ربط الأزمات بالأسماء الحسنى

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

عناصر الخطبة

  1. ربط الأزمات بأن التدبير كله بيد الله وحكمته ورحمته ولطفه بالمسلمين
  2. وقفات مع الأسماء الحسنى الدالَّة على كُلٍّ
  3. مشاهد ومواقف تبين كل ذلك

الحمد لله الفعَّال لما يريد، المبدئ المُعيد، ذي العرش المجيد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قدَّر كل شيء فأحسن تقديرا، وقضى فكان منه القضاء حِكمة وعدلا، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له.

أيها المسلمون: سبق لنا في الجمعة الماضية أن ذكرنا أن لنا تجاه كل أزمة ثلاث ركائز: ربط الأزمة بالقرآن الكريم، وربطها بالأسماء الحسنى، وربطها بالأمر الشرعي.

وقد تحدثنا عن الأمر الأول وهو ربط الأزمة بالقرآن الكريم، والثالث وهو ربط الأزمة بالأمر الشرعي؛ وذكرنا أن الأمر الثاني -وهو ربطها بالأسماء الحسنى- نرجؤه إلى جمعة آتية فكانت هذه الجمعة.

أيها المسلمون: من المقرر عند كل مسلم أن لله تعالى الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، كما قال تعالى: ﴿وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنَى﴾ [الأعراف:180]، وأن هذه الأسماء والصفات هي منبع التدبير والتقدير، والخلق والأمر، فهي أساس الحياة كلها، فبها الخلق والأمر، ومع ضرورتها وجلالة شأنها إلا أن كثيرا من المسلمين يغفلون ويتغافلون عنها، ولا يلقون لها بالاً، فبئس حالهم حالا! وسبحان الله! من أنسب الأحوال وأوفق المناسبات لظهور هذه الأسماء والتذكير بها حال الأزمات، وفي الأوقات الصعبة الحرجة، ونحن لا نعيش أزمة أكبر ولا أحرج من أزمة الأمة في غزة في الأرض المباركة، فهلم بنا نعيش أسماء الله تعالى من خلال هذه الأزمة العظيمة.

أيها المسلمون: من المتقرر لدى كل مسلم أن الخالق المدبر لهذا الكون هو الله تعال،ى ولا يكون في كونه إلا ما يشاؤه ويريده، ﴿هَلْ مِن خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ…؟﴾ [فاطر:3]، ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [التكوير:29].

وعلى هذا، فلْيَعْلَمْ كلُّ مسلم أن نظره في الأزمات والمصائب الكريهات من خلال الأسماء الحسنى والصفات العُلى يقوم على ثلاثة أمور:

الأول: أن يؤمن بأن الخلق والتدبير والتصريف هو من الله وحده دون ما سواه، وأن هذا التدبير واقع منه -سبحانه- وفق هذه الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ثم على العبد أن يفكر ويتأمل هذا المعنى في وقت الأزمة حتى تتكشف له عبوديات عجيبة من المحبة والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والصبر والرضا، وغيرها.

فالإيمان بوحدانية التدبير والتصريف، والقدرة والعزة، تجعل القلب وحدانيَّ الاتجاه والاستغاثة، والدعاء والرجاء؛ فلا يستغيث إلا بالله تعالى، ولا يرجو من أحد غيره -سبحانه- نفعاً ولا ضراً، ولا يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة.

والإيمان بهذه الوحدانية تحيي في قلب العبد التسليم لله تعالى، وعدم الاختيار على الله تعالى، وإنما يطالع مراد الله تعالى من هذه الأزمة، ويكون همُّه كلُّه في تحقيق مراد الله تعالى، لا مراد نفسه.

و هذا الأساس، أعني وحدانية التدبير والخلق والتقدير والتصريف، يدل عليها أسماء كثيرة من أسماء الله تعالى؛ أليس من أسمائه الخالق والخلاق؟ ﴿هَلْ مِن خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ…؟﴾ [فاطر:3]، ﴿اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ﴾ [الزمر:62]. فلنعلم أن هذه الأزمة بقضاء الله وقدره، والله تعالى أوجدها وخلقها وقدرها -سبحانه وتعالى-، وله في ذلك الحكمة البالغة.

أليس من أسماء الله تعالى الرب؟ فهو رب العالمين، سيدهم ومربيهم، ومصلحهم ومالكهم، فأين حقيقة الإيمان بهذا الاسم وفاعليته في ظل هذه الأزمة ممن يصرخ ويولول، ويصل به الحال إلى الشماتة والتشفي من أهل الإسلام؟ وما علم أن الله تعالى -وهو رب العالمين- يربي عباده وخلقه بالمصائب والعقوبات حتى يثوبوا إليه، ويتوبوا إليه، ويرجعوا إلى الصراط المستقيم. أما أحْيَتْ هذه الأزمة في الأمَّةِ ضرورة الرجوع إلى الله تعالى، ولزوم صراطه المستقيم؟.

كما أن من تربية الله تعالى لعباده، خاصة أهل الإسلام والإيمان، أن يحفظ عليهم قلوبهم وتوحيدهم، فلا يلتفتون لغير الله تعالى، ولا يخافون غيره، فيجعل كل الخلق تجاههم إما متآمرا عليهم، وإما متخاذلا عنهم، وإما عاجزا، فلا يكون لهم وجهة لغير رب السماء والأرض، ولا يكون لهم قبلة لجلب نفع أو دفع ضر إلا إلى الله تعالى. أما قال الله تعالى: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ﴾؟.

وانظروا -عباد الله- هذا المعنى في حال إخواننا في غزة! أما انقسم البشر تجاههم بين متآمر عليهم، فكان يمثل هذا التآمرَ الصهاينةُ والولايات المتحدة، وحكومة مصر ومنافقون في الأمة كثير؛ فإذاً، لا سبيل ولا وجه لطلب النصر منهم.

والقسم الثاني، وهم المتخاذلون، يمثله، وأعلى الهرم، الحكومات كلُّها العربية والإسلامية؛ فلا سبيل إذا كذلك لطلب معونة منهم؛ لأنهم بين معذور بجهله، أو معذور بعجزه وقهره.

والقسم الثالث، وهم العاجزون، هم عامة الشعوب الإسلامية، بعلمائها ومفكريها ومجاهديها، فلم يكن له سبيل إلا التنديد، والدعاء، والتظاهر، وغير ذلك.

إذا، فلم يبقَ أحدٌ إلا الله تعالى! الله أكبر! إن الله تعالى يبتلي عباده حتى تتخلص له قلوبهم خالصة من دون الناس.

أليس من أسمائه الملِك؟ ﴿بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك:1]، (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأرْضِ) [البقرة:107؛ وغيرها]، ﴿مالك الملك﴾ [آل عمران:26]، فإذا كنا نؤمن يقينا بهذا الاسم لله تعالى فلنعلم حقاً في ظل هذه الأزمة أن ما يكون اليوم من هذا الطغيان الهمجي الصهيوني ليس دالا على ملكهم ولا قدرتهم، فإن هناك مالِكاً لهم، ومالكاً لملكهم، ومالكاً لقوتهم وقدرتهم؛ فلن تعدو إسرائيل قدرها، ولن تعلو فوق قدرها، إنها تريد وأرادت أن تمحو الجهاد والمجاهدين من الأرض المباركة منذ أكثر من ستين سنة، فلم تستطع شيئا؛ لأنها لا تملك شيئا من أمرها.

لقد أرادت أن تسقط حكومة حماس من أنفس المسلمين فإذا بالجماهير الإسلامية في كل مكان تعلن أنها حماس، بتلك الهتافات والشعارات، الله أكبر! إن الملِك هو الله، وهذا يجعلنا نوحد قلوبنا على الله ولا نخاف من أحد إلا من الله تعالى.

إن هذه الأزمة تقول: يا أهل الإسلام! أليس من أسمائه القاهر؟ فلا تتضعضعوا ولا تخافوا، فالله قاهر الصهاينة ومَن وراءهم، وقاهر المنافقين ومن وراءهم، وداحرهم؛ فقهر الله فوق قهرهم، أمَا قهَرَهم الله تعالى ربكم فأظهر دينه وأحيا شعيرة الجهاد في المشاعر المسلمة؟ أما قهرهم الله تعالى فلم يستطيعوا أن يقضوا على المجاهدين في غزة؟ فلا تلتفتوا -أهل الإسلام- لغير ربكم القهار.

إن هذه الأزمة تقول: يا أهل الإسلام! أليس من أسمائه العزيز؟ فانتظروا، لا تعجلوا، فالعزة لله وللمؤمنين، لا عزة للصهاينة ولا للولايات المتحدة ولا للمنافقين الذين ذهبوا يطلبونها منهم! وَلَيُظْهِرَنَّها ربُّكُم لكم عمَّا قريب، فيأخذ الصهاينةَ، رجسةَ الخراب، أخْذَ عزيزٍ مقتدر، كما أخذ من قبلُ فرعون وعاداً وثمود وقوم لوط، وهم في أتم نشوة من القوة.

أليس من أسمائه الحي؟ أليس هو المحيي المميت؟ المعزل المذل؟ أليس من أسمائه الأول والآخر؟ بلى. وأليس من أسمائه المبدئ المعيد؟ بلى. فاستمسكوا بالله تعالى، والزموا أمره.

الأساس الثاني في ربط الأزمات بالأسماء الحسنى أن لله تعالى حكمةً بالغة في التدبير والتقدير والتصريف، فما يقدر الله تعالى شيئا إلا وله فيه حكمة بالغة، وهذا يقذف الصبر والتفاؤل في قلب المسلم، ويزرع الرضا والتسليم لله تعالى. والأسماءُ الحسنى التي تدل على هذا المعنى كثيرة، مثل: الحكيم، الخبير، العليم، اللطيف، البصير، سبحانه وتعالى.

إن هذه الأزمة تقول: يا أهل الإسلام! لا تحزنوا، ولا تهنوا، ولا تقلقوا؛ فإن ربكم حكيم عليم، له في هذه الكارثة العظيمة حكم بالغة تنير لكم الطريق، وتوضح لكم السبيل، وتقيم لكم الميزان القسط؛ فهو القادر على أن ينتقم منهم، وأن يهلكهم عن بكرة أبيهم؛ لكن، أما تريدون أن يصطفيكم الله له؟ قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]، ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد:4].

أما إن من حكمة الحكيم العليم في هذه الأزمة أن أحيا الله مشاعر الجهاد في الأمة، تلك الشعيرة العظيمة التي استجمع العالم بكل أصنافه وأطيافه على محاربتها ومحاربة أهلها في القنوات والصحف والمجلات، حتى العالم الإسلامي، وراحوا يسمونه إرهاباً؛ وتؤلف الكتب، وتصدر البيانات، وتُلقى الخطابات، وتُعقَد المؤتمرات والمؤامرات لمحاربة الجهاد، فيأبى الله إلا أن يحييه في الأمة، ويقول لها: أيتها الأمة! إن كنتِ تريدين حفظ عرضك وأرضك، ومالك ودمك، وبقاء عزتك، وسماع كلمتك، فلا سبيل لك إلى هذا إلا بالجهاد، والإعداد له، فإن أبيتِ فانتظري الصهاينة والصليبيين يأتوا إليك يسلبون منك الأرض، وينهبون منك المال، ويُدَنِّسُون منكِ العِرض، ويسفكون منك الدم، وينزعون منك العزة. الله أكبر!.

إن هذه لتعلموا أن مثل هذه الأحداث لن تكون نتيجتها -إن شاء الله تعالى- إلا إخراج أجيال أصلب عوداً، وأكثر عناداً، وأطول نفَساً، وأكثر وعياً لحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين أولياء الله عز وجل وأعدائه.

لقد أراد الصهاينة والصليبيون والمنافقون اليوم أن يقتلوا من أنفس المسلمين قول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:14]، فيأبى الله إلا أن يبقيها حية مشتعلة في أنفس المؤمنين؛ أرادوا أن يمحوا من ذاكرة الأمة وأجيالها وقرآنها قول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يؤمِنُونَ بِاللهِ…﴾ [التوبة:29].

كان من حكم الحكيم -سبحانه- في هذه الأزمة أن دمر شعارات السلام، ومراكز الأمن الدولي، وحوارات الأديان، وغيرها مما يراد به تطبيع العلاقة بين المجرمين والمستضعفين، وأبان أن الغرب حاقد بغيض، وأن الإرهاب الحق هو في بني صهيون والصليبيين.

كان من حكم الحكيم -سبحانه- في هذه الأزمة أن أظهر الخونة والمنافقين الجاثمين على صدور الشعوب، الكارهين لنصرة الدين وظهور أهله، فعرفَتْ الأمة مكمناً من مكامن الداء، وعلة من عللها العصياء، وهو أن ساستها في وادٍ، وهموم الأمة المقدسة في وادٍ آخَر.

ومِن الحِكَم أن أظهرَت الفرْقَ بين اهتمامات الأعداء واهتمامات العرب والمسلمين، فالعدو ينفق ماله لأجل الصد والحرب والدم والموت، والمسلمين ينفقون في الكرة والهوى والشهوات والأزياء، وغير ذلك مما يمدون به أعدائهم. كما أظهرَتْ حكما أخرى وأخرى كثيرة.

الخطبة الثانية:

الأمر الثالث: أن تدبير الله -تعالى- وتقديره فيه من الرحمة واللطف والخير لأهل الإسلام ما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْن﴾ [التوبة:52]، "ما يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له". وهذا يجعل العبد المؤمن أسكنَ قلباً، وأشدَّ طمأنينة، وأعظم رضا تجاه هذه الأزمة.

ومن الأسماء الحسنى الدالة على هذا: الرحمن، والرحيم، والرؤوف، والبر، والودود. إن هذه الأزمة تقول: يا أهل الإسلام! إن التدبير الرباني دائر بين محض الفضل، وتمام العدل.

وأيّ فضل وأيّ رحمة أن يتخذ منكم شهداء عنده أصفياء؟ ينسون بتلك الشهادة عناء الدنيا وتعبها، ويرحلون إلى جنات عدن عند مليك مقتدر سراعا آمنين! الله أكبر! أيهما خير -عباد الله- موت على الفراش مِن ذل أو من غير ذل، أو موت في سبيل الله تعالى؟

أي رحمة بأهل الإسلام من هذه الأزمة أعظم من إرجاع الأمة لدينها، وبيان سبيل الله تعالى، وأن لا تهلك في اللهث خلف الدنيا وشهواتها، ولا تبقى أسيرة للمال والهوى؟!.

أي رحمة أجلّ بأهل الإسلام حين أبان الله تعالى للأمة سبب علتها، واستنفرها لتصحيح مسارها؟.  


تم تحميل المحتوى من موقع