أصلى الناس؟

عاصم محمد الخضيري
عناصر الخطبة
  1. تأملات في أحداث مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته .
  2. عظم اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة .
  3. مصيبة تضييع الصلاة وتأخيرها .
  4. دور الأولياء في اهتمام الأبناء بالصلاة .
  5. تعظيم شأن الصلاة. .

اقتباس

إن أعظم فجيعة في تاريخ البشرية جمعاء هي وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعظم صورة لامعة في تاريخ تلك الفجيعة هي صورة الصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحشرجها من فمه الشريف، تتهادى من جسد مثقل من أعباء الوصاية الأخيرة، نعم "الصلاةَ الصلاة وما ملكت أيمانكم"، كان يعلم أن الصلاة هي الحبل الذي إن بقي بقيت جميع الحبال، وإن انصرمت فقد انصرمت.. كان يرى في ذلك المنظر مشهدًا حقيقيًّا لأعظم انتصار حققه خلال مسيرة الدعوة كلها.

الخطبة الأولى:

الحمد لله يضع ويرفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع.الحمدُ لَهْ؛ 

سَكَنَاتُ هذا الكونِ ساجِدَةٌ وخا *** ضـــعة له وبكـــل ذُلٍّ تركع

ســبـحانــهُ! في ذرَّةٍ أو رمــلــةٍ *** ملكوتُه فيــها يهيـــم ويخضـع

الحمدُ لَهْ

عِلْمٌ أحاط بكل شيء كائنٍ *** لا يعزبنْ عن علم ربي موضعُ!

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)، وأشهد أن محمدًا بن عبدالله عبدُ الله ورسوله وخليله من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

نعم هم ينتظرونك! ما جربوا من يؤم الناس غيرك! لا ولا بودهم أن صلت الناس.

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

هذا أشد سؤال ساخ مسمعهم كأنهم من فجيعات الونا سكروا      

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

كأنه سؤال مودع، نعم هو سؤال مودع، كأني أحسّ السؤال سكاكين تجري على أضلعي وفي القلب مضغة حزن يلونها مدمعي..

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

ولكنك لا تنتظرهم بل ستتركهم فقد اتخذت قرارك الأكيد بأنه الرفيق الأعلى، بأنه الرفيق الأعلى.

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

ولكنك لا تنتظرهم فلقد سجلت أجمل قرار خيرته فاخترته، ولكنه ليس القرار الجميل لأمتك أحسن الله عزائها بك.

إنها أظلم فصول رواية رواها الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إلى من بعدهم حتى الآن، لها مداد لا يكتب بحبر عادي، بل مخلوط بالعظام، ولا يُكتب كما تُكتب الأخابير، ولكنها نفس تذوب فتقطر.

حكاية موت ليست تقليدية، بل رنة حزن أبدية، والأمة تنسى حزنًا، لكن وفاة رسول الله ليست منسية.

"أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله"..

لن أتحدث عن موت رسول الله؛ لأنني أحس أن هذا الموت لا يعبر إلا عن نفسه، وأن تكون هناك صورة وأخيلة تعبرها الكلمات، فستموت الصورة بالكلمات، إن الحروف تموت حين تقال.

إنها صورة الوداع الأخير، والحشرجات المتأنية التي تخرج من صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لأصحابه: "أصلى الناس؟"، فيجبونه ويقولون له: "هم ينتظرونك يا رسول الله"، ينتظروك وآه على الوداع، وأي حزن وحشرجة الرحيل من الحبيب أشد من الوداع، لحظات الانتظار.

"إنهم ينتظرونك يا رسول الله"، وأي انتظار إنهم ينتظرون خليلهم وحبيبهم ورسول الله ينتظرهم ليصلي معهم.

أفمثل هذه الحال يا رسول الله تسألهم عن الصلاة؟ مسكينة تلك الكلمات التي تحاول أن تصور مقامًا يموت فيه رسول الله عدة موتات، ثم يفيق وهو يسألهم عن الصلاة أيّ شيء يمكنه أن تفعله في هذا المقام؟

أنس بن مالك  -رضي الله تعالى عنه- يقول كما روى أحمد والدارمي: "والله ما رأيت يوم كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وأدعكم مع عبيد الله بن عبد الله بن عتبة -رحمه الله تعالى- وهو يدخل على عائشة ثم يقول لها، يا أُماها حدثيني عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: نَعَمْ، مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَثَقُلَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، قَالَتْ: قُلْتُ: قَدْ فَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ بَعْدُ؟" فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّيَ بِهِمْ عِشَاءَ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ –أي ليقوم- فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ بَعْدُ؟" قُلْتُ: لَا يا رسول الله.

وتموت موتات شديد بأسها *** وتقول أنت لهم "أصلى الناس؟"!

ما للصلاة كأنها جمر *** بقلبك موقد أو مثلما النبراس

 فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُك أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ، إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْك رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَجَدَ خِفَّةً مِنْ نَفْسِهِ، فَخَرَجَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ لَهُمَا: "أَجْلَسَانِي عَنْ يَمِينِهِ"، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ، قَالَتْ: فَأَجْلَسَاهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ جَالِسٌ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ".

ومن كان متعزيا فليتعزَّ بمصيبة موت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، خبر مروع أثار نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- وكأن قلوبهم مخلوعة، وعيونهم مقلوعة، ووجوههم سوداء، وحبيب أمتهم يُساق إلى النوى سوقًا إليه، ولات حين عزاء.

قال أنس -رضي الله عنه-: "ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما رأيت يوم كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وقد حكى أنس عن ذلك اليوم وتلك الفاجعة فقال: "كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تُوُفِّي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة -حجرة السيدة عائشة -رضي الله عنها- ينظر إلينا، وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم ابتسم يضحك".

وعلام يبتسم الحبيب *** وإنه ليراهم بصلاتهم أمناء!!

قال: "فهممنا أن نُفتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- كادوا يخرجون من الصلاة عندما رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة الفرح، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا بيده النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر".

ورجوت عيني أن تكف دموعها *** يوم الوداع، نشدتها: لا تدمعي

هذا ولم يأتِ على النبي -عليه الصلاة والسلام- صلاة أخرى، بل بدأ بالاحتضار فأسندته عائشة -رضي الله عنها- إليها، وكانت تقول  -رضي الله تعالى عنها-: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما– على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار برأسه أن نعم،  فتناولته فاشتد عليه، فقلت أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فليّنته، فما أن فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السواك حتى رفع بصره نحو السماء وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة -رضي الله عنها- وهو يقول بتمتمات يسيرة (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69]، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ومالت يده الشريفة ولحق بالرفيق الأعلى (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 34- 35].

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا.

 أما بعد:

فَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْعَرْشِ أَبْقَاكَ بَيْنَنَا  *** سَعِدْنَا وَلَكِنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَاضِيًا

جزى الله عنا كل خير محمدًا  *** فقد كان مهديًا وقد كان هاديًا

وكان رسول الله روحًا ورحمة *** ونورًا وبرهانًا من الله باديًا

وكان رسول الله بالخير آمرًا *** وكان عن الفحشاء والسوء ناهيًا

وكان رسول الله بالقسط قائمًا *** وكان لما استرعاه مولاه راعيًا

وكان رسول الله يدعو إلى الهدى *** فلبى رسول الله لبيه داعيًا

وانتشر خبر وفاة رسول الله، فضجت المدينة كلها بالبكاء، وهكذا تُطوى أعظم صفحة في تاريخ البشرية جمعاء، مات خير الأنبياء، مات خير الأولياء.

مات الذي موته حزنا ومولده نعما وهجرته فتح وتاريخ...

مات ليكون هذا الموت إعلانًا لإكمال الدين، وإتمام النعمة، وكأن الله أرسل معنا يتلقفه من بعد رسول الله أن هذا الدين باقٍ، وكل دعاته على شموخ أزمانهم وقائدهم المحجل الغر الميمون محمد بن عبد الله راحلون إلى الله سائرون، ولقد أطلقها أبو بكر مدوية في أحياء المدينة "من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حي لا يموت"..

قدرنا في هذا المقام أن نعوج على ألمع الصور التي تركها في لحظات وداعه وهو يحشرج أنفاسه الخالدة، وكأن كل نفس من أنفاسه يبعث بوصية خالدة، كانت صور وداعه قذائف من الوصايا العظيمة هطالة بالمعنى الرفيع، تقذف بالنور، وبالهدى المبين ستبقى خالدة، وإن مات رسول الله، وإن انطفأت عين محمد بن عبد الله، فعين سنته خالدة، وإن مات رسول الله.

إن انطفأت عين محمد بن عبد الله، فعين سُنته لا تنطفئ، فهي عزاء من كل عزاء، وكأننا حين نقول: أحسن الله عزاءنا برسول الله، إن الله قد أحسن عزاءنا به حين أبقى قنوات محيطه الكبير تنزف لنا عظمة وسنة وهديًا وسمتًا ووصايا وبقايا الرسالة والنبوة، أمات رسول الله؟!

إن آخر لحظات الإنسان لتعبر عن صورته الصادقة، الصورة التي ليس فيها تجمُّل ولا فيها تصنع ولا تمثيل، أما رسول الله فحياته كلها ليس فيها ذاك، ولكن أيّ شيء مات عليه رسول الله؟!

إن أعظم فجيعة في تاريخ البشرية جمعاء هي وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعظم صورة لامعة في تاريخ تلك الفجيعة هي صورة الصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحشرجها من فمه الشريف، تتهادى من جسد مثقل من أعباء الوصاية الأخيرة، نعم "الصلاةَ الصلاة وما ملكت أيمانكم".

كان يعلم أن الصلاة هي الحبل الذي إن بقي بقيت جميع الحبال، وإن انصرمت فقد انصرمت، أكنتم ترون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلي وأنس -رضي الله عنه- يقول: "لما كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- سِتْر الحجرة ينظر إلينا، ونحن صفوف في الصلاة، فلما رأى ذلك المنظر المقشعر تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكأن وجهه ورقة مصحف من الفرح والسرور، يبتسم رسول الله، وهو في تلك الحال التي يوعك فيها كما قال: "كما يوعك رجلان من أشد الرجال"؛ لأنه كان يرى في ذلك المنظر مشهدًا حقيقيًّا لأعظم انتصار حققه خلال مسيرة الدعوة كلها.

نعم قالت له عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "وارأساه"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بل أنا ورأساه يا عائشة"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يعتد تلك اللغة الشاكية، لكنه قالها والحمى تفور من جسده وهو يغمى عليه إغماءات متكررة، لكنه لما رأى منظر أمته وهم صفوف في الصلاة تبسم -عليه الصلاة والسلام- يضحك كأن وجهه ورقة مصحف، كما يقول أنس -رضي الله عنه-.

تتلاشى مظاهر الحزن فيه *** حين تصطف في الصلاة الصفوف

أيّ إحساس جعله عليه الصلاة والسلام لا يحس بتلك الآلام؛ لأنه التقط صورة حية لأمته، وهي تجيب داعي الصلاة، ومن قال حي على الصلاة تجبه ثارات الثبات، ويا نظرة تستشف الوجود وتجلو على الناس عمر الخلود، تعلمنا أن درب الحياة بغير هدى الله درب كئود يحب الصلاة، ويشتاقها صلاة لرب غفور ودود.

كانت صورة منتفضة حية في ضمير السنة النبوية، أي صلاة هذه حتى كانت سببًا في إغماءاته المتكررة يغمى عليه ثم يقول "أصلى الناس"؟ فيقولون له: "هم ينتظرونك" ويقول: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فيغمى عليه مرة ثانية، ثم يفيق ثم يقول: "أصلى الناس"، فيقولون له: "هم ينتظرونك"، فيذهب ليقوم فيغمى عليه، ثم يفيق، ثم يغمى عليه، وهكذا أكثر من ثلاث مرات وهو يتحفز للصلاة، أي صلاة تلك حتى كانت سببًا في إغمائه وسببًا في ارتفاع الإغماء عنه في آنٍ واحد، فهو يريد أن يصلي فيغمى عليه، ثم يقوم من هذا الإغماء، وكأن يد تحركه وتوقظه أن الصلاةَ الصلاة.

صوت المآذن فيك يرفعنا *** إلى قمم تشيدها لنا الصلوات

ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، إن تاريخ تلك الفجيعة العظيمة ليأذن بنا أن نرعاها حق رعايتها، لنقول لجميع الأجيال: كل شيء يمكن أن يهون على عظم مصيبته إلا ترك الصلاة، فـ"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر"، نعم كان مشهدًا حيًّا، وأما الكلام عن فضل الصلاة وعظمتها وأسرار جلالها، فله تبيان ومقامات أُخر "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر" (رواه الترمذي وحسنه وأبو داود والنسائي).

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42- 43]، (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4- 5]، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].

كانت الصلاة مجتمع همّ الأنبياء جميعهم، ليس نبينا محمدًا بن عبد الله فحسب، هذا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يقول: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ)، ويقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم:40].

وقال تعالى عن موسى وهارون -عليهما السلام-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87].

وقال عن عيسى -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31]، وقال عن زكريا -عليه السلام-: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [مريم: 39].

وفي صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ"، وقال عن سائر أنبيائه -صلى الله عليهم وسلم-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم:58]، ثم قال (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مريم: 59- 60].

إن الكلام عن الصلاة ليست له مناسبة، فجميع أوقاتها مناسبات، والحديث عن الصلاة هو من نافلة الذكرى، وهو من فريضة الذكرى أيضًا.

كل يوم أجيال تنبت وصغار تكبر، وهذا الانحسار اليومي الذي تشهده المساجد عامًا بعد عام، لينبئ عن كارثة إيمانية حقيقية فهو يحتاج إلى ثورة تعيد جلال الصلاة وشموخها في نفوس الشباب والكبار والصغار، وأما الحملات المثقلات بالكيد والفجور لإبعادهم عن القرب إلى المساجد، فهي بينة جلى تولى كِبَرها شياطين الإنس والجن وشياطين الأنفس الأمارة بالسوء.

لقد عبر زمان -أيها الأولياء- مَن لم يحفظ عهد أبنائه بالصلاة، فلم يحق له أن يطلب منهم ما دون ذلك، عبر زمان -أيها الأولياء- طبعت فيه الشياطين من كل مكان ترك الصلاة حتى ترى الصغير أهون ما عليه التهاون بها، عبر زمان أدرك الولدَ الحلم ولا يؤمر بها، وعبر زمان الخلوف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

لا تقولوا ليس منا، هم منا ومن أصلابنا، وما ضيَّع الأولياء مثل الثقة العمياء، ما ضرَّ وليّ أن يحمل معه أولاده فينادي بهم، وما كان ضرّك أن تسقط الحملة الثقيلة فإنما هم نارك الحمراء أو هم جنتك.

أسقط الحمل الثقيل وأمانة أبت أن تحملها السماوات والأرض لتحملها أنت أيها الولي، فاتق الله، واستعد رؤى لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17]، فهل من مجيب؟!

كلما ردّدَ المؤذن لفظاً شعشع*** النور وانجلى كل غائنْ

تمسح الأرض من غبار الملاهي *** ودخان الهوى ولهو المفاتنْ

كل حرف من لفظه كل معنى *** من معانيه يستثير الكوامنْ

رددته منابر وقباب تتعالى *** ورجّعتْها ملاسنْ

واملأ النفس من شذاه عبيراً *** واملأ الروح من صداه ملاحنْ

فالتمس من خزائن الله ما شئت *** نوالا فليس لله خازنْ

رب إني ظلمت نفسي فغفرانك *** ربي.. إني مقرّ وذاعنْ

رب واجعل قلوبنا معزف الخير *** فلا نكتفي بصوت المآذنْ

اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.. واحفظ لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي