المطر جندي من جنود الله؛ يدبره كيف يشاء، ولا يعصي لخالقه أمراً, المطر قطرات من ماء إذا زادت أغرقت وجرفت, وفتكت ودمرت, وهذا صنع الله وقدرته في الماء الذي هو أيسر الأشياء، فما الطن بما هو أعظم منه؟! كم رأى الناس من فيضانات مدمرة وأعاصير مهلكة, وأمطارٍ مغرقة, تقف أمامها القوى عاجزة, ولا يملك الناس وهم يرون سيلها وسيرها, وعظمها وأثرها إلا أن يذعنوا لله وينسبوا له القدرة. ولا يذهب وهلك بعيداً, فما زال الناس في هذه البلاد في أذهانهم بقايا ذكريات لسيول غمرت وخلفت ضحايا. لأجل كل ذا, فحين تأتي الأمطار سلوا المولى أن تكون رحمة لا عذاباً, ...
الحمد لله العزيز الوهاب، الغفور التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، خلق الخلق فأحصاهم عددًا، وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وهو العظيم القاهر فلا يعجزه أحداً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أئمة العلم والهدى ومصابيح الدجى وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْـــد:
عبـــاد الله: لقد كان من أهم القيم التي غرسها محمد -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه، وربَّى عليها أتباعه هي مراقبة الله والخوف منه واستشعار عظمته والوقوف عند أمرة ونهيه، وها هو -صلى الله عليه وسلم- يعلّم ابنَ عباس -وهو غلام صغير- هذه المبادئ والقيم العظيمة فقال له: "يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رُفعت الأقلام، وجفت الصحف" (رواه الترمذي)..
وكان القرآن ينزل تثبيتًا وتدعيمًا لهذه التربية قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا) [آل عمران:30]، وقال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل: 111]، وقال تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235]، ويقول سبحانه: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
وقال تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَـاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ في كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].. وهذا لقمان -عليه السلام- يربّي ابنه فقال له ناصحًا وموجهًا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان 16].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل سـاعة *** ولا أن ما تخفيه عنـه يغيب
فاجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عليك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه، إن الذين يتحلون بفضيلة المراقبة هم خيار العباد من العقلاء، وصفوة الناس من الأتقياء، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره خفَّ يوم القيامة حسابه، وحضر له عند السؤال جوابه، وحسُن منقلبه ومآبه.
ومَن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في ساحة القيامة وقفاته، وقادته إلى العقاب سيئاته، قال الله -عز وجل- وهو يعرض هذه الحقيقة في قصة ابني آدم قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 27-31]..
إن المرء ليتساءل.. ما الذي جرَّأ الأخ على قتل أخيه وسفك دمه، وما الذي عصم الآخر من ارتكاب نفس الخطأ ونفس الجريمة أليس الخوف من الله ومراقبته واليقين بلقائه فلذلك قال: (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 31].
أيها المؤمنون/ عباد الله: إن مراقبة الله واستشعار عظمته، والخوف منه من أعظم العبادات، وأهم الواجبات على المسلم، وهي سياج للنجاة، وطريق للفوز والفلاح، وحرز من وساوس النفس والشيطان، ووقاية من الفتن وثبات عند البلاء، وقد حذّر -سبحانه وتعالى- من الغفلة عنها فقال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235]، وقال الله –تعالى- وهو يقرر هذه الرقابة الربانية: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61].
ومتى ما ضاعت وتلاشت المراقبة من حياة الإنسان، وخلا منها القلب ضاع مصير هذا الإنسان، وضل عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم، واتبع هواه واستحوذ عليه الشيطان، وفسدت أعماله، وساءت أخلاقه، وقد عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- حالة توجل منها القلوب وتذرف منها الدموع حين قال: "ليأتين أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تهامة بيضًا، يكبّهم الله –تعالى- على وجوههم في النار"، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلهم لنا! فقال: "يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (صححه الألباني).
قال أبو الدرداء: "ليتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيلقي الله عليــه البغض في قلوب المؤمنين"..
إن الرقابة البشرية - على حاجة الناس لها وعلى أهميتها، سواءً كانت رقابة إدارية، أو مالية، أو أسرية، أو اجتماعية، أو فكرية- قد تغفل وقد تغيب، ولكن المفهوم الإسلامي يزرع معنى رقابة الله، وإحساس المسلم بهذه الرقابة؛ ليكون على نفسه شهيداً حفيظاً..
قال نافع: "خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راعٍ، فقال له عبد الله: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة، فقال: إني صائم .. فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية. فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها؟ قال: إنها ليست لي؛ إنها لمولاي.. قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟! قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله؟! فلما قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي، ووهب له الغنم -رحمه الله-، وقال له: إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة" (صفة الصفوة: 2/ 188).
عبـاد الله: إن مراقبة الله –تعالى- تعلي شأن صاحبها في الدنيا، وتجعله من الناجين في الآخرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «سبعة يظلهم الله –تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.. وذكر منهم: ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه" ..
إن للمراقبة فوائد كثيرة وعديدة في الدنيا والآخرة؛ منها: إتقان العمل وتحسينه وتجويده؛ ومنها: تحري أكل الحلال والبعد عن الحرام.
ومنها: العصمة من ارتكاب المعاصي والموبقات.
ومنها: الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار.
ومنها: الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
ومنها: أنها دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام.
ومنها: أن المراقبة تثمر محبّة اللّه –تعالى- ورضاه.
ومنها: أنها دليل على حسن الخاتمة.
ومنها: أن المراقبة مظهر من مظاهر صلاح العبد واستقامته..
اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلن ... قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانـية:
عبـاد الله: يحكى أنه حدثت مجاعة في سالف الأزمان في قرية القرى؛ فطلب الوالي من أهل القرية طلبًا غريبًا؛ كمحاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع؛ وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية؛ وأن على كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن بشرط أن يضع كل واحد الكوب متخفيًا دون أن يشاهده أحد؛ -يختبر بذلك مراقبتهم لله ويقظة الضمير الإنساني لديهم-؛ فهرع الناس لتلبية طلب الوالي؛ فكل منهم تخفى بالليل وسكب الكوب الذي يخصه دون أن يراه أحد؛ وفي الصباح فتح الوالي القدر .. وماذا شاهد؟! شاهد القدر وقد امتلأ بالماء!! أين اللبن؟! ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلاً من اللبن؟! ..
الإجابة: إن كل واحد من الرعية قال في نفسه: " إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية"؛ وكل منهم اعتمد على غيره؛ وكل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها أخوه، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن، والنتيجة التي حدثت: أن الجوع عمَّ هذه القرية ومات الكثيرون منهم ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات!!
عبـاد الله: كذلك نحن اليوم رجالاً ونساء، حكاماً ومحكومين، أحزابًا وجماعات وقبائل، مفكرين وعلماء وصحفيين وسياسيين؛ يجب علينا أن نساهم في إصلاح أوضاعنا، وحل مشاكلنا، وتقوية أخوتنا، وتوحيد صفنا، وجمع كلمتنا وحفظ بلادنا ووطننا، وتجاوز الفتن والمشاكل والصراعات التي تعصف بأمتنا والوقوف أمام تربص الأعداء ومكرهم ومؤامراتهم؛ وذلك بقيام كل فرد بدوره ومسئوليته وحسب قدرته واستطاعته، فكل فرد في المجتمع يستطيع أن يقوم بدورٍ ما وعمل يؤثر في الحياة ولو كان بسيطاً.. أمراً بمعروف ونهياً عن منكر وإصلاح ذات البين، وكلمة حق ونصيحة يفتح الله لها القلوب، وتعاون وتكافل، وتراحم بين الناس وبذل المعروف، وتقديم النفع وكفّ الأذى وغيرها من الأعمال، يبتغي بها المرء وجه الله القائل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن استشعار مراقبة الله –تعالى- يورث السعادة والراحة والفلاح والأمن في الدنيا والآخرة ..
اللهم وفّقنا للأعمال الصالحات، وترك المنكرات، اللهم حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى..
اللهم احقنا دماءنا، واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين وردنا إلى دينك رداً جميلا ..
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارضَ اللهم عن الأئمة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي