نصيحة من سجين

خالد القرعاوي
عناصر الخطبة
  1. مكانة العقل وأهميته .
  2. تفشي ظاهرة الخمر .
  3. المقصود بالخمر .
  4. بعض عقوبات الخمر في الدنيا والآخرة .
  5. إحصائيات مذهلة حول ضحايا الخمر .
  6. بعض شهادات واعترافات من وقعوا ضحية للخمر .
  7. واجب المجتمع تجاه آفة الخمر .

اقتباس

العَقْلُ جَوهَرةٌ ثَمِينَةٌ، نَحُوطُها بِالرِّعايةِ والحِمَايةِ؛ اعتِرَافاً بِفَضْلِهِ وَخَوْفاً مِن ضَيَاعِهِ وَفَقْدِهِ، وإذا أُهمِلَ العَقلُ وَضَاعَ، انحَرَافَ المَرءُ وَوَقَعَ فِي الرَّذائِلِ والآثَامِ. ومَعَ تِلكَ الحَقِيقةِ الرَّاسِخَةِ، فَقَد أَبَى البَعضُ إلاَّ الانْحِطَاطَ إلى دَرَكِ الذلَّةِ، والانحِدَارَ إلى المَهَانَةِ والقِلَّةِ، فَوَضَعُوا العَقْلَ تَحتَ أَقْدَامِهم، واتَّبعُوا شَهَواتِهم، وأَعمَوا أَبصَارَهُم بِأيدِيهِمْ، فَأَزَالُوا عُقُولَهم، فِي كَأْسَةِ خَمْرٍ، أو جُرعةِ مُخدِّرٍ، أو استِنْشَاقِ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ، فَانسَلَخُوا مِن عَالَمِ الإنْسَانِيَّةِ، ولَبِسُوا ثوبَ الإجرامِ والبَهِيمِيِّةِ!. أتَدرُونَ مَا آفَةُ المُجتَمَعَاتِ اليَومَ؟ إنَّها ...

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله أحلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الخَبَائِثَ، قَومٌ تَجَاوزُوا الحُدودَ، وانْتَهَكُوا الْحُرُمُاتِ، وآخَرُونَ سَلَكُوا الصِّراطَ فَاتَّقوا حَتَّى الشُّبهاتِ.

نَشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ، رَبُّ الأَرضِ والسَّمواتِ، غَافرُ الذَّنبِ وَقَابِلُ التَّوبِ، وَمُقِيلُ العَثَرَاتِ.

وَنَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَعَفُّ النَّاسِ عن الحَرامِ، حَذَّرَ أُمَّتهُ مِمَّا يَضُرُّ بِالأَدْيَانِ والعُقُولِ والأَبْدَانِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ والتَّابِعينَ لَهم بِإحسَانٍ وإيمَانٍ إلى يَومِ المَمَاتِ.

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-: فَبِالتَقوى تَصلُحُ الأُمُورُ، وتَزُولُ الشُّرُورُ، يَقُولُ تَعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].

هذا التَّكريمُ -عبادَ اللهِ-: تَمَثَّلَ فِي خَلْقِ اللهِ لَنَا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.

ثُمَّ كَرَّمَنا بِالعقلِ السَّليم الذي بِهِ نُميِّزُ الخَيرَ مِنَ الشَّرِ، والنَّافِعَ مِنَ الضَّارِ، قَالَ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "التَّفْضِيلُ إنِّما هُوَ بِالعَقْلِ الذي هُوَ عُمدَةُ التَّكلِيفِ".

العَقْلُ -يَا عُقَلاءُ-: جَوهَرةٌ ثَمِينَةٌ، نَحُوطُها بِالرِّعايةِ والحِمَايةِ؛ اعتِرَافاً بِفَضْلِهِ وَخَوْفاً مِن ضَيَاعِهِ وَفَقْدِهِ.وإذا أُهمِلَ العَقلُ وَضَاعَ، انحَرَافَ المَرءُ وَوَقَعَ فِي الرَّذائِلِ والآثَامِ.

ومَعَ تِلكَ الحَقِيقةِ الرَّاسِخَةِ، فَقَد أَبَى البَعضُ إلاَّ الانْحِطَاطَ إلى دَرَكِ الذلَّةِ، والانحِدَارَ إلى المَهَانَةِ والقِلَّةِ، فَوَضَعُوا العَقْلَ تَحتَ أَقْدَامِهم، واتَّبعُوا شَهَواتِهم، وأَعمَوا أَبصَارَهُم بِأيدِيهِمْ، فَأَزَالُوا عُقُولَهم، فِي كَأْسَةِ خَمْرٍ، أو جُرعةِ مُخدِّرٍ، أو استِنْشَاقِ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ، فَانسَلَخُوا مِن عَالَمِ الإنْسَانِيَّةِ، ولَبِسُوا ثوبَ الإجرامِ والبَهِيمِيِّةِ!.

أتَدرُونَ مَا آفَةُ المُجتَمَعَاتِ اليَومَ؟

إنَّها -واللهِ- الْمُسكِراتُ والمُخدِّراتُ، أمُّ الخَبَائِثِ، وَأصلُ الشُّرورِ والمَصَائِبِ، هِيَ لُغمٌ خَطيرٌ، يُفسِدُ الشُّعُوبَ وَيُهدِّدُ قِيَمَها وأَخلاقَهَا!.

إنَّها -قَاتَلَها اللهُ- دَوَّامَةُ الضَّيَاعِ والحِرمَانِ، وَضَيَاعُ الحَيَاءِ والإيمَانِ، جَرائِمُ وَمَآسٍ وأَهوالٌ، شَابَ مِنها الصِّغَارُ وأَبْكَتْ وأَحرَقَتْ أَكبادَ الكبارِ!نَسِيَ السَّكرانُ والْمُخدَّرُ رَبَّه، فَظَلَمَ نفْسَهُ، ومزَّق حَياءَهُ، وأَيتَمَ أَطْفَالَهُ وَأرْمَلَ زَوجَتَهُ، وَفَضَحَ أَهلَهُ، وصارَ نَقْصَاً على سُمعَةِ أَهْلِهِ وَبَيتِهِ!: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 90- 91].

والْخَمْرُ، كُلُّ مَا خَامَرَ العَقْلَ وغَطَّاهُ مَهمَا كَانَ نَوعُهُ، وأيًّا كانَ اسمُهُ وَجِسمُهُ وَجِنْسُهُ، فِي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ".

وعِندَ مُسلِمٍ أيضاً عَنْ جَابِرٍ -رضي اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ، وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ".

حَقَّاً إنِّها نُصُوصُ زَجْرٍ وَوَعِيدٍ، يَقِفُ عِندَ حَدِّها مَنْ يعلَمُ أنَّهُ مُحَاسَبٌ غدًا أَمَامَ العَزِيزِ العَظِيمِ المَجِيدِ: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الحج: 10].

أيُّها المُؤمِنُونَ: -حَمَانا اللهُ وإيَّاكُم وَذَرَارِينَا والمُسلِمينَ أجمَعِينَ-: لَقَد تَوَعَّدَ اللهُ شَارِبي الخُمُورَ ومُتَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ بِعُقُوبَاتٍ دُنيَوِيَّةٍ وأُخرَوِيَّةٍ، أَفْضَعُها وأبشَعُها: الَّلعنُ والطَّردُ مِن رَحمَةِ اللهِ -تَعَالى-، حَدَّثَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فَقَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَة إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَمُسْتَقِيَهَا" [رَواهُ أحمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ].

وكُلُّكُم يَعلَمُ أنَّ مِنَ المُخدِّراتِ ما هو أكثَرُ فَتْكَاً مِن المُسكِراتِ!.

وَمَعَ الأسَفِ والأَسَى: لَمْ تَفْشُ فِي عَصْرٍ كَمَا فَشَتْ فِي مِثلِ عَصْرِنَا! فَهَاهِي وَسَائِلُ إِعلامِنا تُطالِعُنا صَبَاحَ مَسَاءَ كَاشِفَةً عنْ كَمِّيَّاتٍ مُخِيفَةٍ وَعِصَابَاتٍ نَتِنَةٍ مِن جِنْسِيَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ لأوكارِ المُخدِّراتِ والمُسكِراتِ!.

الأَمرُ الذي يَجعَلُنَا فِي قَلَقٍ وخَوفٍ؛  لِأَنَّ ضَحَايَاها شَبَابٌ فِي سِنِّ الزُّهُورِ!.

أتَعلمونَ -أيُّها الكِرامُ-: أنَّ طُلاَّبَ المَرْحَلَةِ الثَّانَوِّيَّةِ والجَامِعِيَّةِ هُم أكثرُ ضَحَاياها! كَمَا صَرَّح بِذَلِكَ المَسئُولُونَ! بل وشَبَابٌ في السِّلكِ العَسكَريِّ، فَقَدُوا وَظِائِفَهُم وَمُستَقبَلَهُم بِسَبَبِها!.

عِبادَ اللهِ: أظُنُّكم قَرأتُم الأَرْقَامَ التي نُشِرَت في الصُّحُفِ المَحَلِّيَّةِ يَومَ الاثنَينِ المَاضِي عن إحصائيَّاتٍ تَمَّ ضَبطُهُا خِلالَ عامِ أَلْفٍ وأَربَعِ مِائِةٍ وَسِتَّةٍ وثَلاثِينَ هِجْرِيَّةٍ؟

أيُّها الكِرامُ: أَرْعُونِي أسْمَاعَكُم- وأَسأَلُ اللهَ أنْ يَربِطَ على قُلُوبِكُمْ على مَا تَسمَعُونَ!-.

صَرَّحَ المُتَحَدِّثُ الأَمْنِيُّ لِوِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ عَنْ جَرَائِمِ تَهرِيبِ وَتَرْوِيجِ المُخَدِّرَاتِ خلالَ العَامِ المَاضِي أنَّهُ تَمَّ القَبْضُ على أكثَرَ من أَلْفَي مُتَوَرِّطٍ ما بينَ مُواطِنٍ وَمُقيمٍ! نَتَجَ عَنْ تِلكَ المُواجَهَاتِ إِصَابَةُ اثنَي عَشَرَ رَجُلا، وَمَقْتَلُ وَاحِدٍ!.

وَبَلَغَ مَا تَمَّ ضَبْطُهُ بِحَوْزَتِهِمْ مِن أَقْرَاصِ مُخَدِّرَةٍ اثنَانِ وعِشْرُونَ مَليونَ قُرْصٍ.

وَتَمَّ ضَبْطُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ طَنَّاً مِن الحَشِيشِ.

وَكَذَالِكَ سِتَّةً وَعِشْرِينَ كِيلاً مِنْ الهِيرِوِينِ الخَامِ!.

كَمَا تَمَّ ضَبْطُ أكثَرَ مِنْ ألفٍ وَمِائَتَي قِطْعَةِ سِلاحٍ حَيٍّ ما بينَ رَشَّاشٍ وَبُنْدِّقِيَّةٍ وَقُنْبُلَةٍ يَدَوِيَّةٍ!.

وبَلَغَ إجمَالِيُّ المَبَالِغِ المَالِيَّةِ التي تَمَّ ضَبْطُها بِحَوْزَةِ المَقبُوضِ عَليهم أكثَرَ من واحِدٍ وأربَعِينَ مَليونَ رِيالٍ!.

مُؤَكِّدَاً حِرْص رِجَالِ الأَمْنِ على تَنْفِيذِ مَهَامِّهِم لِحَمَايَةِ أَبْنَاءِ وَطَنِهمْ.

أسألُكُم باللهِ: هَلْ كُنتُم تَتَصَوَّرُونَ أنَّ هذا يَكُونَ فِي أَرْضِ الحَرَمَينِ وَمَهبِطِ الوَحْيَينِ؟.

لا وَما لَم يُضبَطُ اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

نَسألُ اللهَ أنْ يَرُدَّ كَيدَ المُفسِدِينَ في نُحُورِهم، وأن يَحمِيَنا وَذَرَارِينَا والمُسلِمينَ أجمَعينَ.

أَقولُ مَا سَمِعتُم، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم والمُسلِمِينَ، فَاستَغفِرُوهُ إنِّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ. 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ واسعِ الفَضْلِ والعَطَاءِ، سَمِيعِ الدُّعاءِ.

نَشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء) [سبأ: 2].

ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُه، الْمُستَغفِرُ رَبَّهُ صَبَاحَ مَسَاءَ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى الِه وأَصحَابِهِ الأَوفِياءِ، وَمَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ مَا أَشْرَقَ صُبحٌ وأضاءَ.

أمَّا بعدُ:

أيُّها النَّاسُ: أُوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوى اللهِ -تَعالَى- وطَاعَتِهِ، فالْمُتَّقونَ همُ النَّاجونُ، والظَّالِمونَ والْمُذنِبُونَ هم الأَخسَرُونَ.

أيُّها المُصَلُّونَ: لا أُخفيكُم سِرَّاً أنِّي وَبعدَ اطِّلاعي على تِلكَ الأرقامِ المَهُولَةِ، أَخَذْتُ أبحَثُ عن بَعْضِ الحُلُولِ التَّوعَويَّةِ النَّافِعَةِ والمُؤثِّرَةِ، وأيقَنتُ أنَّهُ لا أحَدَ أَعرَفُ بِشِعَابِ مَكَّةَ مِن أَهلِهَا، فَطَلبتُ مَوعِداً لِزِيارةِ سِجْنِ المُحافَظَةِ قِسمَ المُخَدِّراتِ خاصَّةً!.

وفِعلاً تَمَّ الأمْرُ بِحمدِ اللهِ قَبْلَ يَومَينِ، وجَزى اللهُ خيراً كُلَّ مَنْ سَاهَمَ وأعانَ.

واللهِ لَقد رأيتُ عَجَباً! وَسَمِعتُ عَجَباً! في مُخَيَّلتِي أنَّهُم شَبابٌ طَائِشٌ عَابِثٌ فَحسبُ، وإذِ الأمْرُ فَوقَ ذالِكَ! رِجَالٌ كِبَارٌ آباءٌ وأجدَادٌ، وَمُوظَّفُونَ وَعَسكَرِيُّونَ وعاطِلونَ! من المُحافَظَةِ ومِمَّا جاوَرَها مِن المُدُنِ والقُرى والهِجَرِ! كانَت جَلسَةَ مُصارَحَةٍ وَمُناصَحَةٍ وتَوجِيهٍ وَمُنَاشَدَةٍ لَكُمْ.

نَعَمْ، لَكُم أنتُم أيُّها المُصَلُّونَ والمُستَمِعُونَ.

أيُّها الإخوةُ: مَا أذكُرُهُ لَكُم هو -واللهِ- مِن أَفْوَاهِهم، ولا يَعنِي ذالِكَ مُوافَقَتَهُم بِكُلِّ ما يَقُولونَ أو يُبَرِّرونَ.

ولَكن دَعُونَا نَأْخُذُ العِبرَةَ مِن تَجَارِبِهم، ومِمَّا إليهِ يَطْمَحُونَ.

قَالُوا: مُشكِلَتُنا نَظْرَةُ المُجتَمَعِ القَاسِيَةِ لَنا بَعدَ خَطَأنِا وَخُرُوجِنَا وَتَوبَتِنَا لَقَد حَكَمُوا علينا بِالهَلاكِ والضَّياعِ والدَّمارِ!.

يَكْفِي أنَّنا فَقَدنا وَظَائِفَنا وأنَّنا سُجِّلنا في سِلْكِ أَصحَابِ السَّوابِقِ ولِهذهِ مِنْ الأَخْطَارِ مَا لا يَعْلَمُهُ إلاَّ نَحنُ.

خَطَبْنَا فَلَمْ يُزَوِّجُونَنا، طَلَبنا العَمَلَ فَلمْ يُمَكِّنُونَنَا. أَسْعِفُونَا ولو بِأنْ نَكُونَ حُرَّاسَ أَمْنٍ في أيِّ مَكَانٍ!.

يا اللهَ أَسَمِعتُم -مَعاشِرَ الشَّبابَ- حَجْمَ المُعانَاتِ التي يُعَانُونَها!.

سَأَلتُهُم عَنْ أهمَّ أسبابِ وقُوعِهِم في شَرَكِ الْمُخدِّراتِ تَعَاطِياً وَتَرْويْجَاً؟ فكانت إجابَتُهم على النَّحوِ التَّالي:

قالَ لي أحدُهم: أهملتُ الصَّلواتِ وتَكَاسَلْتُ عنها فَضَاقَتْ عليَّ نفسيِ، ظَننتُ أنَّ الحلَّ في الْمُخدِّراتِ!.

فَقُلْتُ لهُ: صدَقَتَ، فإنَّ اللهَ -تَعالى- يَقُولُ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طـه: 124].

قالَ لي آخَرُ: أَصْدَقَاءُ السُّوءِ تعرَّفتُ عليهم فأورَدُني المَهالِكَ، قُلْ للآباءِ يَنتَبِهُوا لأولادِهم مَعَ مَنْ يَمشُونَ وَمَنْ يُجالِسونَ؟

فَسَأَلتُهُ: وأينَ يَكثرونَ؟

فَقَالَ: فِي المَقَاهِي حَيثُ الجَلْساتُ وبَرَّادَاتُ الشَّاي والدُّشُوشُ وليَّاتُ الشِّيشَةِ، نَاهِيكَ عَنْ الاستِرَاحَاتِ الشَّبابيَّةِ، التي يَكثرُ فيها الهَزَلُ، ويَقِلُّ فيها النَّاصِحُ!.

طالَبَني أحدُهم أنْ اُذَكِّرَكُم إلى ضَرورَةِ العَدْلِ بَينَ الأولادِ في المَحَبَّةِ والعِقابِ فَعَدَمُهُ مِن أعظَمِ أسبَابِ الانحِرَافِ!.

حينَها تَذَكَّرتُ قَولَ مَنْ لا يَنطِقُ عن الهوى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ".

قَالَ عَدَدٌ مِنهُم: بَحَثْنَا عن المَالِ بِأسرَعِ طُرُقِهِ فَوَجدْناهُ في المُخَدِّراتِ ولِكِنَّ النِّهايَةَ كَما تَرى! ضَيَاعُ مُستَقبَلٍ كَاملٍ إلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ -تَعالى-!.

قَالُوا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: الدُّخانُ جَرَّنا إلى المَهالِكِ وهوَ مِفتَاحُ المُخَدِّراتِ!.

قَالَ بَعضُهم إِسَاءَةُ مُعامَلةِ: أَبِي وأَخِي الأَكْبَرِ هي سَبَبُ هُرُوبي وضَيَاعِي!.

قُلتُ لَهُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حينَ قَالَ: "مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ".

قَالَ أحدُهُم: حُبُّ الشُّهرَةِ والتَّحدِّي والمُغَامَرَةِ سَبَبُ ضَيَاعِي!.

وَقَالَ أحَدُهُمْ: تَكَسُّرُ الشَّابِّ وإغرَاقُهُ بالاهتِمامِ بِمَظهَرِهِ وَلُبسِهِ وشَعْرِهِ سَبَبٌ في الطَّمَعِ بِهِ ولو كَانَ كَبِيراً!.

قالَ أحَدُهُم: لم أشعُر يَومَاً أنَّ والِدي حَريصٌ على دِراسَتي ولا صُحبَتي فَلا سُؤالَ ولا كَلامَ ولا كَأَنِّي بَشَرٌ! بَينما غَيرِي آبَاؤُهُم يَزُورونَ وَيَتَفَقَّدُونَ، وَمعَ أولادِهم يَأنَسُونَ! يَشْتَكِي عَامَّتُهُم أنَّ الفَرَاغَ القَاتِلَ، والبَطَالَةَ الْمَقِيتَةَ ضيَّعتُهُم وأَهلَكَتْهُمْ!.

وهُنا دَرْسٌ لَنا -مَعَاشِرَ الكِرامِ-: أنْ نَحرصَ على مَلءِ فَرَاغِهم بِما يَنفَعُهُمْ في أَمْرِ دِينِهِم وَدُنياهُم.

قَالَ لي أحَدُهم: أنَا طالبٌ جامِعيٌّ أَدْمَنْتُ مُشَاهَدَةَ الأَفْلامِ عَبْرَ الشَّبكاتِ والقَنَواتِ شَاهَدتُّ مَنْ يُسمَّونَ بالفَنَّانِينَ والنُّجومِ، وفِي يدِ أَحدِهم كَأْسُ خَمْرٍ، وفي الأخَرى سِيجَارَةُ مُخَدِّرٍ أو حَشِيشٍ! صَوَّرُوهُم لَنا أنَّهُم في قِمَّةِ الأُنْسِ والسَّعادَةِ.

فَقُلتُ: هذا الطَّريقُ! فَأنا الآنَ كَما تَرى! لَعَنَ اللهُ وَسَائِلَ الإعلامِ التي زَيَّنَتْ لَنَا المُخَدِّراتِ والمُسكِرَاتِ فَأورَدَتنَا المَهالِكَ.

عباَدَ اللهِ: ولا تَنْسَوا أنَّ بَعضَ العَمَالَةِ سَبَبٌ فِي انْتِشَارها لِرَغْبَتِهم بِالحُصُولِ على الأَموَالِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ! فلا تَستُروا عليهم افضَحُوهُم وَغَيرَهُمْ أَخْزَاهُمُ اللهُ وَفَضَحَهُم على رُؤوسِ الأشهَادِ.

أيُّها الكِرَامُ: وإنَّنَا لَنَدْعُ اللهَ -تَعالَى- بالتَّوفِيقِ لِرجَالِ مُكَافَحَةِ المُخدِّراتِ والهَيئَاتِ جَعَلَ ما يقدِّمونَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهم، وَبَارَكَ فِي جُهُودِهِم.

يا مُسلِمُونَ: إِنَّ المُبتَلَينَ بِالمُخَدِّرَاتِ مَرضَى يَحتَاجُونَ  إِلى رِعَايَةٍ وَعِلاجٍ، فَلا بُدَّ مِن فَتحِ القُلُوبِ لهم، بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، ومُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ، وَأَسَالِيبَ مُنَوَّعَةٍ، كَمَا عَلينَا الإلحَاحُ بِالدُّعَاءِ لهم.

معاشر الشَّبَاب: يَا َفَلَذَاتِ أَكبادِنَا، أدركتم أَنَّ طَرِيقَ المُخَدِّرَاتِ مُوحِشٌ وَمُظلِمٌ، وَعالَمٌ كَئِيبٌ، خِزْيٌ في الدُّنيَا وَخسارَةُ الآخِرَةِ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ شَبَابَنَا، وَكُونُوا أَقوِيَاءَ بِدِينِكُم مُتَوَكِّلِينَ عَلَى رَبِّكُم، إلزَمُوا رِفقَةً صَالِحَةً وَلا تَجعَلُوا أَنفُسَكُم عَبِيدًا للمُسكِراتِ واِلمُخَدِّرَاتِ، أو رَهَائِنَ في أَيدِي المُرَوِّجِينَ وَالمُفسِدِينَ.

واعلموا شَبَابَنَا، أنَّ الذِّئابَ البَشَرِيَّةَ يَستَغِلُّونَ أمَاكِنَ تَجَمُّعاتِكِم لِتَّروِيجِ بِضَاعَاتِهمْ فلا تَكُونوا ضَحَايا لإجْرَامِهم!.

فَانتَبِهُوا لأَنفُسِكُم -يا رَعَاكُمُ اللهُ-، وَاحفَظُوا أَغلَى مَا تَملِكُونَ حَفِظَكُمُ اللهُ.

حمى اللهُ ذَرَارِينَا والمُسلِمِينَ من كلِّ شرٍّ ومكروهٍ.

الَّلهم أحفَظ عَلينا دِينَنَا وأَخلاقَنَا، وَعَافِنَا فِي أَنْفُسِنَا وأَهلِينا، وقِنَا والمسلمينَ شرَّ هذهِ البَلايا، ورُدَّ ضالَّ المسلمين إليك ردًّا جميلاً.

اللهم وفِّق ولاةَ أمرِنَا للقضاءِ على الفسادِ والمفسدينَ، واجعلهم لِشَرعِكَ مُحَكِّمينَ.

اللهم قوِّ عزائِمَهُم على الْحقِّ والهدى والدِّينِ.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.

عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي