن، أو عند الاعتبار والاتعاظ!.
بعض السلف اشتكى عينه، أصابها ألم ووجع، فذهب إلى الطبيب ليبحث عن الدواء، فقال له الطبيب: عندي الدواء، أعالجها، شريطة ألا تبكي، فماذا قال -رحمه الله-؟ قال: "لا خير فيها إن لم تبك!"، فلا خير في عين لا تبكي من خشية الله -جل وعلا-.
ولذا؛ جعل الله -سبحانه وتعالى- تلك الدمعة التي تسيل على الخدين خوفا من الله، جعلها علامة على قوة الإيمان، وصحة القلب، ومعرفة الله، وخشيته، قال -تعالى-: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء:107-109].
لما ذكر -سبحانه وتعالى- كوكبة من الأنبياء في سورة مريم، ماذا قال؟ انظروا إلى أولئك الأخيار الأبرار ممن اصطفاهم الله -عز وجل- لنبوته ورسالته: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) [مريم:58].
بل إن هذا البكاء ليس بكاءً عاديا، بكاء تتصبب معه الدموع
إذا اشتبكت دموع في خـدودٍ *** تبيَّن مَنْ بكى ممن تباكى
يا عينُ قد صار البكا لكِ عادة *** تبكين في فرحٍ وفي أحزانِ
(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ) لم يقل [تدمع]، تفيض من كثرة، تتصبب هذه الدموع: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:83].
بل إن الإنسان العاقل المؤمن التقي الزكي إذا فاتته طاعة ليست واجبة عليه تأثر بفواتها! (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:92].
إن أعظم ما يفعله العبد من حيث البكاء، أن يبكي على خطيئته وعلى ذنوبه، لأن كثيرا من الناس -وللأسف!- يبكي على خطايا وعيوب غيره، وقد نسي عيوبه وأخطاءه! ولذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما صح عنه عند الطبراني من حديث ثوبان، قال: "طوبى لمن ملك نفسه، ووسع بيته، وبكى على خطيئته".
صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يبكون، لكن هذا البكاء كان بكاءً نافعا مفيدا، نفوس تقية زكية نقية عارفة مؤمنة، لم تعرف الخداع ولا الغش ولا الالتواء ولا النفاق ولا الكذب ولا المراء ولا الأفعال السيئة ولا الأقوال البذيئة، قلوب طيبة، لما طابت القلوب طابت الأعين؛ ولذا يقول ابن القيم، رحمه الله: "إذا قسا القلب قحطت العين، وما أصيب عبدٌ بأعظم من ذنب من قسوة القلب".
ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، كان يستعيذ بالله -عز وجل- من أربع، من بين هذه الأربع: "من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع"، يقول أنس -رضي الله عنه- كما في الصحيحين: بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء من أصحابه فخطب فيهم وقال: "عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا"، قال أنس -رضي الله عنه-: "فغطى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوههم ولهم خنين"، دموع معها صوت يخرج من الخيشوم، وفي رواية البخاري "ولهم حنين" وهو صوت مع الدموع يخرج من الصدر، هؤلاء هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لا يمكن لعين بكت من خشية الله أن يصيبها عذاب الله، في الترمذي كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- قوله: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
بل من المستحيل كما علَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرا على أمر؛ أيمكن أن يعود لبن في الضرع؟ لا يمكن، كذلك لا يمكن أن تصيب النار عينا خافت وبكت من خشية الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في السنن: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع".
بل تلك الدمعة الحارة التي نزلت على خد الإنسان، تلك الدمعة الحارة إذا نزلت خوفا من الله فإنها بإذن الله واقية من لهيب وحر شمس ذلك اليوم الرهيب، في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، ذكر منهم: "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
بل إن القطرة الواحدة التي تجري من عينيك على خديك هي أحب شيء عند الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: "ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين"، ترى، ما هما تلك القطرتان؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله".
بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما فتئ يحرص على هذا الجانب، كان لا يدع فرصة للوعظ الذي به يسيل دموع أعين الصحابة إلا فعل، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال العرباض بن سارية كما في السنن، قال: "وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون".
علام لا تبكي أعيننا؟ علام لا تخشع قلوبنا؟ الجواب واضح وصريح! الجواب: من الذنوب، من سلم قلبه وسلمت جوارحه من الذنوب فإن قلبه يصفو، وإذا صفا القلب صفت العين فأجرت دموعها خوفا من الله.
نبي الأمة، صلوات ربي وسلامه عليه، يبكي، مم؟ يبكي لفقد جاه؟ أو ذهاب مال؟ أو غرض من أغراض الدنيا؟ لا والله! عرضت عليه الدنيا كلها فرفضها، يقول ابن الشِّخير كما في سنن أبي داود والنسائي: "دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكا"، الرحى إذا دارت أصدرت صوتا، هذا هو صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى مع بكاء، وفي رواية: "ولصدره أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء"، كأزيز القدر إذا وضع فيه ماء وصار يغلي في النار! وهذا عجب! نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- يبكي والأمة غارقة في لهوها وغيِّها وضحكها! شباب الأمة تتأنث وتتخنث، ونبي الأمة وهو النبي الذي هو أفضل الخلق، صلوات ربي وسلامه عليه، يبكي! فلماذا لا تبكي أعيننا؟ علام هذه القسوة؟ علام هذه الغفلة؟ يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "نفوس كانت متعلقة بالله -عز وجل-، متعلقة برضا الله -جل وعلا".
في الصحيحين، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: قال ليَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم: "اقرأ عليّ القرآن"، قلت يا رسول الله، أأقرأه عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: فتلوت عليه صدر سورة النساء، حتى بلغت قوله -تعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41]، قال ابن مسعود: فغمزني برجله، فرفعت رأسي، فإذا عيناه تذرفان. صلوات ربي وسلامه عليه.
بل إذا مرت به حادثة من حوادث الدنيا، انظروا إلى حالنا تمر بنا الأحداث والأحداث، وتأتي علينا المصائب تلو المصائب، ومع ذلك لا تحرك في نفوس كثير منا أي موعظة أو أي ذكرى، لما كسفت الشمس في عهده، صلوات ربي وسلامه عليه، والقصة في الصحيحين، لكن موضع الشاهد في سنن النسائي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما كسفت الشمس في عهده إلا مرة واحدة، وما خسف القمر في عهده أبدا، انظروا إلى تلك الكسوفات والخسوفات التي تمر بنا! يمكن في السنة أكثر من مرة، لم؟ آيتان يخوف الله بهما عباده، ومع ذلك مرة واحدة، "فلما أظلمت السماء قام -عليه الصلاة والسلام- وصلى صلاة طويلة حتى كان في آخر سجوده من الركعة الثانية جعل يبكي في سجوده ويقول: "رب لم تعدني هذا وأنا فيهم! رب لم تعدني هذا ونحن نستغفرك".
بل كان -عليه الصلاة والسلام- من الأحداث التي تمر به يخشى الله، في صحيح مسلم: "لما كان مسافراً بين مكة والمدينة مر على قبر أمه فلما رجع بكى حتى أبكى الصحابة -رضي الله عنهم- معه، فقيل له: يا رسول الله، ما الذي يبكيك؟ قال: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزورها فأذن لي". انتهى الكلام؟ لا، قال -عليه ا لصلاة والسلام-: "فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت".
من تذكر الموت دمعت عيناه، ووجِل قلبه، وخشعت جوارحه، انظروا إلى عثمان -رضي الله عنه-، في سنن الترمذي يقول هانئ، وهو مولى له، يقول: كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إذا وقف عند شفير القبر بكى حتى تبل دموعه لحيته، فقيل له؟ تذكر الجنة والنار ولا تبكي وإذا وقفت عند شفير القبر بكيت؟! قال نعم، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر، ومن لم ينج منه فما بعده أشد".
هذا أبو بكر -رضي الله عنه- صاحب القلب الرقيق الخاشع الخاضع، لما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته وأناب أبا بكر، ماذا قالت عائشة -رضي الله عنها-؟ قالت: "يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف –أي: صاحب قلب حزين- إذا قرأ القرآن لا يملك نفسه من البكاء فلا يُسمع من خلفه، هلا أَنَبْتَ غيره؟".
ماذا كان يقول -رضي الله عنه-؟ وهذه دعوة من أبي بكر -رضي الله عنه- لمن قسا قلبه، يقول -رضي الله عنه-: "من استطاع أن يبكي فليبك، ومن لم يستطع فليتباك"، على أقل الأحوال يعوّد عينه على البكاء، (إن لم يبك) بمحض إرادته (فليتباك)، حتى يدخل ضمن الباكين. هذا أبو بكر -رضي الله عنه-.
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما ذكر السيوطي -رحمه الله- في تاريخ الخلفاء، ذكر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان له خطان أسودان على خديه عند عينه من البكاء، انظروا إلى هذه الدموع! من تصببها وكثرتها أحدثت أثرا أسود، في خدي منْ؟ من لا يقارن به أحد منا، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
يقول الجارود، وهو أحد أصحابه: "كنت مع عمر -رضي الله عنه- ذات يوم، فمرت بنا امرأة عجوز، فأوقفت عمر وقالت: هيه يا عمر! لقد عهدتك في سوق عكاظ تصارع الصبيان وأنت تسمى بعمير، فما ذهبت الأيام إلا وقد سميت عمر، وما ذهبت الأيام وما لبثت حتى سمعت الناس يقولون أمير المؤمنين، اتق الله يا عمر في الرعية، فإن من خشي الموت خشي الفوت، فبكى -رضي الله عنه- من قولها، فقال لها الجارود: كفي! لقد اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتِه، فقال عمر -رضي الله عنه-: "دعها، ألا تعلم من هذه؟ تلك المرأة -وهي خولة بنت ثعلبة- التي سمع الله لكلامها وهي تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم-، أفلا يستمع عمر لكلامها؟!". عجائب وغرائب كأنها من أساطير الأولين!.
إذا نظرنا إلى أحوالنا وإلى غفلتنا وإلى تضييعنا! سبحان الله! تُضيَّع الواجبات، وتقترف المحرمات، وكأننا من عباد الله المتقين المخلصين، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي كان يبكي كما سمعتم، يقول أنس -رضي الله عنه-: "تبعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذات يوم حتى انتهى بي الطريق إلى حائط، يعني إلى بستان، فدخل البستان، فسمعته من وراء الجدار يقول: أمير المؤمنين عمر! لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك"، يحدث نفسه، يقول أمير المؤمنين عمر: لا تغرنك الخلافة والولاية والإمارة، "لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك"، قلوبٌ عرفت فصفت فنقت فخشيت فعظمت ربها وخالقها.
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بكى بين أصحابه ذات يوم، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "تذكرت الدنيا وشهواتها فاعتبرت منها بها"، يقول: أخذت العبرة من الدنيا، الدنيا أوعظتني وأيقظتني فاعتبرت منها بها، قيل: كيف؟ قال: "ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تأتي مرارتها"، ما يكون الإنسان في هذه الدنيا في رغد أو في سعادة إلا وتأتيه مرارة الدنيا، لا يمكن أن يسلم أحد من عناء وتعب وكبد هذه الدنيا، فيقول ما تكاد شهوتها تنقضي إلا وتأتي مرارتها. وإن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، فإن فيها تذكرة لمــن ادكر.
تقول زوجه فاطمة بنت عبد الملك، تقول للمغيرة بن حكيم: "والله! إن في الناس من هو أكثر صلاة وصياما من عمر"، ولكن تقول: "ما رأيت أحدا أشد خوفا من الله من عمر، كان إذا صلى العشاء دخل بيته وجلس في مسجده" يعني في مصلاه "فرفع يديه وجعل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم إذا استيقظ عاد مرة أخرى"، كل ذلك خوفا من الله.
أتدرون من هو عمر بن عبد العزيز؟ رجل عاش في كنف الرغد والرخاء والمتعة والشهوة قبل أن يتولى الخلافة، كان إذا مر يُعرف أن هذا الطريق مر به عمر بن عبد العزيز لتميز عطره، كان يغير ملابسه في اليوم أكثر من مرة، ثم لما تولى الخلافة نحَّى ذلك كله، تقول فاطمة في أيام خلافته، تقول: "دخل عليَّ ذات يوم فطرح عليّ كِساء خلِقاً"، يعني: رثّاً، أين تلك الثياب الجميلة الجديدة الناعمة اللينة؟ ... "فألقى هذا الكساء عليّ ووضع يده على فخذي ثم ذكرني بأيامنا السابقة، وقال: لقد مرت بنا ليالي أنعم من هذه الليالي، فذكرها ما نسيته من ذلك النعيم، فتقول: فضربت يده ضربة شديدة فنحيتها عن فخذي، وقلت له: لَأنت اليوم أقدر من يومئذ"، يعني: أنت الآن أقدر على جلب النعمة أكثر مما مضى، لأنك فيما مضى كنت أميرا، لكن أنت الآن خليفة! "لأنت اليوم أقدر من يومئذ، قالت: فسمعته يقول بصوت حزين: (إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، فبكيت وقلت: اللهم أعذه من النار".
ما رأيكم في أنفسنا؟ ما رأيكم في أحوالنا؟ الحسن البصري -رحمه الله- كان كثير البكاء من خشية الله، قيل له: يا إمام، نراك طويل البكاء، فلم البكاء؟ فقال -رحمه الله-: "أخشى أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي".
أبو هريرة -رضي الله عنه- بكى عند موته، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "والله لا أبكي لفراق دنياكم، ولكن أبكي من بُعد السفر وقلة الزاد، ولا أدري إلى أيتهما أصير: إلى الجنة أم إلى النار".
ولذا يقول الحسن -رحمه الله-: "المؤمنون قوم ذلت منهم الأسماع والأبصار والأبدان، يحسبهم الجاهل مرضى وهم أصحاب القلوب الرقيقة، ألم يقل الله عنهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، ... والله إنهم كانوا يكابدون في الدنيا حزنا شديدا، والله! ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أحزنهم وأبكاهم الخوف من عذاب الله"، ولذا يقول بعض السلف: "عوّدوا أعينكم البكاء، وقلوبكم التفكر".
نسأل الله -عز وجل- أن يمن على قلوبنا القاسية بالإقبال عليه، وعلى أعيننا المقحطة المجدبة بالخشية والخوف منه -جل وعلا-.
أما بعد فيا عباد الله: البكاء من خشية الله علامة على إيمان العبد وصحة قلبه، وسبيل بإذن الله إلى التقرب إليه وإلى الخوف مما يأتي مما سيلاقيه العبد بعد وفاته، فالبكاء من خشية لو أمعن العبد النظر فيه لوجد فيه فوائد كثيرة، والله إن البكاء من خشية الله صحة للقلب، وإذا صح القلب معنويا صح حسيا، ولذا مَنْ ضعف ومرض قلبه بالهموم وهو سليم في أصله، عادت تلك الهموم والأحزان على قلبه بدَنِيّا وحسيا، فمرض قلبه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي