كيف يكون قلبك سليما؟

علي عبد الرحمن الحذيفي
عناصر الخطبة
  1. فضائل سلامة القلب .
  2. سمات القلب السليم وأحوال صاحبه .
  3. وسائل تحصيل أسباب سلامة القلب .
  4. آثار سلامة القلب .
  5. من أعظم أمراض القلب .
  6. صحة القلوب وسلامتها بالصبر واليقين. .

اقتباس

والقلبُ السليمُ له صفاتٌ وأحوال، فأفضلُ أحواله وأحسنُ صفاته سلامتُه من الشرك الأكبر والأصغر، وسلامتُه من النفاق وشُعبه، وصحَّتُه ومُعافاتُه من كبائر الذنوب والآثام، وتطهُّره من الصفات الذميمة والخِصال الرذِيلة؛ كالبُخل والشُّحِّ، والحسد، والغلِّ، والكِبر، والغشِّ، والغدر، والخيانة، والمكر، والكذِب، وغير ذلك من أعمال القلوب المُنكَرة، مع قيام صاحبِه بالفرائض والواجِبات، واستِكثاره من المُستحبَّات، وتوقِّيه المكرُوهات.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وليُّ الصالحين، وفَّق من شاءَ بفضلِه ورحمتِه فجعلَه من المُفلِحين، وتخلَّى عمن شاءَ بعدلِه وحكمتِه فاتبع غيرَ سبيل المُؤمنين، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ وهو الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه صادقُ الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ والتابعين.

أما بعد: فاتقوا الله يُدخِلكم في رحمته، ويُعافِكم من غضبِه وعقوبتِه؛ فقد فازَ من اتَّقى، وخابَ من افترَى وبغَى.

عباد الله:

كلٌّ يعملُ ويسعَى لسعادةٍ أبديَّة، وحياةٍ مرضيَّة؛ فمن الناس من يُوفَّقُ لذلك فيُعطيه الله السعادةَ الأبديَّة، والحياةَ الدنيا المرضيَّة، ومنهم من يكون همُّه وغايتُه الدنيا وينسَى الآخرةَ، فيُعطَى من الدنيا ما كتبَ الله له، وليس له في الآخرة من نصيب، وما نالَ من الدنيا لا يصفُو له بلا كدَرٍ ومُنغِّصات، وشُرور ومُهلِكات.

قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) [الإسراء: 18]، وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه: 124- 126].

وإذا كان الحالُ كذلك، وهو أن كلاًّ يسعَى لسعادته الدنيوية، ويسعَى لحياةٍ أبديَّة أُخرويَّة أحسن حياة، وأفضل نعيم، فإن هذه السعادة الدنيوية الطيبة، والسعادة الأبديَّة في الآخرة لا تكونُ إلا بسلامة القلب، وطِيبة الصدر، قال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) [الشعراء: 88- 91]، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

والعملُ الصالحُ لا يكونُ إلا من قلبٍ سليمٍ، وقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18].

أي: علِم ما في قلوبهم من صحة الإيمان والصدق، وسلامتها من النفاق وشُعبه.

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أفضل؟ قال: «كلُّ مخمُوم القلب، صدُوق اللسان». قالوا: صَدوقُ اللسان نعرفه، فما مخمُوم القلب؟ قال: «هو التقيُّ والنقيُّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسَد» (حديثٌ صحيحٌ؛ رواه ابن ماجه).

وعن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «حرُم على النار كلُّ هيِّن ليِّن سهل قريبٍ من الناس» (رواه أحمد والترمذي بمعناه).

فانظر - أيها المسلم - إلى سلامة الصدر كيف رفعَت صاحبَها إلى الدرجات العُلى في الجنات، ونجَّته من النار والمُهلِكات.

القلبُ السليمُ قريبٌ من كل خير، بعيدٌ من كل شرٍّ. القلبُ السليمُ تجتمعُ فيه الأخلاقُ الفاضلةُ كما يجتمعُ الماءُ إلى المُطمئنِّ من الأرض، وينفِي الأخلاقَ السيئةَ عنه كما ينفِي الكِيرُ خبَثَ الذهب والفضَّة.

القلبُ السليمُ محفوفٌ صاحبُه برحمة الله وعنايته، وحفظِه وتوفيقه، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج: 34، 35]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [هود: 23].

والإخباتُ أعظمُ صفات القلب السليم، والإخباتُ فُسِّر بالتواضُع لله - عز وجل -، والاطمئنان إلى تشريعه ووحيِه، والسُّكون إلى العمل الصالح، والرِّضا والفرح به، وقال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]. وطِيبُهم بسلامة قلوبهم.

وعن عِياض بن حِمار - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سُلطان مُقسِط مُوفَّق، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكل ذي قُربَى ومُسلم، ورجلٌ فقيرٌ عفيفٌ مُتصدِّق»؛ (رواه ابن حبان).

والقلبُ السليمُ له صفاتٌ وأحوال، فأفضلُ أحواله وأحسنُ صفاته سلامتُه من الشرك الأكبر والأصغر، وسلامتُه من النفاق وشُعبه، وصحَّتُه ومُعافاتُه من كبائر الذنوب والآثام، وتطهُّره من الصفات الذميمة والخِصال الرذِيلة؛ كالبُخل والشُّحِّ، والحسد، والغلِّ، والكِبر، والغشِّ، والغدر، والخيانة، والمكر، والكذِب، وغير ذلك من أعمال القلوب المُنكَرة، مع قيام صاحبِه بالفرائض والواجِبات، واستِكثاره من المُستحبَّات، وتوقِّيه المكرُوهات.

وأحسنُ أحوال القلوب السليمة وأفضلُها وأعلى درجات سلامتها قد اتَّصف بها الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام -، قال الله تعالى للخليل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 83، 84].

وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُبلِّغني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا؛ فإني أحبُّ أن أخرُج إليكم وأنا سليمُ الصدر» (رواه أبو داود والترمذي).

وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - قال: علَّمنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الدعاء: «اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد، وأسألُك شُكرَ نعمتِك، وحُسن عبادتِك، وأسألُك لسانًا صادقًا، وقلبًا سليمًا، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلَم، وأسألُك من خير ما تعلَم، وأستغفرُك مما تعلَم، إنك أنت علامُ الغيوب» (حديثٌ صحيحٌ؛ رواه أحمد والترمذي والنسائي).

ودون أفضل أحوال القلوب وأكملها وأعلى درجات سلامتها، وطِيبها وكمال صحَّتها درجات، ومن اجتهَد في الاقتِداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نالَ من صفات القلب السليم بقدر اجتِهاده، ومن اتبَع هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسَّك بسُنَّته الغرَّاء، فقد وُفِّق لأحسن الهدي وخير العمل والاعتقاد.

ورغَّبه الله سلامة الصدر كما منَّ الله بسلامة القلوب على الصحابة المُتَّبعين سيرة نبيِّهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، المُتمسِّكين بهديِه، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

والتابِعون لهم بإحسانٍ أُوتوا سلامةَ صُدورٍ مثلَهم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].

وسلامةُ الصدر والقلب ثوابُها الجنة، وعافيةُ البدن في الدنيا؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كنا جُلوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يطلُع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة»، فطلع رجلٌ من الأنصار، فلما كان الغد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «يطلُع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة»، فطلع ذلك الرجل، فلما كان في اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل.

فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبِعَه عبد الله بن عمرو فقال: إني لاحيتُ أبي فأقسمتُ أني لا أدخلُ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤوِيَني إليك حتى تمضي فعلتُ؟ قال: نعم.

قال أنس: فكان عبد الله يُحدِّث أنه باتَ معه تلك الليالي الثلاث، فلم يرَه يقوم من الليل شيئًا، غيرَ أنه إذا تعارَّ من الليل - أي: تقلَّب على فراشِه - ذكرَ الله، فقال له عبدُ الله: لم يكُن بيني وبين أبي شيء، ولكن سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأنك من أهل الجنة، فما الذي بلغَ بك هذا؟ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجِدُ في نفسي لأحدٍ من المُسلمين غشًّا ولا أحسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه.

قال عبدُ الله: "فهذه التي بلغَت بك" (رواه أحمد. قال ابن كثيرٍ: "وهذا إسنادٌ صحيح").

وإذا جاهدَ المُسلمُ نفسَه على كسب وتحصيل أسباب سلامة القلب، ونالَ هذه المنزلةَ العاليةَ فقد أفلحَ وأنجَح، وعاشَ في الدنيا في عافية، وضمِن الله له في الأُخرى الدرجةَ العاليةَ، فوُفِّق من ربِّه للنُّصح، وبرِئَ من الغشِّ، فنصحَ لله تعالى ولكتابه ولرسولِه ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم.

قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النصيحة» ثلاثًا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم» (رواه مسلم من حديث تميم الداريِّ).

فالنُّصحُ لله عبادتُه بإخلاص، والنُّصحُ لكتابِه تعلُّمُه وتعليمُه والعملُ به، والنُّصحُ لرسولِه اتِّباعُ سُنَّته والدعوةُ إليها، والنُّصحُ لأئمة المُسلمين عدمُ الخروج عليهم وإعانتُهم على الأمانة التي حُمِّلوها، والنُّصحُ للمُسلمين أداءُ حقوقهم وحفظُها وتعليمُهم، وبذلُ الخير وكفُّ الشرِّ عنهم.

ومن تمَّت سلامةُ قلبه أحبَّ للمُسلمين ما يُحبُّ لنفسه، ووُقِيَ شُحَّ نفسه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه» (رواه البخاري ومسلم من حديث أنس).

قال ابن رجب: "في هذا الحديث يدلُّ على أن المُؤمن يسرُّه ما يسرُّ أخاه المُؤمن، ويُريدُ لأخيه المُؤمن ما يُريدُ لنفسه من الخير.

وهذا كلُّه إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسَد؛ فإن الحسَد يقتضِي أن يكرَه الحاسِدُ أن يفوقَه أحدٌ في خيرٍ أو يُساوِيَه فيه؛ لأنه يُحبُّ أن يمتازَ على الناس بفضائلِه، وينفرِد بها عنهم، والإيمانُ يقتضِي خلافَ ذلك، وهو أن يشركَه المُؤمنون كلُّهم فيما أعطاه الله من الخير، من أن غير أن ينقُص عليه منه شيء". اهـ كلامُه.

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "إني لأمرُّ بالآية، فأعلمُ منها ما أعلَم، فأتمنَّى أن كل مُسلمٍ يعلمُ منها ما علِمتُ".

وقال الشافعيُّ - رحمه الله -: "وددتُ أن الناسَ تعلَّموا هذا العلم ولا يُنسبُ إليَّ منه شيء".

وأنفقَ أبو بكرٍ مالَه كلَّه في مصالِح المُسلمين، وأنفقَ عُمر نصفَ ماله كذلك، - رضي الله عنهما -.

ومن آثار سلامة القلب: التسامُح، والحلمُ، والصبرُ، والاحتِمال، والتجاوُز والعفوُ، والشَّفقةُ والرحمةُ للمُسلمين.

وقد مدحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ضمضمٍ على ذلك؛ حيث كان إذا أصبح - رضي الله عنه - قال: اللهم إنه لا مالَ لي أتصدَّقُ به على الناس، وقد تصدَّقتُ عليهم بشَتمِ عِرضي، فمن شتمَني أو قذفَني فهو في حِلٍّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يستطيعُ منكم أن يكون كأبي ضمضم؟» (رواه الحاكم وابن عبد البر والبزار، وهو حديثٌ حسن).

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وهذا لا يكونُ إلا مع سلامة الصدر، والبراءة من الغلِّ والحِقد والحسَد".

ويُقابلُ القلبَ السليم القلبُ المريض، بالخِصال الممقُوتة الذَّميمة، ومن أعظم أمراض القلب: مرضُ الشُّحِّ، وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه من ذلك، فقال: «إياكم والظلم، فإن الظلمَ ظُلماتٌ يوم القيامة، واتَّقوا الشُّحَّ فإن الشُّحَّ أهلكَ من كان قبلَكم، حملَهم على أن سفَكوا دماءَهم، واستحلُّوا محارِمهم»؛ رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.

وإذا تأمَّل العاقلُ الفتنَ العامَّة والخاصَّة في العالَم، وجدَ أن من أعظم أسبابها الشُّحَّ والطمع.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتقاربُ الزمان، وينقُص العمل، ويُلقَى الشُّحُّ، وتظهرُ الفتن، ويكثُر الهرْج». قالوا: يا نبيَّ الله! أيُّ هو؟ قال: «القتل، القتل» (رواه البخاري).

فالشُّحُّ هو الحِرصُ على الدنيا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسطَ عليكم الدنيا فتنافَسُوها كما تنافسَها من كان قبلَكم، فتُهلِكَكم كما أهلكَتهم» (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي عُبيدة).

فإذا عرفتَ معنى الشُّحِّ توقَّيتَه وعرفتَ فتنتَه التي تُصيبُ القلبَ في مقتل. الشُّحُّ تفسيرُه هو الطمعُ والحرصُ على ما في يدِ الغير، والسعيُ بشتَّى الطرق لحيازته في يدِه، ومنعُ ما في اليدِ من الحقوق الواجِبة عليك.

فالشُّحُّ يندرِجُ تحت البُخل، وهو منعُ الحقوق الواجِبة، وهو من أقبَح الصفات المذمومة، فالشُّحُّ أشدُّ من البُخل، وهو من أسباب قطيعة الأرحام، ومن أسباب الاعتِداء على الحقوق والدماء، ومنع الواجِبات عن مُستحقِّيها.

كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «إياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلَكم، أمرَهم بالظلم فظلَموا، وأمرَهم بالفُجور ففجَروا، وأمرَهم بالقطيعة فقطَعوا» (رواه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو).

ومن أعظم أمراض القلوب: الكِبر؛ فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: «لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبر» (رواه مسلم).

قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 16].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المرسلين وسنَّته وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيز الغفور، العليم بذات الصدور، أحمدُ ربي وأشكُرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله الحليمُ الشَّكور، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه بعثَه الله بالهُدى والنور، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم النشور.

أما بعد:

فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.

عباد الله:

اعلَموا أن صحة القلوب وسلامتها بالصبر واليقين؛ فالصبر عن المُحرَّمات، والصبرُ على الفرائض والواجِبات، والاستِكثارُ من المُستحبَّات، والصبرُ على النوازِل والمُقدَّرات.

واليقينُ يُقوِّي القلوب، ويدفعُ الشُّبهات، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

وأمراضُ القلوب تكونُ بالشُّبُهات وأنواع النفاق والشهوات، ومن استولَت على قلبِه الشُّبُهات أو الشهوات حتى مات شقِيَ الشقاءَ الأعظم، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 41].

وفعلُ كل ما أمرَ الله به طهارةٌ وزكاةٌ للقلوب، وكل ما نهَى الله عنه حمايةٌ للقلوب من الأمراض. فاطلُب - أيها المسلم - سلامةَ قلبك وصحَّته في فعل الأوامر وترك الخِصال الذَّميمة، التي تُميتُ القلب أو تُمرِضُه.

ولو لم يكُن في قُدرة العبد فعلُ الأمر، وتركُ ما نهَى عنه ربُّه لما كلَّفَك الله بذلك؛ فالربُّ لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسعَها. وفي الحديث: «لا تحاسَدوا، ولا تدابَروا، ولا تباغَضوا» (رواه مسلم من حديث أبي هريرة).

عباد الله:

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا». فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين.

اللهم يا رب العالمين أطفِئ البدع التي تكرهها وتأباها ويُبغِضُها رسولُك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أطفِئها إلى يوم القيامة، اللهم أذِلَّها يا رب العالمين وأذِلَّ أتباعَها إلى يوم القيامة، ولا تجعَلنا من المُبتدِعين يا رب العالمين.

اللهم اجعَلنا من المُتمسِّكين بسنة رسولِك - صلى الله عليه وسلم - أحسن التمسُّك، ونتبعه أحسن الاتباع يا رب العالمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك، اللهم أظهِر دينَك الذي ارتضيتَه لنفسِك، اللهم أظهِر هديَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في كل زمانٍ ومكانٍ إلى يوم الدين يا رب العالمين.

اللهم اغفِر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرنا، يا رب العالمين، اللهم اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت.

اللهم تولَّ أمرَ كل مؤمنٍ ومؤمنة، وأمرَ كل مسلمٍ ومسلمة يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اقضِ الدَّين عن المدينين من المُسلمين، اللهم فُكَّ أسرَ المأسُورين من المُسلمين يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِذنا وأعِذ ذريَّاتنا من إبليس وجنوده وشياطينه وذريَّته وشَرَكه يا رب العالمين إلى يوم الدين، اللهم أعِذ المسلمين وذريَّاتهم من الشيطان الرجيم وذريَّته وشَرَكه، إنك على كل شيء قدير.

اللهم ألهِمنا رُشدَنا، وأعِذنا من شُرور أنفُسنا، اللهم إنا نعوذُ بك من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونعوذُ بك من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.

اللهم احفَظنا في أحوالنا كلِّها، اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن، عن بلدنا هذا وسائر بلاد المُسلمين.

اللهم إنا نسألُك أن ترحم المُسلمين، اللهم ارحَم ضعفَهم.

اللهم أبطِل كيدَ أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل مكرَ أعداء الإسلام، اللهم أبطِل خِططَ أعداء الإسلام التي يكيدُون بها الإسلام يا رب العالمين، يا قوي يا متين.

اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، لا غِنى بنا عن رحمتِك، اللهم أغِث الديارَ التي لم يأتِها الغيثُ يا رب العالمين، اللهم واجعَل الغيثَ غيثَ رحمة، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق، اللهم أغِث البلادَ التي لم يُصبها الغيثُ يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، وبارِك لنا اللهم فيما آتيتَنا.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، اللهم آمنَّا في دُورنا، وأصلِح ولاةَ أمورنا، اللهم وفِّق عبدَك خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، اللهم ارزُقه الرأي السديد، والعمل الرشيد، وانصُر به دينَك يا رب العالمين، اللهم متِّعه بالعافية والصحة، إنك على كل شيء قدير.

اللهم وفِّق نائبَيه لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ يا رب العالمين للإسلام والمُسلمين، إنك على كل شيء قدير. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

اللهم فقِّهنا والمُسلمين في الدين، اللهم فقِّهنا والمُسلمين في الدين، اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام ألا تكِلنا إلى أنفُسنا طرفةَ عينٍ. اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل.

عباد الله:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 90- 91]، واذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي