الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد، أحاط علمه بالظاهر والخفي والقريب والبعيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد فهو الولي الحميد، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وعبده أفضل العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في هديهم الرشيد، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واحفظوا ألسنتكم، فإن حصائد اللسان هلاك الإنسان؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال قلت: "يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة أو يباعدني من النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطايا، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: (
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)
[السجدة: 16] حتى بلغ: (
يَعْمَلُونَ)
[السجدة:17].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذورة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
أيها الناس: إن حصائد اللسان هي أقواله المحرمة، وهي أنواع كثيرة منها ما يوصل إلى الكفر، ومنها دون ذلك، فالاستهزاء بالله ودينه، وكتابه ورسله وآياته، وعباده الصالحين فيما فعلوا من عبادة ربهم، كل هذا كفر بالله، ومخرج عن الإيمان، وهو من حصائد اللسان.
والكذب والغيبة والنميمة، والفحش والسب، واللعن والقذف، كل هذا من حصائد اللسان، وفي الحديث: "
إن الله ليبغض الفاحش البذيء"[الترمذي (2002)].
أيها الناس: لقد شاع في كثير من الناس أخلاق سيئة من حصائد اللسان، فكثير من الناس لا يبالون بالكذب، ولا يهتمون به، ولم يَحْذَروا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "
إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"[البخاري ومسلم وغيرهما].
كثير من الناس يظنون ظنونًا كاذبةً، فيشيعها في الناس من غير مبالاة بها، وربما كانت تسيء إلى أحد من المسلمين، وتشوه سمعته، وليس لها حقيقة، فيبوء بإثم الكذب، وإثم العدوان على أخيه المسلم، ويخشى أن يكون ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن الرجل يتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار.
وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتاه ملَكان، فمروا على رجل مستلق على قفاه، وآخر قائم عليه بكلوب من حديد، فإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشرشر شدقه ومنخره وعينيه إلى قفاه، ثم يفعل بالشق الآخر كذلك، فما يفرغ منه حتى يعود الجانب الأول ضحيحًا، فيرجع إليه فيشرشره كما فعل في المرة الأولى، فقال الملَكان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "
هذا كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة"[البخاري (6640) أحمد (5/9)].
هؤلاء الذين ينقلون للناس ما يفكرون به من أوهام لا حقيقة لها، ربما يكون في كلامهم إلقاءً للعداوة والبغضاء بين المسلمين، فيتفكك المجتمع، وتتفرق الجماعة، من أجل أمور وهمية، وظنون كاذبة.
كثير من الناس ينقلون الكلام عنه غيرهم بمجرد الإشاعات، وربما لو بحثت عن هذا النقل لوجدته كذبًا، لا أصل له، أو محرفًا، أو مزيدًا، أو منقوصًا.
والمؤمن العاقل هو الذي يتثبت في الأخبار، ويتحرى في نقلها، حتى لا ينقل إثمًا ولا كذبًا.
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "
أن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها -أي ما يتثبت ولا يعلم هل هي خير أو شر صدق أو كذب- يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"[البخاري ومسلم وغيرهما].
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "
كفى بالمرء إثمًا" وفي رواية: "كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"[مسلم (5) أبو داود (4992)].
فيا أيها المسلمون: احفظوا ألسنتكم، لا تطلقوا عنانها فتهلككم، إذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول الله -تعالى-: (
مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
[ق: 18].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"[البخاري (5672) مسلم (47) الترمذي (1188) أحمد (2/267) الدارمي (2222)].
واعلموا أنكم محاسبون على كل كلمة تخرج من أفواهكم، فما جوابكم يوم القيامة إذا سئلتم: ألم تتكلم بكذا وكذا؟ فمن أين وجدت ذلك؟ وكيف تكلمت ولم تتبين الأمر؟.
أيها المسلم: لا تطلق لسانك بالقول لمجرد ظن توهمته، أو خبر سمعته، فلعلك أن يكون ظنك كاذبًا، ولعل الخبر أن يكون كاذبًا، وحينئذ تكون خاسرًا خائبًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71] إلى آخر السورة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وحماني وإياكم من الزلل في الأقوال والأفعال، إنه جواد كريم.