الحقوق كثيرة

عبد الرحمن بن صالح الدهش
عناصر الخطبة
  1. قصة ابتلاء الأبرص والأقرع والأعمى بالنعم .
  2. تعلق القلوب بالنعمة قد يؤدي لجحودها .
  3. استدامة النعمة بشكر الله تعالى عليها .
  4. حلول رضوان الله تعالى على الشاكرين .

اقتباس

ألا وإن مما حدّث به النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله فأظهر من بينهم شاكراً وكافرَيْن؛ ليعلم العباد أنه قليل من عباد الله الشاكرون، فهي سنة ماضية قديمة في قلة من يقيم للنعمة وزنا، ويعرف فضل الله عليه بها. فإليك قصتهم على لسان الصادق المصدوق، مختصرة في حديثها، عظيمة في أحداثها.

الخطبة الأولى:

لقد حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بشيء من أخبار بني إسرائيل، وأذن لأمته أن يحدثوا عنهم ما لم يعلموا كذبهم فقال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".

فما أخبار بني إسرائيل؟ إنها قصص ما جرى عليهم في مواقف كثيرة في إقبالهم على الله وإعراضهم عنه، طالت مدتهم مع أنبيائهم وبعدهم فكانت أخبارهم عبراً للسائلين، وعظة وزواجر للمتعظين.

ألا وإن مما حدّث به النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله فأظهر من بينهم شاكراً وكافرَيْن؛ ليعلم العباد أنه قليل من عباد الله الشاكرون، فهي سنة ماضية قديمة في قلة من يقيم للنعمة وزنا، ويعرف فضل الله عليه بها. فإليك قصتهم على لسان الصادق المصدوق، مختصرة في حديثها، عظيمة في أحداثها.

روى أَبَو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.

وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ شَعرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.

وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا.

فَأنْتجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، ألَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَمَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ! فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ" رواه البخاري ومسلم.

أعظم دروس هذه القصة وحكمها أن الله ابتلاهم بالنعمة، وكشف الضراء والمحنة، فهم أصحاب عاهات ظاهرة، وحاجة ماسة، فأتى الابتلاء برفع هذا كله؛ والذي أنزل البلاء والداء قادر على رفعه إذا يشاء، (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد:41]، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22].

ولا يدري العبد أي حاليه هي أصلح له: أيبقى فقيراً مريضاً وعوض ذلك إخبات قلبه وقربه من ربه، أم غنياً معافى ولكنه في كل واد يهيم، تحكمه الشهوة، ويتخبطه الشيطان، فإلهه هواه أضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة. فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟! (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، "وإن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغني، ومنهم من لو أفقرته لأفسده الفقر".

فيا متعجلين وفرة في مالهم، وصحة في أبدانهم، لا عتب على من يطلب فضل الله، كيف وهو مأمور بأخذ أسباب كل خير، ومأمور بالدعاء في كل حاجة؛ ولكن، لعل الله منعك ليعطيك، نعم، ليعطيك من باب آخر في الدنيا أو في الآخرة ما هو أصلح لك، (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى:36]، من بابٍ لم يخطر على بالك: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68].

تمت نعمة الله على هؤلاء الثلاثة، برئوا في أبداهم، واغتنوا في أموالهم، فلكل واحد واد من بهيمة الأنعام أنفس الأموال والمقتنيات, كثرت وتوالدت، وهذه الكثرة لها أمد في حساب الله، وسنن لا بد أن تمر، فالعطاء قد يمتد لتتعلق النفس به، وكيف وهو يشهد مراحل نموه، وفترات تمدده؟.

ثم بالضرورة سوف يتبع هذا توابعه من عمال يقومون على هذه الأموال، ورعاة لهذه البهائم، وسوف يتبع هذا حديث الناس وتسامعهم بمال فلان وكيف فتح الله عليه! فيأتي اختبار شكر هذه النعمة، فيأتيه الملك بهيئة مسكين انقطع به سفره يطلب مساعدته، كيف وقد أتى كلاً من هؤلاء الثلاثة بصورته الأولى من البرص والقرع والعمى، وهذه صور تستدعي الوقوف مع صاحبها، والتعاطف مع حاله.

وهي رسالة تذكير فعلية لو عقلها هؤلاء، وصدق الله العظيم: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17].

أقول قولي هذا...

الخطبة الثانية:

الحمد لله.

تتمة القصة وبيت القصيد فيها، والعظة التي تحرك القلوب، بل وتفت الأكباد، هو الموقف الذي وقفه الأبرص والأقرع في جوابهم لهذا السائل، وإذا تشابهت القلوب في الإعراض تشابهت المواقف والأقوال.

فكما أن قلوب أهل الإيمان تتشابه في الحق واليقين، حتى يعرف ذلك من أقوالهم، فقلوب جاحدي النعمة المستعلين على الخلق تتشابه في الكبر والغفلة حتى تتفق من غير تواطؤ في العبارة والكلمة.

فكان جواب المخذولَين -نعوذ بالله من الخذلان-: الحقوق كثيرة، والمال قد ورثة كابراً عن كابر! فلم يسبق له حال سوء حتى وصل إلى ما وصل إليه من العافية في بدنه، والغنى في ماله! ومن كذب كذبة واحدة، فما المانع من أن يتبعها بكذبة أخرى وأكثر عند الحاجة ليبقى الفضل له؟ فعذرهما أن لديهما حقوقاً والتزامات كثيرة فلن يقدرا على مزيد حقوق يعطونها!.

أما إنه على كل كاذب علامة يفضحه الله بها! فالذي التزم حقوقاً كثيرة سنوية أو يومية، أيعجز عن حق سائل عارض لم يطلب كثيراً، وإنما طلب بلغة طريق؟ تعس عبد الدينار والدرهم!.

فانظر -يا عبد الله- حينما تطلب زكاة مالك، أو نفقة عيالك، أليس جوابك قريباً من هذا الجواب؟! قد يكون!.

فحلت نقمة الله على الكافرين بدعوة الملك: "إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت"، وقد كان كاذباً! والله شديد العقاب، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

بعد هذا: أحق بالنظر أن ينظر من نجا كيف نجا! إنه من قدر النعمة قدرها، وعرف منة مسديها، وقام بحقها، فكان جوابه: "قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ!".

اعتراف بالنعمة، وافتقار للمنعم، وكرم بمال الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فكانت مثوبته العاجلة أن حصل رضا الله عنه، قال الملك: "أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ". فلا تسأل عن عبد كان رضا الله رفيقَه في هذه الدنيا المتقلبة، التي يتعثر بها المفلسون، ويقف لأجلها الخاسرون.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة. اللهم إنا نسألك غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا اللهم -برحمتك- عمن أغنيته عنا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي