وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه، ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمَد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويُحَب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة. اهـ.
الحمد لله الذي يقضي بالحق وبالقسط أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عُصي فغفر، وأطيع فشكر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ وبشر وأنذر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه واتبع شرعه وعليه صبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
لما أسلم عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- وكان اسمه الحصين فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عبد الله. جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك وأن تسترني عنهم في حجرة من حجراتك، ثم تسألني عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام؛ فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني ورموني بكل ناقصة.
قال: فأدخلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض حجراته ثم دعاهم وأخذ يحضهم على الإسلام وهم يجادلونه بالباطل، فلما أيس منهم قال لهم: ما منزلة الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا وابن حبرنا وعالمنا، فقال: أرأيتم إن أسلم؛ أفتسلمون؟ قالوا: حاش لله! ما كان ليسلم! أعاذه الله من أن يسلم! قال عبد الله: فخرجت إليهم وقلتُ: يا معشر اليهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به محمد، فوالله! إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، وإني أشهد أنه رسول الله. فقالوا: كذبت! والله إنك لشرّنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني فيه.
إنهم اليهود الذين يبخسون الحقوق، ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومن بعد جاء عبّاد الصليب ليمارسوا نفس السياسة، فقال كبيرهم في هذا الزمن: إن من لم يكن معنا فهو ضدنا! لا وسطية ولا عدل ولا أنصاف حلول، ولا مراعاة للجوانب المضيئة، إنما هو النظر بعين البخس والجور والإجحاف.
وإن هذا الخلق ليس بغريب على أحفاد القردة والخنازير ولا على إخوانهم من عبدة الصليب، وبعضهم أولياء بعض، لكن العجب لا ينقضي حينما يكون في أهل التوحيد من يتلبس بداء الظلم وبخس الحقوق وجحد الفضائل في تعاملهم مع إخوانهم، بل مع علمائهم ودعاتهم.
لقد أفرزت الأحداث تبايناً في الآراء والمواقف، وكثر الخلاف، مما نتج عنه خلل في قواعد التعامل، وتولد عنه جور في إصدار الأحكام، وحيف في النظرة إلى الآخرين، وبخاصة إلى العلماء والدعاة.
لقد حفلت مجالس الناس ومنتدياتهم بمظاهر من النقد الهدام، وصور من التجني المغلف بغلاف الغيرة على الدين.
رأينا الجَرح بلا دليل، فيتعرض البعض لجرح الآخرين من غير حجة ولا برهان، وإنما للتشفي، وليصبح النقد مهنة لذلك المنتقد في نقد المخالفين.
ورأينا النقد وقد اعتمد على حجج واهية، إما لعدم التثبت، أو لعدم عدالة الناقل، أو لأنه يتهم في خبره، أو تحميل الكلام ما لا يتحمل، وهذا ملحوظ، والله المستعان!.
رأينا صوراً من تتبع العثرات، وعدم الموازنة بين هفوة الداعية أو العالم وفضائله الكثيرة، بل وغمْر تلك الفضائل العظيمة من أجل زلة وقع بها، ورأينا الطعن في النيات والمقاصد بدعوى أن مقصد ذلك الداعية سيء، والحكم عليه في نيته بالظن، وهذا مسلك خطير، فمعرفة ما في السرائر موكول إلى الله -سبحانه وتعالى-.
رأينا التندر على الدعاة في المجالس، واستغلال أي فرصة للغمز والطعن؛ بحجة بيان الحق وتعرية الباطل وأهله.
سمعنا التهويل في نقد بعض العلماء أو الدعاة ورميهم بالكذب أو البدعة أو المداهنة وتمييع الدين، كما سمعنا الجور والإفك في رميهم بالخروج، واتهامهم بالإرهاب، تجاوباً مع زيف الإعلام وزيغه.
سمعنا صوراً من الخلل في التربية على احترام الآخرين، وتفهّم وجهات نظرهم.
إذا خالفت رأي عالم أو داعية قالوا إنك عدو العلماء والدعاة، وإن عاتبت مجاهداً وخالفته في رأي من آرائه أو عمل نسب إليه قالوا إنك من خذلة المجاهدين، وإن ظللت سنين عدداً تسير على الحق الذي يوافقونه ثم خالفتهم يوماً في مسألة اجتهادية رفعوا أمامك شعار كفارات العشير: ما رأينا منك خيراً قط!.
تلك المظاهر نتجت عن غَيرة محمودة في بدايتها؛ لكنها قد تجر صاحبها إن لم يتحرز شيئاً فشيئاً حتى يقع في لحوم إخوانه ودعاته من حيث لا يشعر، أو هي نتاج حسد أو هوى، أو ثمرة تقليد وتعصب، أو إفراز للتعالم الذي كثر في عصرنا، أو سببها النفاق، وكره الحق، وسوء الظن، مع بعد الأمة عن علمائها.
أن تشن الهجمات الظالمة والاتهامات المعلبة والنقد غير النزيه على الدعاة إلى الله بعامة وعلى الأمة وقادتها ومجاهديها بخاصة من قبل اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين والقول في الصالحين والمصلحين من التجني والكذب والافتراء ما هو معروف مما يتقيؤونه ويسوّدون به الصفحات كل يوم، كل ذلك معلوم ومنتظر، والشيء من معدنه لا يستغرب؛ أما أن يتطرق التشكيك في كثير من الدعاة إلى الله من قبل نفر من أهل الإسلام، وأن يساء الظن بالصالحين من قبل فئة من المسلمين، فهذا مما لا يتوقع ولا يخطر على بال.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً *** على النفس من وقع الحسام المهندِ
إن موقف المسلم من إخوانه ممن تربطهم به عقيدة واحدة ومنهج واحد، وخاصة ممن لهم سابقة في الدين وبذل وجهاد في نشره والدعوة إليه، هذا الموقف يجب أن يكون على قواعد وأسس أشير إليها بإيجاز، والحر تكفيه الإشارة، ورب إشارة أبلغ من عبارة.
إن أول معلم من معالم الحكم على الآخرين ينبثق من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بني آدم خطاء"، فالخطأ صفة لازمة لا ينجو منها أحد من البشر ما عدا الأنبياء، ولو نجا منها أحد من الناس لنجا منها خير القرون، صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخ الإسلام: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون.
والمرء يعجب من صغيرة غيره *** أي امرئ إلا وفيه مقال؟
لسنا نرى من ليس فيه غميزة *** أي الرجال القائل الفعال؟
وثاني المعالم شعاره: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]. إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر وظاهرة قبل الحكم عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام وقبل التثبت التام منه، (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء:36]، فلا تتتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته من قول يقال ورواية تروى ومن ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية.
وآيات الكتاب وأحاديث السنة تتضافر على تقرير هذا النهج المتكامل، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هناك شك ولا شبهة في صحتها.
والمعلم الثالث عنوانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) [الحجرات:12]. إن أمر المسلم في الأصل قائم على الستر وحسن الظن به، وفي حادثة الإفك، عند ما قيل ما قيل، بيّن الله -سبحانه- الموقف الصحيح الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه، فقال: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور:12]، ثم بين أن التلفظ بهذا الكلام ونقله أمر عظيم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
ثم وعظنا الحق -سبحانه- أن نعود في الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم فقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [النور:17]، وقد بين -سبحانه- أن مجرد نقل الجرح في الآخرين بلا ضرورة شرعية وبلا تثبت وروية أنه إثم (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) [النور:11]، و"كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع".
ورابع المعالم شعاره: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) [الحجرات:12]. المؤمن يخاف من الله -عز وجل- قبل أن يتكلم في إخوانه أو يحكم عليهم وعلى مقاصدهم، إن المسلم الذي يحفظ قول الله: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)، ويسمع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا..."، وبلغه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه"، إن مسلماً يدرك هذا، لَحَرِيٌّ أن يكف لسانه عن الخوض في أعراض إخوانه المسلمين، ويمسك لسانه عن التجريح لعلماء الأمة ودعاتها، "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟".
يا من تقع في غيبة إخوانك بحجة التقويم والإصلاح: قبل أن تتكلم، اسأل نفسك بصدق وتجرد: ما هو الدافع الحقيقي لهذا الكلام؟ أهو الإخلاص والنصح لله ورسوله وللمسلمين، أم هو الهوى والحسد والكراهية؟ وتأمل في جوابك عند الله يوم يسألك عن قولك هذا...
وأما القاعدة الخامسة فشعارها: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235]. إن الكلام في الآخرين والحكم عليهم يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء:135].
قال شيخ الإسلام: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع". وقال الإمام الذهبي -رحمه الله- في ترجمة الفضيل: "إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه؛ فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن؛ إذا ثبت إمامة الرجل وفضله لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع".
وقال شيخ الإسلام واصفاً المنهج الصحيح في الحكم على الآخرين، وخاصة العلماء إذا أخطؤوا حتى في مسائل الاعتقاد، قال -رحمه الله- بعدما ذكر فئة من العلماء ممن لهم هفوات عقدية: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف".
ثم قال: "ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا".
لقد قال ربنا: (ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [الأعراف:85]، والعدل في وصف الآخرين يقتضي ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينهما، ولا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تدفن محاسن المرء لخطأ، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
المنصفون فقط هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء، فكيف إذا كان من إخواننا وعلمائنا ممن لا نتهمهم في عقيدتهم أو سلوكهم؟.
قال ابن رجب: "والمنصف من اغتفر قليل المرء في كثير صوابه"، وقال الذهبي: "ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن"، وقال ابن القيم: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها"، وكما قال شيخ الإسلام: "العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية".
وهكذا منهج القرآن والسنة، فكتاب الله ينصف أهل الكتاب: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران:75]، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصف حاطباً وقد ارتكب الخيانة العظمى بإفشاء أسرار الدولة، فيقول لعمر: "أليس من أهل بدر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه، ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمَد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويُحَب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة. اهـ.
إن الكلام في الآخرين بدون علم ولا عدل بل بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب، وحدوث الشحناء والحسد والتباغض، بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته.
أيها المسلمون: وإن من العدلِ في الأحكام: العدل في المفاضلة، والتفضيل بين الناس على وجهين: مطلق ومقيد، فالمطلق أساسه التقوى وقوة الإيمان، ولنا الظاهر، والله يتولى السرائر؛ والتفضيل المقيد حسب قيده، فالناس يتفاضلون في أمور ومواهب وقدرات، والتفضيل المطلق في كل الأمور يصعب الحكم به في كثير منها بلا تفصيل؛ لأن التفضيل بدون التفصيل لا يستقيم، ورُب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره بل كمال غيره بسواها، فكمال خالد بشجاعته، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال أبي ذر بزهده وورعه، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى والغرض.
وأما سادسة القواعد والمعالم فعنوانها: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا): كلنا نؤمن أن الحق معصوم وثابت، وأما الرجال فأعراض زائلون يقاسون بالحق ولا يقاس الحق بهم، وكثير منا يعلم ويردد قول مالك -رحمه الله-: "يؤخذ من قول كل أحد ويرد إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-"، فأين واقعنا مما نؤمن به؟ وأين ممارستنا مما نعلم؟ لنتأمل في أنفسنا؛ ما هو محور الولاء فيها؟ أهو الرجل أم الحق؟ وماذا نفعل حين تقدم لنا فكرة الرجل الذي نحبه تحت اسم الرجل الذي نكرهه؟ ألا يدفعنا ذلك إلى رفضها ربما دون النظر فيها؟ وهل يسهل علينا أن نرى الرجل الذي نحبه يخطئ أو نصف رأيه بأنه خطأ؟.
ولنتأمل في واقعنا: ما الروح التي تسيطر على عملنا الإسلامي؟ أليست روح القائد الملهم الوحيد الذي يصنع المعجزات ولا نتصور بقاء العمل مع غيابه؟ هل نتصور إمكانية تنحيته عن العمل؟ أم أننا نربط بينه وبين العمل ربطاً مصيرياً مهما كانت أعماله وتصرفاته؟.
إن واقعنا يؤكد أننا نسلك عملياً ما نرفضه نظرياً من شعارات المبتدعة كقولهم: المريد أمام شيخه كالميت بين يدي مغسله، وكقولهم: من قال لشيخه: لِمَ؟ فلن يفلح أبداً.
بل إن بعضنا قد ينحدر إلى درك سحيق فيكون شعاره في العمل: وافق أو نافق أو فارق، ولا شك أن هذا خطأ تجب التوبة منه، فالرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة وهو فيها معذور، بل ومأجور؛ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين، بل نجلّه، ونحترمه، وندعو له، وننتفع بعلمه.
ولا يتعدى به حد الرجل فنعتقد فيه العصمة من الخطأ، فإذا أخطأ لم نقلل من قيمته وقدره، هذه هي ميزة أهل السنة والجماعة دون غيرهم، إن انتسابهم وانتماءهم للكتاب والسنة، ومتبوعهم هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما الرجال عندهم فأدلاء على الحق، فما وافق من كلامهم الحق أخذوا به، وما لا فلا.
إن المقصود بذلك هو التعلق المرضي بالأشخاص الذي لا يستقيم معه حال ولا يرجى له مآل، وليس القصد تجريح العلماء أو انتقاصهم؛ بل المطلوب المتابعة والمحبة للعلماء العاملين والدعاة المخلصين، والاستفادة من تجربتهم، واحترامهم وتوقيرهم.
وثمة فرق بين التقدير والتقديس، والهدف أن نعرف جميعاً أن الحق حق دائماً، وأما الشخص فيمكن أن يكون محقاً أو مبطلاً، وهذا هو الموقف السليم بين الحق والرجل، والحق وإن كان قوياً بذاته فلا بد من أشخاص يحملونه، فإنا سألت: كيف نعرف هؤلاء من أولئك حتى نستفيد من الدعاة العاملين؟ فأقول لك: من ثمراتهم تعرفهم.
فمن قواعد الحكم على الآخرين الانشغال بأخطائنا نحن عن أخطاء غيرنا.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً *** إن عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه *** في كل نفس عماها عن مساويها
عرفتها بعيوب الناس تبصرها *** منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
قال ابن قتيبة -رحمه الله-: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس؛ لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها، والمبالغة والتهويل في نقد الغير غفلة عن عيب النفس.
ومنها عدم التهويل في الأمور الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد، فقد تكون الأمور التي ينتقد عليها بعض الدعاة أو العلماء أموراً اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل عند السلف، فيأتي بعضهم مهوّلاً: إن فلاناً قد خالف في المسألة الفلانية! وهذا خلل في المنهج وانحراف عنه!.
وليس الأمر كذلك، فلا ينبغي أن تجرنا الخصومة إلى هذا الحد، وحل القضايا وعلاجها ليس بالفضح والتشهير، وإنما بالرغبة الصادقة في الإصلاح، والصدق في التناصح.
وأخيراً، وقبل أن تعاتب أخاك: [ضَع نفسَكَ مكانَه]. روى الذهبي -رحمه الله- أن المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- وفد على معاوية -رضي الله عنه- فقضى حاجته ثم خلا به وقال: يا مسور، ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال دعنا من هذا وأحسن، قال معاوية: لا والله! لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي، قال مسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال معاوية: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟ فقال: ما تُذكر إلا الذنوب، قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال: نعم، قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن، والله! لا أخيّر بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يُقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال مسور: فخصمني، فلم يكن مسور بعد هذا يذكر معاوية إلا دعا له.
من هذا الحوار الجميل المؤدب بين صحابيين جليلين قد كان في نفس كل منهما شيء على الآخر نستنبط أمراً مهمّا في التربية ومعالجة الأخطاء، لو سرنا عليه في عتاب بعضنا لبعض لاختفى كثير من مفسدات الأخوة وذات البين، ولسلمت القلوب المخلصة من الإحن والأحقاد والشحناء والأهواء.
وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم الحاصلة بحكم الضعف وتغليب الهوى أحياناً، لا تلك الأخطاء الواقعة إصراراً ومكابرة وعناداً، عندما نمارس هذا الأسلوب فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء، وهو أسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم.
فما يكثر من الخلافات العائلية في كثير من البيوت وذلك بين الزوج وزوجته، أو الوالد وولده، أو بين الأخ وأخيه، أو بين الرجل وقرابته، حيث تؤدي كثير من هذه الخلافات بفعل الممارسات الخاطئة لعلاج الخطأ والأسلوب الغالط للعتاب إلى نهايات مؤسفة قد تكون طلاقاً أو قطيعة وهجراناً، أو ظلما وعدوانا.
وكذا ما يحصل من بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة والتي ينجم عنها لغياب المعالجة الشرعية العادلة كثير من العدوان والغيبة والأحقاد.
ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب في معالجة الخطأ ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ، وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه، لتطامن الناقد، وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذراً ، أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم ولا تهويل.
وكذلك الدعاة وأهل العلم في معالجتهم لأخطاء بعضهم، فلو أن الناقد انتبه لنفسه وما هي عليه من الأخطاء والذنوب لكان في ذلك من التطامن والتواضع مع صاحب الخطأ ما يجعل الناقد يضع الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ بالعدل ومحبة الإصلاح بعيداً عن حظوظ النفس والأهواء.
ولا يعني هذا تمرير الأخطاء وتبريرها، وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي، ولا تُنسى حسنات المخطئ ، كما لا ينسى الناقد أن عليه ذنوباً كما على غيره، والسعيد من لم تشغله عيوب الناس عن عيوب نفسه.
إن على كل مسلم أراد الحكم على غيره بدافع شرعي، أن يراعي هذه القواعد، فيتقي الله في نقده وألفاظه، ويخلص النية لله، ويتجرد عن الهوى وحظوظ النفس، ولا يتكلم إلا بعدل وإنصاف، ويقدم حسن الظن بالمسلم، ويوازن بين المحاسن والمساوئ، ويجعل لكثرة الحسنات وقوتها اعتبارها، ويتذكر أن الشخص الواحد غالباً ما يجتمع فيه أمران، فيحمد ويحب بسبب أحدهما، ويذم ويبغض بسبب الآخر، ثم يراعي أن تكون ألفاظه مهذبة، يبتغي بذلك وجه الله -تعالى-، فمن سلك هذا السبيل فيرجى له الصواب والسداد وعدم التبعة يوم القيامة بما يقول، ومن أخل بشيء مما سبق، فقد وقف على حفرة من حفر النار؛ فلينظر موضع قدمه أن تزل وهو لا يشعر، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
إننا من خلال هذه القواعد لا ندعو إلى السكوت عن أخطاء العلماء وكتاباتهم، ولكن بطرح هادئ هادف يحاط بسياج من الأدب والتثبت والعدل، بعيداً عن القيل والقال والانفعالات والمهاترات.
فما أحرانا بأن نتربى على هذه القواعد والمعالم ونربي عليها أجيالنا وشبابنا قبل أن نستيقظ يوما فنجدنا بلا مرجعية شرعية ولا قيادة علمية! فيتخذ الناس رؤوساً جهالا، وتنشأ التصرفات الهوجاء.
وما أجمل ما قال ابن القيم -رحمه الله- مبيناً منهج الموازنة: "عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها، أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ونلقى الله به، ولا قوة إلا بالله".
نسأله -تعالى- أن يجعل العدل لنا ميزانا، والحق لنا فرقانا، وأن يخلصنا من حقوق العباد، إنه الهادي إلى سبيل الرشاد.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي