إن من العجب أن يؤثر أقوام منا الحياة الدنيا على الآخرة، والآخرة -كما قال ربنا- خير وأبقى، يؤثرونها على الآخرة، ويعملون لها، ويدعون عمل الآخرة، يحرصون على تحصيل الدنيا وإن فوَّتوا ما أوجب الله عليهم؛ ينغمسون في شهواتهم وسهواتهم، وينسون شكر من أنعم بها عليهم. علامة هؤلاء المحبين للدنيا المعرضين عن الآخرة علامتهم أنهم يتكاسلون عن الصلوات، ويتثاقلون عن ذكر الله، ويخونون في الأمانات، ويغشون في المعاملات، ويكذبون في المقالات، ولا يوفون بالعهود والمواثيق، ولا يبرون الوالدين ولا يصلون الأقارب...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
أيها الناس: أما الدار الآخرة فهي الحياة الحقيقية التي فيها جميع مقومات الحياة والبقاء والسرور والسلام والحبور، هي الحياة الحقيقية التي ينطق الإنسان إذا شاهد حقائقها فيقول (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 24].
الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي يحيى الناس فيها فلا يموتون أبداً (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:8]، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون: 103- 104].
أيها الإخوة في الله: اتقوا الله -تعالى- وانظروا نظر العاقل البصير المؤمن، قارنوا -رحمكم الله- بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة لتعرفوا الفرق بين الدارين؛ في الدار الآخرة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، الدار الآخرة هي دار السلام سالمة مِن كل نقص ومن كل بلاء، لا مرض فيها ولا موت، ولا بؤس ولا هرم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا".
وهذا كلام الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- إن موضع العصا في الجنة خير من الدنيا كلها، من أولها إلى آخرها بكل ما فيها من نعيم وترف، إذا كان هذا خيرًا من الدنيا كلها، فكيف بما أدركت فيها من الزمن اليسير، وإذا كان موضوع السوط خيرًا من الدنيا كلها، فكيف بمنازل أدنى منزلة فيها مسيرة ألف عام يرى أقصاها كما يرى أدناها؟!
أيها الإخوة المسلمون: إن من العجب أن يؤثر أقوام منا الحياة الدنيا على الآخرة، والآخرة -كما قال ربنا- خير وأبقى، يؤثرونها على الآخرة، ويعملون لها، ويدعون عمل الآخرة، يحرصون على تحصيل الدنيا وإن فوَّتوا ما أوجب الله عليهم؛ ينغمسون في شهواتهم وسهواتهم، وينسون شكر من أنعم بها عليهم.
علامة هؤلاء المحبين للدنيا المعرضين عن الآخرة علامتهم أنهم يتكاسلون عن الصلوات، ويتثاقلون عن ذكر الله، ويخونون في الأمانات، ويغشون في المعاملات، ويكذبون في المقالات، ولا يوفون بالعهود والمواثيق، ولا يبرون الوالدين ولا يصلون الأقارب.
أيها الناس: إن من آثر الحياة الآخرة وقدّمها على الدنيا؛ حصل له نعيم الآخرة والدنيا، لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه، ولا يفوت من الدنيا شيئًا، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.
أيها الإخوة في الله: اعلموا -رحمكم الله- أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور، دار عمل وكدح للعباد؛ (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمن: 33].
تذكروا أيها المسلمون ما أنتم إليه صائرون من الموت وما بعده يوم تحشرون، تذكروا حالتكم عند حلول الآجال، ومفارقة الأوطان والأهل والعيال، تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم وأنتم مقبلون إليها مدبرين عن الدنيا.
تذكروا حينما ينقسم الناس إلى قسمين؛ فمنهم من توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 30- 31].
ومنهم من توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الأنفال:50]، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93].
تذكروا يا عباد الله إذا حُملتم على الرقاب إلى القبور، فانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال والدور والقصور، جليسكم الأعمال؛ فإما خير تُسرون به إلى يوم القيامة، وإما شر تجدون به الحسرة والندامة (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94].
تذكروا إذا نُفخ في الصور (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34- 37].
أيها الإخوة المسلمون: تذكروا ذلك اليوم العظيم، بل تذكروا هذا اليوم العظيم الذي يُجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة: 49- 50].
هذا اليوم العظيم تندكّ فيه الجبال، وتعظُم فيه الأهوال وينزل فيه للقضاء بين العباد الملك الكبير المتعال (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) [المزمل: 17- 18].
تذكروا هذا اليوم الذي سمَّاه الله يوم التغابن؛ لأنه هو الذي فيه الغبن العظيم فيه الغبن الحقيقي؛ لأن الناس يُحشَرون على حسب أعمالهم، فمنهم المتقون الذين يحشرون إلى الرحمن وفدًا، فنعم الوفد ونعم الموفود إليه، الوفد عباد الرحمن والموفود إليه الملك الكريم المنان، ومنهم المجرمون الذين يساقون إلى جهنم وردًا يظمئون عطشًا فتمثل لهم النار كأنها السراب يساقون إليها، ولكن لا ترويهم من ظمأ وإنما يجدون فيها النار والسعير والحر والزفير (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) [الروم: 14- 16].
فما أعظم هذا اليوم!! وما أشد هوله!! لقد قال الله -عز وجل- في وصفه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].
فتنافسوا أيها الإخوة المسلمون! تنافسوا في أعمال الآخرة؛ لتدركوا بذلك الدنيا والآخرة، وإياكم أن تؤثروا الدنيا على الآخرة فتخسروا الدنيا والآخرة؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن لم يزرع فيها لآخرته فقد خسر دنياه وخسر آخرته..
بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أفضل الرسل وخلاصة العباد، دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة، وهداها إلى سبيل الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بالأقوال والأفعال والاعتقاد وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله -تعالى-: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، يوم لا ينفع مال ولا بنون (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:89].
يوم يحشر الناس ثلاثة أصناف؛ صنف مشاه، وصنف ركبان، وصنف يمشون على وجوههم، يوم تدني الشمس من الخلائق قدر ميل، فيغرقون على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يكون العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا.
ليس هناك في ذلك اليوم ليل ولا نهار، قد كُورت الشمس وانكدرت النجوم، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
في هذا اليوم يحاسب الله الخلائق على أعمالهم كلها صغيرها وكبيرها، دقّها وجلها، فأول ما يحاسب عليه العبد صلاته؛ فإن كانت صالحة أفلح ونجح، وإن كانت فاسدة خاب وخسر.
في هذا اليوم تنصب الموازين لوزن الأعمال (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة: 6- 11].
يوم يؤتى بالرجل له صلاة وصيام وزكاة، وقد ضرب هذا، وأخذ مال هذا، وشتم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته حتى تفنى؛ فإن بقي لهم شيء أُخذ من سيئاتهم، ثم طرح عليه ثم طُرح في النار.
" لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا"؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أنس -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: " رَجُلانِ جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: خُذْ لِي بِمَظْلَمَتِي مِنْ أَخِي. قَالَ اللَّهُ: أَعْطِ أَخَاكَ مَظْلَمَتَهُ. قَالَ: يَا رَبِّ، لَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ. قَالَ اللَّهُ -تعالى- لِلطَّالِبِ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، فَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِي" فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ ذَاكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ فِيهِ النَّاسُ إِلَى أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ".
في ذلك اليوم يا عباد الله تتطاير صحائف الأعمال (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) [الانشقاق: 7- 14]، أي: أنه ظن أن لن يُبْعَث.
هناك في ذلك اليوم تبيضّ وجوه المؤمنين، وتسودّ وجوه الكفار المعتدين، هناك تحدّث الأرض بأخبارها، فتشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، ألا ما أعظمه من يوم وما أصعبه من موقف!!
أيها الإخوة في الله: كلنا ولله الحمد نؤمن إيمانًا جازمًا بيوم الحساب، وما عندنا فيه من شك، ولا ارتياب غير أننا في غفلة ساهون، وعن الاستعداد لذلك اليوم العظيم معرضون، وفي دنيانا الدنية منغمسون ولاهون.
إننا أيها الإخوة في الله لنعمل في الدنيا كأننا نعمر فيها، وإننا لنفرط في أعمار وأوقات لا يمكننا والله تعويضها.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وابتدروا الأعمال الصالحة (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، والله ما بعد الشباب -إن قُدّر للإنسان البقاء- إلا الكبر والهرم، وحين ذاك يقرب الموت، ويستولي الهمّ والغمّ والحزن.
وفّقني الله وإياكم باغتنام الفرص والأوقات، وجعل أعمالنا مقرونة بالتسديد والإخلاص وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يوم الأخذ بالنواصي والأقدام، إن ربنا سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا".. اللهم صلّ وسلم وبارك..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي