في زمان مضى كان الإنسان إذا أراد أن ينظر إلى ما يفتتن به قلبه يذهب فيطلبه في مظانه ومواقعه، فتكثر العراقيل أو تقل نحو مطلوبه، فإذا ما وصله، وصله بعد عناء، فيذهب كثير من لذة النظر بين تعب الوصول، والخوف ممن يرقبه. ثم قد صرنا إلى ما نحن فيه؛ إذ تلاحق الصور الإنسان في مسكنه وعمله، بل حتى حين يخرج إلى المتنزهات والصحراء، بل وصل الأمر أن تأتيه وهو بيت من بيوت الله!
الحمد كله لمن لا تخفى عليه خافية، لا تغيب عن علمه ذرة كانت تحت البحار أو طافية، ولا تحتجب عن بصره الكائنات وإن توارت خلف الستور الضافية، نحمده - سبحانه - في البلاء وحين العافية، ونشكره على نعمه الوافية (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
ونشهد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه، وهو الغفور الشكور. ونصلي على أفضل أنبيائه، وسيد أصفيائه، نبينا محمد النبي الشكور، وعلى آله السادة الأولياء، ونترضى عن جميع أصحابه النجباء، البررة الأوفياء، ومن سار على نهجهم إلى يوم البعث والنشور.
أيها المؤمنون، كل منا مسافر نحو الله، ولا يدري متى يكون لقاؤه بالله، والسعيد من اتخذ التقوى زادًا له في سفره -ونعمت الزاد-، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
عباد الله! كل ملك له عيون تنقل إليه أخبار من حوله، فيتأثر الملك بقدر ما يصله من أخبار، ثم تكون توجيهاته بناء على ما يسمع. وجسد الإنسان عليه ملِك، وملِكه القلب، والأخبار تصله عن طريق السمع والبصر والذوق والشم واللمس، وبناء على ما يصل إلى القلب يكون تحرك الأعضاء نحو الخير إن كان خيرًا، وإلى الشر إن كان شرًّا.
ومن أعظم الطرق الموصلة إلى القلب هو البصر؛ ولذا كانت التوجيهات الإلهية والإرشادات النبوية بحفظه كثيرة، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
أيها المسلمون، في زمان مضى كان الإنسان إذا أراد أن ينظر إلى ما يفتتن به قلبه يذهب فيطلبه في مظانه ومواقعه، فتكثر العراقيل أو تقل نحو مطلوبه، فإذا ما وصله، وصله بعد عناء، فيذهب كثير من لذة النظر بين تعب الوصول، والخوف ممن يرقبه.
ثم قد صرنا إلى ما نحن فيه؛ إذ تلاحق الصور الإنسان في مسكنه وعمله، بل حتى حين يخرج إلى المتنزهات والصحراء، بل وصل الأمر أن تأتيه وهو بيت من بيوت الله! ولذا فكلما كان التحرز من المحرم أكثر صعوبة، كان الأجر عليه أكبر، فمن يغض بصره في زماننا أعظم أجرًا ممن يغضّ بصره في زمن غابر؛ لكثرة الدواعي، وقلة الصوراف.
ولهذا - عباد الله - بعث الله نداءه إلى عباده حين وصفهم بالإيمان؛ الإيمان الذي به يعتصمون بالله من معصيته، وبه - حين يؤمنون بالغيب - أن الله يراهم ومطلع عليهم في كل لحظة، ناداهم - سبحانه - فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) [النور: 30، 31].
فلم يأمرهم - سبحانه - بإطباق أعينهم على الدوام؛ بل أمرهم بغض بصرهم حين يكون أمامهم مما حرم الله من النساء المتبرجات أو العاريات، أو المردان - وهم الصغار من الأولاد ذوي الوجوه الحسنة -، أو عورات البيوت، وغير ذلك مما حرم الله - جل وعلا - النظر إليه وهو قليل، وأباح النظر إلى ما سوى ذلك وهو كثير؛ لكن الإنسان كثيراً ما يأتي المحرمات وهي أضيق بكثير من المباحات؛ وذلك لتزيين الشيطان لها، ويترك المباحات الكثيرة؛ وذلك لتقبيح الشيطان لها.
عباد الله! وكما أن الرجل مأمور بغض البصر، فالنساء مأمورات به - كذلك -، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 31]، لكنه - سبحانه - قدم النداء للمؤمنين؛ لأنهم أكثر وقوعا في إطلاق البصر فيما حرم الله.
وهنا قد يتساءل أحدنا، فيقول: كيف الطريق إلى غض البصر؟
فأقول خذ تسعة أسباب تحفظ بها بصرك - بإذن الله -:
أولها: مراقبة الله - تعالى -، والعلم بأنه مطلع على العبد - يردع العبد الذي يستحيي من الله، أن يراه وهو في معصية، فيتذكر اسم الله "البصير" و"العليم"، فيترك المعصية حياء من الله.
وثانيها: أن يستكثر من فعل الطاعات ليزداد إيمانه، ومن يزدد إيمانه، فيتذوق حلاوة الطاعة، يستنكف أن يعود إلى مرارة المعصية.
ثالثها: إقامة الصلاة كما أرادها الله - تعالى -، فبقدر ما يقيم المسلم من الصلاة، تنهاه عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45].
رابعها: المحافظة على النوافل بعد إقامة الفرائض، فمن أدى الفرائض، ثم أتى بالنوافل، أحبه الله، وإذا أحبه الله، دخل في حديث "كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به"، فلا يرى إلا ما أباحه ربه.
خامسها: استخدام العلاج الذي ذكره الله في أول الآية (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30]، فيجاهد المسلم نفسه على غض بصره ابتداء، وإن وقع بصره على محرم صرفه مباشرة.
قال ابن الجوزي - يرحمه الله -: "ليكن لك في هذا الغض عن المشتهى نية تحتسب بها الأجر وتكتسب بها الفضل وتدخل بها من جملة من نهى النفس عن الهوى".
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته *** يوم النزال ونار الحرب تشتعل
لكن فتى غض طرفا أو ثنى بصرا *** عن الحرام فذاك الفارس البطل
وسادسها: الصبر على هذه الطاعة، فمن صبر على غضّ بصره، أعانه الله على نفسه، ومن تمادى في النظر، لم يدرك كل ما يراه، ولم يصبر عن بعضه، فيقع بين حسرتين.
وسابعها: تذكر عاقبة غض البصر، وتذكر عاقبة إطلاقه؛ فمن حجز بصره عما حرم الله كان الجزاء في جنات عدن (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن: 56]، ومن أطلق بصره فيما حرم الله كان الجزاء (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 39].
وثامنها: وهو العلاج الوقائي، اجتناب الذهاب إلى مواطن الفتن، والأماكن التي تكثر فيها الشهوات. قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "واحذر -رحمك الله- أن تتعرض لسبب لبلاء، فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها، وكما أن الحذر مقرون بالنجاة، فالتعرض للفتنة مقرون بالعطَب، وندر مَن يسلم مِن الفتنة مع مقاربتها، على أنه لا يسلم من تفكر وتصور وهمَّ".
تاسعها: صرف البصر في الأمور الشرعية التي أمر الله بصرفها فيه أو ندب إليه مثل النظر إلى الزوجة والنظر إلى آيات الله عز وجل في السماوات والأرض ونحو ذلك فهذا هو المصرف الشرعي للنظر فإذا اشتغل المسلم بمثل هذا كان له شغلا عن الحرام ومصرفا عن النظر في الآثام. عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى امْرَأَةً، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ؛ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ".
أيها المسلمون، من غضّ بصره حصل من الفوائد شيئاً كثيرًا، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيراً منه. فمن غض بصره فقد امتثل أمر الله، وكل السعادة في امتثال أمر الله، ومن غض بصره فقد خلص قلبه من الحسرة الناتجة عن إطلاق البصر.
ومن غض بصره كان الجزاء من جنس العمل في الدنيا بنور يقذفه الله في قلبه، فتزول عنه ظلمة المعصية، كان أبو الفوارس الكرماني يقول: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة. ومن غض بصره عن المحرم، أتم الله لذته بالنظر فيما أحل الله".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي