فاتق الله -يا عبد الله- حيثما كنت، واعلم أن الله –سبحانه- مطّلع على سرك وعلانيتك،.. فلنتق الله –تعالى- في تربيتنا لأولادنا، ومحافظتنا على حجاب نسائنا وبناتنا، ولنتق الله –تعالى- في كسبنا وصرفنا لأموالنا، ولنتق الله –تعالى- في إعطائنا الحقوق لعمالنا ومن تحت أيدينا، ولنتق الله -تعالى- في سمعنا وبصرنا عما حُرِّم علينا؛ فلنتق الله -تعالى- ولا نبارز الله بالقبيح، قال أبو سليمان: "الخاسر: من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح مَن هو أقرب إليه من حبل الوريد".
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
عباد الله: خير ما ننهل منه لمعرفة طريق الاستقامة، هو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فالتمسك بسنته والاقتداء بها مما يعين على الثبات على هذا الدين والممات عليه.
وهذا حديث من السنة لعلنا نستقي منه الفوائد والأحكام، ويكون عوناً لنا في الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ،وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (رواه الترمذي وقال حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقِ اللَّهِ): أي اتخذ وقاية من عذاب الله -عز وجل- بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
قال الحسن: "اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدوا ما افتُرضَ عليهم".
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- في قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران:102]، قال: "أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر". (تفسير ابن كثير).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ": يعني في أي مكان، في السرِّ والعلانية، حيث يراك الناس، وحيث لا يرونك.
فاتق الله -يا عبد الله- حيثما كنت، واعلم أن الله –سبحانه- مطّلع على سرك وعلانيتك، فإنه سبحانه: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:7]، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) [المؤمنون:110]، (يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [النور: 29]، والله سبحانه: (بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحجرات:18].
فلنتق الله –تعالى- في تربيتنا لأولادنا، ومحافظتنا على حجاب نسائنا وبناتنا، ولنتق الله –تعالى- في كسبنا وصرفنا لأموالنا، ولنتق الله –تعالى- في إعطائنا الحقوق لعمالنا ومن تحت أيدينا، ولنتق الله -تعالى- في سمعنا وبصرنا عما حُرِّم علينا؛ فلنتق الله -تعالى- ولا نبارز الله بالقبيح، قال أبو سليمان: "الخاسر: من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح مَن هو أقرب إليه من حبل الوريد".
وكان الإمام أحمد يتمثل أبياتاً:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ساعةً *** ولا أنَّ ما يخفَى عليهِ يَغِيبُ
فمن اتقى الله وصار له هذا المقام حالاً دائماً أو غالباً فهو من المحسنين، الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا"، فإنه لما كان العبد مأموراً بالتقوى في السر والعلانية، مع أنه لا بد أن يقع منه -أحياناً- تفريط في التقوى، أمره أن يفعل ما يمحو به هذه السيئة، وهو أن يتبعها بالحسنة.
وقد وصف الله المتقين بمثل ما وصف به النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصية، في قوله -عز وجل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133-136].
فوصفَ المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم: بالإنفاق، وكظم الغيظ، والعفو عنهم؛ ثم وصفهم بأنهم (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) ولم يصرّوا عليها؛ فدلّ على أن المتقين قد يقع منهم أحياناً ذنوب، لكنهم لا يصرون عليها، بل يذكرون الله عقب وقوعها؛ أي يذكرون عظمته وشدة بطشه وانتقامه، فيستغفرونه ويتوبون إليه منها، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
فلنكثر من الاستغفار عباد الله، ولنبادر إلى التوبة من الذنوب، فإن هذا عين التقوى، ولنكثر من الحسنات فإنها تذهب السيئات، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114]؛ وفي صحيح مسلم عن عثمان -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ" (مسلم: 245).
وقال مالك بن دينار: "البكاء على الخطيئة يحطُّ الخطايا، كما تحط الريحُ الورقَ اليابس".
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].
عباد الله: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"، أي: عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول والفعل؛ وهذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، لأن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله، دون حقوق عباده. فالجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً؛ لا يقوى عليه إلا الكُمَّلُ من الأنبياء والصديقين.
ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" (رواه أبو داود: 4682، والترمذي، وصححه الألباني).
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ" (رواه أبو داود: 4798، وصححه الألباني).
بل تكفَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه.
فحُسن الخُلق -كما يقول ابن المبارك-: "هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى".
وضابط ذلك ما ذكره الله -عز وجل- في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
فما أحوجنا -عباد الله- للعمل بهذا الأمر الرباني وتطبيقه في واقعنا، حيث كثر الجهل والسفه والإساءة، ولو قُوبل أصحاب هذه الأوصاف الدنيئة بالمثل لما صفت حياة المسلم أو طابت، فهذا يستهزئ، وآخر قد يشتم، وثالث ورابع...
فما أحوجنا إلى التربية الخُلقية الرفيعة السامية التي أسَّسها القرآن الكريم في كثير من الآيات كهذه الآية.
وما أجمل ما سطّره العلامة السعدي قي تفسيره حيث يقول: "هذه الآية جامعة لحسن الخُلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم؛ فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغضّ طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.
"وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية؛ ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه -تعالى- أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه".اهـ.
ولتطبيق هذا الأمر القرآني في حياتنا نحتاج أولاً إلى الاستعانة به سبحانه؛ فهو نِعْم المعين لمن استعان به، والإلحاح في دعائه سبحانه أن يحسِّن أخلاقنا ويرزقنا الخلق الحسن وأخص بالذكر هنا: كظم الغيظ والحلم والصفح.
ثم النظر في سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خير زاد للسالك في هذا الطريق، وكيف لا تكون كذلك وقد صح عنه -صلى الله عليه سلم- أنه قال: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"، وفي رواية: "صالح الأخلاق" (السلسلة الصحيحة للألباني: 45).
فلنتق الله -تعالى- في كل أحوالنا، ولنكثر من الأعمال الصالحة، ولنحسِّن أخلاقنا في معاملاتنا مع غيرنا، ولنقابل الإساءة بالإحسان.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي