وكذلك العلم ببقية أسماء الله الحسنى، واستحضار معانيها، والتماس تطبيقها، يجعل العبد وكأنه الكتاب والسنة يمشيان؛ إذ إن العلم بأسماء الله وصفاته هو أصل العلوم التي أتى بها الكتاب والسنة، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:180].
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله -تعالى-، واحمدوه أن عرفكم بنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله؛ لتقدروه حق قدره، وتنالوا القرب إليه، والفوز بثوابه.
أخبركم -سبحانه- أنه «الأول» بلا بداية، فقال: (هُوَ الأَوَّلُ) [الحديد:3]، روى البخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من بني تميم، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم"، قالوا: بشّرتَنا فأعْطِنا، مرتين، فتغير وجهه، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن؛ إذ لم يقبلها بنو تميم"، قالوا: قبلنا يا رسول الله، ثم قالوا: جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء". لما سألوه عن بداية هذا العالم المشاهد أخبرهم أنه -تعالى- كان قبل كل شيء.
وفي الدعاء: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"، فأوليته -سبحانه- سابقة على أولية ما سواه، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته فوقيته وعلوه على كل شيء، وبطونه إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه. فما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده. و«الظاهر» علوه وعظمته. و«الباطن» قربه ودنوه.
ولنستمع يا -عباد الله- إلى ذكر بعض محاسن ربنا -جل وعلا- المتمثلة في صفاته العليا وأسمائه الحسنى، فمنها أنه الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي -لكمال حياته وقيوميته- لا تأخذه سنة ولا نوم.
وهو «مالك السموات والأرض» الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وهو «العليم» الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب، يعلم ما كان وما يكون قبل أن يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
أحاط علمه بجميع الأشياء؛ باطنها وظاهرها، دقيقها وجليلها، أحاط علمه بالعالم العلوي، أحاط علمه بالعالم السفلي, أحاط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
وهو العليم أحاط علما بالذي *** في الكـون من سر ومن إعلانِ
وبكل شيء علمه -سبحانه- *** فهو المحيـط وليس ذا نسيـان
وكذاك يعلم مـا يكون غدا وما *** قد كان والموجود في ذا الآن
وكذاك أمر لَم يكن لو كان كيــ *** ــف يكون ذاك الأمر ذا إمكان
وهو «البصير» الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، يرى تفاصيل أعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع.
وهو «السميع» الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه كثرة السائلين. قالت عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها-: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله وإني ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله -عز وجل-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)".
يا من يرى مد البعـوض جناحهـا *** فِي ظلمة الليـل البهيم الأليـلِ
ويرى منـاط عروقها فِي نَحرهـا *** والمخّ مـن تلك العظام النحَّـل
و يرى خريـر الدمّ فِي أوداجهـا *** متنقلا مـن مفصل فِي مفصـل
ويرى وصولَ غِذا الْجنين ببطنهـا *** فِي ظلمـة الأحشا بغير تَمقـل
و يرى مكان الوطء من أقدامهـا *** فِي سيـرها وحثيثها الْمستعجل
ويرى ويسمع حس ما هو دونهـا *** فِي قـاع بحـر مظلم متهـول
وهو «القدير» الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، والبر برًا، والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار.
ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء -سبحانه- أن يعلمه إياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته.
وهو «الغني» الذي لكمال غناه يحتاج إليه العبيد في أمورهم ويصمدون إليه في قضاء حوائجهم، فالغنى وصف ذات لازم له أبدا، كما الفقر وصف ذات لازم للعبيد.
وهو «العظيم» الذي لكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعه أرضه ولا سمواته، ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء، وهو بكل شيء محيط.
ولا تنفد كلماته ولا تبدل، ولو أن البحر يمده سبعة أبحر مدادًا، وأشجار الأرض أقلامٌ، فكتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلمات الله، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يَفْنَى غيرُ المخلوق بالمخلوق.
وهو «العزيز» الذي له العزة كلها، فهو العزيز بقوته, وهو العزيز بغلبته، وهو العزيز بامتناعه، فيمتنع أن يناله أحد من مخلوقاته، وهو العزيز بقدره وقهره، فقدره علا على كل شيء، وقد قهر كل شيء، فالخليقة كلها تدين له وتخضع لعظمته.
وهو العزيز فلن يرام جنـابه *** أنى يرام جناب ذي السلطانِ؟
وهو العزيز القاهر الغـلاب لَم *** يغلبه شيء هذه صفتـان
و هو العزيز بقوة هي وصفه *** فالعـز حينئذ ثلاث معـان
وهي التي كملت له سبحانه *** من كل وجه عادم النقصان
وهو «الجبار» العالي على خلقه، فهو عال عليهم بذاته لا يفوته شيء من أمرهم.
وهو «الجبار» المصلح للأمور الذي يجبر قلوب عباده المنكسرة, ويجبر الضعف عن العجزة, ويجبر الفقر عن الفقراء, فالعباد كلهم يصمدون إليه؛ عله يجبر عنهم الضعف والنقص والقصور.
وهو «الجبار» القاهر لعباده، فهو يأمرهم بأمره وينهاهم بنهيه, فمن امتثل أدركته رحمته وفضله, ومن عصى أدركه جبروته وسخطه.
وكذلك الْجبـار مـن أوصـافه *** والجـبر فِي أوصـافه قسمـانِ
جبر الضعيـف وكل قلب قد غدا *** ذا كسـرة فالْجبْر مـنـه دان
والثـاني جبْر القهر بالعـز الذي *** لا ينبغـي لسـواه من إنسـان
وله مسمـى ثـالث وهو العلـو *** فليـس يـدنو منه من إنسـان
من قولهم جبـارة للنخلـة العلـ *** ـيا التي فـاتـت لكل بنـان
أيها الإخوة: الله هو الكبير المتعال, السلام المؤمن المهيمن, الحليم الكريم، المحسن، الودود، الصبور، الغفور الشكور، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ولا أحد أحب إليه الإحسان من الله، فهو محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، عليم يحب العلماء من عباده، كريم يحب الكرماء، قوي، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، بَر يحب الأبرار، عدل يحب أهل العدل، حيي ستير يحب أهل الحياء والستر، عفو غفور يحب من يعفو عن عباده ويغفر لهم، صادق يحب الصادقين، رفيق يحب الرفق، جواد يحب الجود وأهله، رحيم يحب الرحماء، وتر يحب الوتر.
وبالجملة؛ فكل صفة عليا، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح، وتسبيح وتنزيه وتقديس، وجلال وإكرام، فهو لله -عز وجل- على أكمل الوجوه، وأتم الوجوه، وأدوم الوجوه.
مهما كتبنا فِي علاك قصائدًا *** بالدمع خطت أو دم الأجفانِ
فَلَأَنْتَ أعظمُ من مديحي كلّه *** وأجلّ مِما دار في الحسبـان
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر:67].
اللهم إنا نسألك عظيم العلم بك, وكثرة الأوبة إليك.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب عظيم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا على نعمائه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بإلهيته، واعترافًا بما يجب على الخلق من الإذعان لربوبيته. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله أكرم الخلق وأزكاهم، وأعرفهم بالله وأتقاهم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فإن العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته يورث في قلب العبد خشية لله -سبحانه وتعالى-، يورث في قلب العبد تعظيما لله، ومن ثم يرى ذلك في العبد من تعظيمه لأوامر الله ونواهيه.
إن من يعلم أن الله عزيز أورث ذلك في قلبه أن الله له العزة جميعا، وأن الله هو القاهر على عباده, وأنه لا تطلب العزة من غيره أبدا، ولا تنال إلا به وبامتثال أمره ونهيه.
إن من يعلم أن الله هو العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه الجبار المتكبر أورث في قلبه استحقارا لنفسه ومقتا لها، فمن الذي هو أعظم من الله؟! ومن الذي هو أكبر من الله؟! ومن الذي هو أعلى من الله؟! ومن الذي هو أجبر من الله؟! عِلم ذلك -أيضا- يجعل المرء لا يحقر أحدا من عباد الله, فحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
إن العلم بأن الله هو مجيب الدعوات قابل توبة التائبين وأنه هو الغفور الرحيم يجعل العبد يلجأ على الله بالدعاء أن يغفر ذنبه وأن يقبل توبته، وعَلم -أيضا- أن الله يحب التائبين ويقبل توبة المذنبين، ولا ينسيه ذلك -أيضا- أن الله شديد العقاب وشديد الأخذ للظالمين.
وكذلك العلم ببقية أسماء الله الحسنى، واستحضار معانيها، والتماس تطبيقها، يجعل العبد وكأنه الكتاب والسنة يمشيان؛ إذ إن العلم بأسماء الله وصفاته هو أصل العلوم التي أتى بها الكتاب والسنة، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:180].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي