الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فقد قال الله -تعالى-: (
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 27 – 28].
هكذا يقرر الله هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان: أن كل إنسان خلق ضعيفا، فهو ضعيف في نشأته، فقد خلقه الله من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وهو ضعيف في علمه: (
وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)
[الإسراء: 85].
لا يعلم الغيب ولا يعلم المستقبل، حتى في تصرفاته الخاصة: (
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا)
[لقمان: 34].
وهو ضعيف في تصوره وإدراكه، قد يُتَصَوَّر القريب بعيدًا، والبعيد قريبًا، والضار نافعًا، والنافع ضارًّا، ولا يدرك النتائج التي قد تنتج عن تصرفاته وأعماله.
ومن أجل هذا الضعف: أرسل الله الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، فيسيروا على صراط الله المستقيم.
وتثبت شرائع الله بين الناس، فلا يحتاجوا إلى تشريعات من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم، والجور والنزاع والخلاف.
فجاءت شرائع الله منظمةً للناس ليس في العبادة فحسب، ولكن في العبادة والمعاملة والآداب والأخلاق.
وكان أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد في كل زمان ومكان؛ هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع، لتكون شريعةً للخلق كافة، ومنهج حياة شاملًا إلى يوم القيامة، وهي الشريعة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، والرسول من الله إلى الخلق أجمعين، فجاءت تنظم للناس العبادات والمعاملات، والآداب والأخلاق.
ولقد ضل قوم عموا أو تعاموا عن الحق، حيث زعموا أن هذه الشريعة إنما تنظم للناس العبادات والأخلاق، دون جانب المعاملة، وتنظيم الحياة، فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم، واتبعوا القوانين التي وضعها شياطين الخلق ليضلوا بها الناس عن شريعة ربهم.
أفلم يعلم هؤلاء الذين عموا، أو تعاموا أن في الشريعة الإسلامية نصوصًا كثيرةً وافيةً في تنظيم المعاملات في كتاب الله -تعالى-، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل إن أطول آية في القرآن كانت في المعاملة بين الناس في بيعهم وشرائهم، الحاضر والمؤجل، وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن، واقرؤوها إن شئتم في آخر سورة البقرة: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
[البقرة: 282]الآية.
أفليس هذا أكبر دليل على أن الشريعة تنظيم للعبادة، وتنظيم للمعاملة، ففي العبادات أمر ونهي، وفي المعاملات أمر ونهي، وفي العبادات ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وفي المعاملات كذلك ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد: (
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
[الإسراء: 35]؟.
(
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[المطففين: 1 – 3].
فكما أن على المؤمن أن يسير في عبادته على الحدود الشرعية من غير تجاوز ولا تقصير، فكذلك يجب عليه أن يسير على الحدود الشرعية في معاملة الناس، من بيع وشراء، وتأجير واستئجار، وإرهان وارتهان، وبذل وأخذ، وغير ذلك؛ لأن الكل شريعة الله -تعالى-، فهو مسؤول عن معاملته، كما هو مسؤول عن عبادته، قال الله -تعالى-: (
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)[الأعراف: 6 – 7].
فاتقوا الله -عباد الله- وأجملوا في طلب المال، سيروا في طلبه على هدى ربكم، لا على أهواء أنفسكم: (
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
[الملك: 22].
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "
إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، ولا والذي نفسي بيده لا يُسْلِم عبد حتى يُسْلِم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه" قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: "
غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالًا من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" [أحمد (1/387)].
إن في هذا الحديث لعبرة لمن كان له قلب.
إنه يدل بوضوح على أن كثرة الدنيا، وتنعيم العبد بها، ليس علامة على أن الله يحبه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب.
وهاهم الكفار يتمتعون بما يتنعمون به في الدنيا، وهم أعداء الله، وموضع سخطه وبغضه، ولكن العلامة على محبة الله للعبد، هو: الدين الذي يلتزم به العبد، شرائع الله في عباداته، ومعاملاته وآدابه وأخلاقه، فإذا رأيت الرجل ذا دين، فإن الله يحبه؛ لأن الله لا يعطي الدين إلا من يحب: (
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[آل عمران: 31].
وهذا الحديث يدل بوضوح على أن من كسب مالًا على وجه محرم، فهو خاسر مهما ربح؛ لأنه إما أن ينفق هذا المال في حاجاته الدنيوية، وإما أن يتصدق به لطلب الثواب في الآخرة، وإما أن يبقى بعده بدون إنفاق ولا صدقة.
وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم هذه الثلاث بأنه إن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن بقي بعده كان زاده إلى النار.
هذه نتائج من اكتسب المال بطريق محرم، أضف إلى هذه النتائج نتيجة الطمع، وإغراق القلب في طلب المال؛ استمع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت عنه في الصحيحين يقول: "
إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا"[البخاري (6063) مسلم (1052) النسائي (2581) ابن ماجة (3995) أحمد (3/21)].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "
إن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه، أو قال ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة"[البخاري (6063) مسلم (1052) النسائي (2581) ابن ماجة (3995) أحمد (3/91)].
أخذ المال بحقه أن يكتسبه بطريق مباح، وأخذ المال بغير حقه أن يأخذه بطريق غير مباح، والميزان لكون الطريق مباحًا، أو غير مباح، ليس هو الهوى النفسي، ولا القانون الوضعي، وإنما هو كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فما أحله الله ورسوله فهو الحق، وما حرمه الله ورسوله فهو غير الحق.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبرهنت الوقائع على صدقه، فإن الناس يشاهدون من يكتسب المال بالطرق المحرمة، قد ملأ صدره الطمع، وأحرق نفسه الشح، أيديهم مملوءة من المال، وقلوبهم خالية منه، يقول: الناس إنهم أغنياء، وهو أشد في طلب المال من الفقراء؛ لأنه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "
كالذي يأكل ولا يشبع"[البخاري (1396) مسلم (1052) النسائي (2581) ابن ماجة (3995) أحمد (3/91)].
يشاهدون من يأكل الربا لا يقلع عنه، ولا يفتر في طلبه.
يشاهدون من يتحيل على أكل الربا، وقد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، لا يرعوي عن تَحَيُّلِه، ولا يتوانى في ذلك.
يشاهدون من يكذب في السلعة أو ثمنها منهمكًا في عادته السيئة لا يقلع عنها.
يشاهدون من يعامل بالغش والتغرير والتمويه على الناس لا يزال مستمرًا في عمله.
يشاهدون من يأخذ الرشوة على أعماله الملزم بها من قبل الوظيفة فيتوانى في القيام بعمله، حتى يضطر الناس إلى بذل الرشوة له، يشاهدونه مشغوفًا بهذا العمل، ومنهمكًا فيه.
يشاهدون من يربحون من وراء المناجشات في المساهمات العقارية في الأراضي، أو غيرها، لا يتورعون عن الكسب بهذه الطريق المحرمة يُرى الواحد منهم يزيد في قطع الأراضي من الأرض التي له فيه شركة، لا لغرض في القطعة، ولكن من أجل رفع ثمنها ليزيد ربحه الذي هو في الحقيقة خسران.
فكيف يليق بالمؤمن وهو يعلم بهذه العقوبات، ويشاهد تلك النتائج: أن يسعى لكسب المال من طريق محرم؟
كيف يرضى أن يخسر دينه من أجل الكسب الظاهري في دنياه؟
كيف يليق به أن يجعل الوسيلة غايةً والغاية وسيلةً؟
ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا، وأن اكتسابه بطريق محرم هدم للدين والدنيا؟
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
وفقني الله وإياكم للبصيرة في دينه، والعمل بما يرضيه، وحمانا من أسباب سخطه ومعاصيه، وغفر لنا وللمسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.