وَلَقَدْ أَحْزَنَ كُلَّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ عَلَى دِينِهِ، حَرِيصٍ عَلَى سَلَامَةِ وَتَـمَاسُكِ مُـجْتَمَعِهِ، اِنْتِشَارُ هَذِهِ الْـمَقَاطِعِ الَّتِـي فِيهَا تَـحْقِيـرٌ أَوْ اِسْتِهَانَةٌ أَوْ تَشْهِيـرٌ بِعِبَادِ اللهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ اِسْتَهَانَ بِـمِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ، فَنَسِيَ أَوْ تَنَاسَى عِظَمَ عُقُوبَتِهَا عِنْدَ اللهِ؛ وَتَشْتَدُّ حُرْمَتُهَا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَاطِعُ السَّاخِرَةُ خَارِجَةً مِنْ بَابِ التَّشَفِّي أَوْ الاِسْتِهَانَةِ بِالصَّالِـحِيـنَ،.. وَذَاكَ يُرْسِلُ مَقَاطِعَ لِـمُسِنٍّ، لَا يُـحْسِنُ التَّعَامُلَ مَعَ الآلَاتِ الْـحَدِيثَةِ؛ فَيَسْخَرُ مِنْهُ، وَيُضْحِكُ النَّاسَ عَلَيْهِ،.. وَهُنَاكَ مَنْ يَسْتَغِلُّ خَطَأً صَدَرَ مِنْ شَخْصٍ عَبَّـرَ بِكَلِمَةٍ مَكَانَ كَلِمَةٍ، أَوْ لَفْظَةٍ بَدَلَ أُخْرَى؛ فَأَصْبَحَ فِي مَوْقِفٍ حَرِجٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَيَتَفَاجَأُ بِأَنَّ هُناكَ مَنْ صَوَّرَهُ وَسَجَّلَهُ، ثُـمَّ نَشَرَهُ بَيْـنَ النَّاسِ سَاخِرًا مِنْهُ...
إنَّ الْـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتِغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُـحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عليه، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أمَّا بَعْدُ، فَاِعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعِةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ؛ شَذَّ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيـمَةِ، وَنَهَى عَنِ الْأَخْلَاقِ السَّـيِّـئَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حَرَّمَ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالْـمُؤْمِنِيـنَ تـَحْرِيـمًا قَطْعِيًّا؛ فَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ يَهْزَأَ بِهِ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ بِحَقِهِ، فَالْمَنْهَجُ مَعَ السَّاخِرِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان: 63]، كَذَلِكَ أَرْشَدَ اللهُ إِلَى الْعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ؛ أَوَ مُقَابَلَتِهِ بِالْعدلِ مَعَ عَدَمِ الْسُخْرِيَةِ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَـمْ يُـخْطِئْ بِـحَقِّكَ؟! فَهَذَا أَوْلَى باِلتَّوقِيـرِ، وَالْإجْلَالِ وَعَدَمِ الْسُخْرِيَةِ مِنْهُ.
عِبَادَ اللهِ، نَعِيشُ عَصْرَ الِانْفِتَاحِ الْإِعْلَامِيِّ، وَسُهُولَةِ التَّصْوِيرِ وَالتَّسْجِيلِ، وَيُسْرِ انْتِقَالِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَقَاطِعِ الْمَرْئِيَّةِ وَالْمَسْمُوعِةِ بَيْـنَ النَّاسِ، فَأَجَادَ التَّعَامُلَ مَعَهَا الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ، وَكُلٌ يَعْرِضُ عَقْلَهُ عَلَى النَّاسِ؛ وَمِنَ الْمـُثِيـرِ لِلْحُزْنِ؛ وُجُودُ السُّخْرِيَةِ والِاسْتِهْزَاءِ فِي بَعْضِ مَا يُعْرَضُ عَبْرَ هَذِهِ الْوَسَائِلِ، مِـمـَّــا لَا يَلِيقُ بـِمُسْلِمٍ، وَلَا يَرْضَاهُ مُؤْمِنٌ. فَمَا أَنْ يُخْطِئَ إِنْسَانٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَسْؤُولًا، أَوْ غَيْـرَ مَسْؤُولٍ، عَالِمًا، أَوْ غَيْـرَ عَالِـمٍ، فِي خَطَأٍ فِي التَّعْبِيرِ، أَوْ غَلَطٍ بِالْكَلَامِ، إِلَّا وَتَجِدُ مَقْطَعَهَ قَدْ انْتَشَرَ بَيْنَ النَّاسِ، اِنْتِشَارَ النَّارِ فِي الْـهَشِيمِ؛ سُخْرِيَةً بِهِ، وَتَهَكُّمًا عَلَيهِ، وَإضْحَاكًا للنَّاسِ مِنْهُ؛ وَكَأَنَّ عِرْضَهُ أَصْبَحَ كَلَأً مُبُاحًا.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِعِبَادِهِ، تَـحْرِيـمًا قَطْعِيًّا. فَقَالَ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
حَيْثُ وَصَفَ اللهُ مَنْ لَـمْ يَتُبِ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَلَـمْزِ النَّاسَ بِأَنَّهُ ظَالِـمٌ، فَهْلَ يُرْضِيكَ أَيُّهَا السَّاخِرُ أَوْ النَّاشِرُ للسُّخرِيَةِ أَنْ تَتَّصِفَ بِأَنَّكَ ظَالِـمٌ؟ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيةِ: "إِنّ َاللهَ عَمَّ بِنَهْيِهِ الْـمُــؤْمِنِيـنَ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِجَمِيعِ مَعَانِي السُّخْرِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِـمُــــؤْمِنٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْ مُؤْمِنٍ: لَا لِفَقْرِهِ، وَلَا لِذَنْبٍ اِرْتَكَبَهُ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ"، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، وَ"وَيْلٌ" كَلِمَةُ وَعِيدٍ وَوَبَاٍل، وَشِدَّةِ عَذَابٍ، لِلَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِفِعْلِهِ، وَيَلْمِزُهُمْ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56]، قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهَا: "أَيْ: إِنَّمَا كَانَ عَمَلِي فِي الدِّنْيَا عَمَلَ سَاخِرٍ مُسْتَهْزئٍ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمَعْنَـى الْـحَدِيثِ: لَوْ لَـمْ يَأْتِ الإِنْسَانُ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا اِحْتِقَارَ أَخِيهِ الْـمُسْلِمِ أَوْ ظُلْمَهُ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ؛ لَكَانَ كَافِيًا أَنْ يَأْخُذَ هَذَا السَّاخِرُ الظَّالِـمُ نَصِيبًا وَافِرًا مِنَ الشَّرِّ، فَلَا تَـحْقِرَنَّ مِسْلِمًا لَا فِي خِلْقَتِهِ، وَلَا كَلَامِهِ، وَلَا خُلُقِهِ، وَلَا فِي ثِيَابِهِ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُوَقِّرَ الْمُسْلِمَ وَتَـحْتَـرِمَهُ، فَالْـمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ الْـمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَاِسْأَلْ نَفْسَكَ أَيُّهَا السَّاخِرُ وَمِثْلُكَ نَاقِلُ السُّخْرِيَةَ للنَّاسِ: هَلْ سَلِمَ الْـمُسْلِمُونَ مِنْ شَرِّكِ؟ الـجَوَابُ: لَا. فَعَلَى السَّاخِرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ لَهُ بِالْـمِرْصَادِ.
فَقُلْ لِلَّذِي يُبْدِي الشَّمَاتَةَ جَاهِدًا *** سَيَأْتِيكَ كَأْسٌ أَنْتَ لَابُدَّ شَارِبُهُ
عِبَادَ اللهِ، السُّخْرِيَةُ لَـهَا أَشْكَالٌ كَثِيـرَةٌ، وَصُوَرٌ عَدِيدَةٌ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ، -رَحِـمَهُ اللهُ-: "الاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ، فَالَّذِي يَسْخَرُ بِالنَّاسِ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالَـهُمْ ذَمًّا يُـخْرِجُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ" (الفتاوى الكبرى 6/22).
وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ، هِيَ: التَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ، وَالنَّقَائِصِ عَلَى مَنْ يُضْحَكُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَبِالْإِشَارَةِ وَالْإِيـمَاءِ، وَبِالضَّحِكِ ؛كَأَنْ يَضْحَكُ عَلَى كَلَامِهِ إِذَا تَخـَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلَطَ، أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ أَوْ صُورَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ".
قلت: وَهَذَا هُوَ الْـحَاصِلُ – مَعَ الأَسَفِ- فَنَجِدُ سُرْعَةَ الاِسْتِهَانَةِ عَبْـرَ هَذِه الأَجْهِزَةِ، بِـمَنْ أَخْطَأَ فِي لَفْظَةٍ، أَوْ تَخَبَّطَ في كَلِمَةٍ؛ أَوْ قَالَ كَلِمَةً خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْـنَ زَمِيلٍ لَهُ، فَمَا أَنْ يُخْطِئَ؛ وَتَلْتَقِطُ هَذِهِ الأَجْهِزَةُ كَلِمَتَهُ؛ حَتَّى تَجِدَ مَنْ سَلَقُوهُ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، وَأَشَاعُوهَا بَيْـنَ النَّاسِ فَضْحًا لَهُ أَوْ سُخْرِيَةً بِهِ، أَوْ صَوَّرَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَجَسِّسُونَ خِلْسَةً دُونَ عِلْمِهِ، وَهُوَ فِي وَضْعٍ لَا يَرْضَى أَنْ يُصَوَّرَ فِيهِ؛ كَحَالِ غَضَبٍ، أَوْ نِقَاشٍ حَادٍّ، أَوْ وَهُوَ يَقْتَـرِفُ مَعْصِيَةً، أَوْ يَــجْلِسُ مَعَ أَهْلِهِ جِلْسَةً خَاصَّةً، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!
أَوَ مَا عَلِمَ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ إِنْ كَانَتْ أَعْيُـنُ الْبَشَرِ لَا تَرَاهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- يَرَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108]، وَعَلَى السَّاخِرِ، وَمِثْلُهُ مُعِيدُ إِرْسَالِ السُّخْرِيَةِ أَوِ الْفَضِيحَةِ؛ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ؛ فَمَا عَلَيْكَ أَيُّهَا السَّاخِرُ إِلَّا الاِنْتِظَارُ، وَسَتَـرَى عَاقِبَةَ سُوءِ فِعْلِكَ عَلَيْكَ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الآخِرَةِ؛ إِنْ لَـمْ يَتَدَارَكَكَ الرَّحِيمُ بِتَوْبَةٍ، أَوْ رَحْـمَةٍ مِنْ عِنْدَهُ، فَاَنْقِذْ نَفْسَكَ، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14].
وَكَمَا جَاءَ فِي الْـحَدِيثِ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَثَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» (رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
لَا تَكْشِفَنَّ مَسَاوِى النَّاسَ مَا سَتَـرُوا *** فَيَكْشِفُ اللهُ سِتْـرًا عَنْ مَسَاوِيكَ
وَهَذِهِ السُّخْرِيَةُ لَا تَصْدُرُ مِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالتَّـرْبِيَةِ الْـحَسَنَةِ، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:
لَوْ كُنْتَ حُرًّا مِنْ سُلَالَةِ مَاجِدٍ *** مَا كُنْتَ هَتَّاكًا لِـحُرْمَةِ مُسْلِمٍ
وَالـمــفْتَرَضُ إِذَا أَخْطَأَ الـمُـــــسْلِمُ أَنْ يُنْصَحَ فِي السِّرِّ، بِأَلْطَفِ لَفْظَةٍ، وَأَرَقِّ عِبَارَةٍ، اِسْتِجَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53]، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُشَافَهَةِ أَوْ بِالْـمُـرَاسَلَةِ الخْـَاصَّةِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ -وَغَالِبًا لَا يَتَعَذَّرُ- فَبِالرَّدِّ بِلُطْفٍ وَأَدَبٍ، وَمُقَارَعَةِ الْـحُجَّةَ بِالْـحُجَّةِ؛ دُونَ اللُّجُوءِ إِلَى السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، الَّذِي عَظُمَ أَمْرُهُ وَاشْتَدَّ خَطْبُهُ، حَتَّى انْتَشَرَتْ مَقَاطِعُ لِآبَاءَ يُعَلِّمُونَ أَبْنَاءَهُمْ السُّخْرِيَةَ، وَيُعَوِّدُونَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ! فَبِئْسَتِ- وربي- هَذِهِ التَّرْبِيَةُ! فَمَاذَا سَيَسْتَفِيدُ النَّاسُ مِـمَّنْ يَنْشُرُ مَقَاطِعَ لِصِغَارِهِ وَهُوَ يُعَلِّمُهُمُ السُّخْرِيَةَ؛ غَيْـرَ أَنَّـهُ أَرْشَدَهُمُ إِلَى ترْبِيَتهِ الْفَاسِدَةِ لأَوْلَادِهِ؟ فَهَلْ يُرِيدُ أَنْ يَـْحذُوَ النَّاسُ حَذْوَهُ؟!
عِبَادَ اللهِ، عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ صَارِمِيـنَ مَعَ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ نُؤَدِّبـَهَا بِآدَابِ الشَّرْعِ، فَلَا تَلْعَبُ بِنَا الأَهوَاءُ والأَمْزِجَةُ، وَلَا نُسْهِمُ لَا بِقَلِيلٍ، وَلَا بِكَثِيـرٍ فِي نَشْرِ هَذِهِ الْمَقَاطِعِ الْمُشِينَةِ بَيْـنَ النَّاسِ؛ فَنَحْمِلُ وَزْرَهَا كَمَا حَـمَلَهُ السَّاخِرُونَ، وَنَكُونُ قَدْ تَعَاوَنَّا مَعَهُمْ عَلَى الإِثْـمِ وَالْعُدْوُانِ بَدَلًا مِنْ أَنْ نَتَعَاوَنَ عَلَى الْبِـرِّ وَالتَّقْوَى، وَعَلَيْنَا رَفْضُهُا جَـمْلَةً وَتَفْصِيلا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12].
وَلَقَدْ أَحْزَنَ كُلَّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ عَلَى دِينِهِ، حَرِيصٍ عَلَى سَلَامَةِ وَتَـمَاسُكِ مُـجْتَمَعِهِ، اِنْتِشَارُ هَذِهِ الْـمَقَاطِعِ الَّتِـي فِيهَا تَـحْقِيـرٌ أَوْ اِسْتِهَانَةٌ أَوْ تَشْهِيـرٌ بِعِبَادِ اللهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ اِسْتَهَانَ بِـمِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ، فَنَسِيَ أَوْ تَنَاسَى عِظَمَ عُقُوبَتِهَا عِنْدَ اللهِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15].
وَتَشْتَدُّ حُرْمَتُهَا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَاطِعُ السَّاخِرَةُ خَارِجَةً مِنْ بَابِ التَّشَفِّي أَوْ الاِسْتِهَانَةِ بِالصَّالِـحِيـنَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَقْطَعٌ اِنْتَشَرَ بَيْـنَ أُنَاسٍ لإِمَامٍ فِي الصَّلَاةِ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَلَمَّا اِنْتَهَى مِنَ الْفَاتِـحَةِ أَخْرَجَ جَوَّالَهُ لِـيَقْرَأَ مِنْهُ، فَتَـمَّ إِخْرَاجُ الْمَقْطَعِ مَبْتُورًا؛ حَيْثُ أَوْقَفَ هَذَا الْـمُجْرِمُ الْـمَقْطَعُ عِنْدَ إِخْرَاجِ الإِمَامِ الْـجَوَّالِ، وَالْـحَقِيقَةُ تَقُولُ: إِنَّ هَذَا الإِمَامَ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاَة التَّـرَاوِيحِ؛ فَأَخْرَجَ جَوَّالَهُ لِيَقْرِأَ مِنْهُ، وَلَكِنَّ السَّاخِرَ الظَّالِـمَ، أَوْقَفَ الْمَقْطَعَ بِطَرِيقَةٍ تُوحِي لِمَنْ يُشَاهِدُهُ أَنَّ هَذَا الإِمَامَ اِنْشَغَلَ بِـجَوَّالِهِ عَنِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ ظُلْمٌ وَجَوْرٌ، يَأْثَـمُ بِسَبَبِهِ جَـمِيعُ الْمُشَارِكِيـنَ بِـهَذِهِ السُّخْرِيَةِ، وَنَاشِرُو الْمَقْطَعِ، فَمِثْلُ هَذَا الصَّنِيعِ ظُلْمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَعَجِبْتُ وَرَبِّي مَـمَّنْ صَدَّقَهُ وُهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَتَّـى الصِّغَارُ وَالْعَوَامُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ بِطَالِبِ عِلْمٍ؟! وَكَانُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)، وَمِثْلُهُ مَنْ شَهَّرَ وَسَخِرَ مِنْ قَارِئٍ أَدْخَلَ آيَةً فِي آيَةٍ، وَهَذَا الْخَطَأُ يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ؛ إِلَّا أَنَّ مَقْطَعَ هَذَا الْقَارِئِ اِنْتَشَرَ بَيْـنَ النَّاسِ اِنْتِشَارَ النَّارِ فِي الْـهَشِيمِ، فَمَاذَا يَسْتَفِيدُ الْمُرْسِلُ وَالْمُتَلَقِي مِنْ هَذَا الْـمَقْطَعِ وَالسُّخْرِيَةِ؟! غَيْـرَ الإِسَاءَةَ لِعِبَادِ اللهِ، وَإِرْضَاءِ الشَّيْطَانِ.
وَذَاكَ يُرْسِلُ مَقَاطِعَ لِـمُسِنٍّ، لَا يُـحْسِنُ التَّعَامُلَ مَعَ الآلَاتِ الْـحَدِيثَةِ؛ فَيَسْخَرُ مِنْهُ، وَيُضْحِكُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَثَالِثَةُ الأَثَافِي مَسْؤُولٌ أَدْلَى بِتَصْرِيحٍ عَـبَّـرَ فِيهِ عَنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِ، بِتَحْلِيلٍ لِقَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ يُؤَيِّدُهُ الْبَعْضُ، وَيَرْفُضُهُ الْبَعْضُ؛ فَظَهَرَتِ الْمَقَاطِعُ السَّاخِرَةُ مِنْهُ، وَالْمَشَاهِدُ الْمُخْجِلَةُ الْمُحْرِجَةُ لَهُ، وَحَـمَّلُوا كَلَامَهُ مَا لَا يَـحْتَمِلُ. وَيَعْلَمُ السَّاخِرُونَ أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ مَقَاطِعَ سَاخِرَةٍ بِهِ لَيْسَتْ هِيَ مَقْصِدُهُ؛ وَلَوْ قُوبِلَتِ الْـحُجَّةُ بِالْـحُجَّةِ، وَالْبُـرْهَانُ بِالْبُـرْهَانِ، بِأُسْلُوبٍ قَائِمٍ عَلَى الْمَنْهَجِ الشَّرْعِيِّ؛ لَكَانَ أَجْدَى وَأَنْفَعَ.
وَهُنَاكَ مَنْ يَسْتَغِلُّ خَطَأً صَدَرَ مِنْ شَخْصٍ عَبَّـرَ بِكَلِمَةٍ مَكَانَ كَلِمَةٍ، أَوْ لَفْظَةٍ بَدَلَ أُخْرَى؛ فَأَصْبَحَ فِي مَوْقِفٍ حَرِجٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَيَتَفَاجَأُ بِأَنَّ هُناكَ مَنْ صَوَّرَهُ وَسَجَّلَهُ، ثُـمَّ نَشَرَهُ بَيْـنَ النَّاسِ سَاخِرًا مِنْهُ؛ أَوْ فَاضِحًا لَهُ، فَهَذِهِ الأمورُ لَا تَـجُوزُ، وَلَا يَرْضَاهَا مُسْلِمٌ: لَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِإِخْوَتِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَحِبَّتِهِ.
وَالأَعْجَبُ وَالأَدْهَى وَالأَمَرُّ، وَالْمُحْزِنُ وَالْمُخْزِي؛ مَنْ يُرْسِلُ مَقَاطِعَ تَسْخَرُ مِنْ وَطَنِهِ، كَمَنْ يِسْخَرُ مِنْ طَبِيعَةِ بَلَدِهِ وَتَضَارِيسِهِ وَمُنَاخِهِ، بِكُلِّ صَفَاقَةٍ وَحَمَاقَةٍ وَقِلَّةِ مُرُوءَةٍ؛ فَيَنْشُرُ مَقَاطِعَ سَاخِرَةً، وَأَبْيَاتِ شِعْرٍ سَاقِطَةٍ تَتَهَكَّمُ بِبَلَدِهِ، تَشِي بِقِلَّةِ وَفَائِهِ، وَسُوءِ طَوِيَّتِهِ وَسَرِيرَتِهِ، أَوْ نَقْصِ عَقْلِهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ. فَهَذَا غَيْـرُ شَاكِرٍ للهِ، بل وَجَاحِدٌ لأَنْعُمِ اللهِ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَنْتَمِيَ لِبَلَدٍ جَعَلَهُ اللهُ آمِنًا مُطْمَئِنًا، وَوَفَّقَ وُلَاةَ أَمْرِهِ لِلْحُكْمِ بِشَرْعِ اللهِ، بَيْنَمَا يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ؛ فَلَو جَرَّبَ غَيْـرَهَا؛ لَعَرَفَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِ بِـهَا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَشْكُرُونَ.
وَهُنَاك مَنْ يَسْخَرُ مِنْ نِسَاءِ بَلَدِهِ؛ فَيُـرْسِلُ الْمَقَاطِعَ السَّاخِرَةَ مِنْهُنَّ، الْمُنْتَقِصَةَ مِنْ قَدْرِهِنَّ، الْمُسِيئَةَ بَيْـنَ الأَنَامِ لَـهُنَّ، فَيَسْخَرُ مِنْ أَشْكَالِـهِنَّ وَطَبِيعَةِ حَيَاتِـهِنَّ بِكُلِّ فُـجُورٍ وَكَذِبٍ. أَوَ مَا عَلِمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ اللَّاتِي يُسِيءُ إِلَيْهِنَّ بِكُلِّ كَذِبٍ وَجَوْرٍ؛ هنَّ مِنْ خِيـرَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِيـنَ؟ أَوَمَا عَلِمَ هَذَا السَّاخِرُ بأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّسْوَةِ اللَّاتِي يَسْخَرُ مِنْهُنَّ: أُمُّهُ، وَأُخْتُهُ، وَاِبْنَتُهُ، وَزَوْجُتُهُ، وَعَمَّتُهُ، وَخَالَتُهُ؟ وَمِثْلُهُ السَّاخِرُ مِنْ كِبَارِ السِّنِّ؛ فَهُوَ لَا يَسْخَرُ حَقِيقَةً إِلَّا مِنْ: جَدِّهِ وَوَالِدِهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ.
بَلْ وَبَعْضُهُمْ يَسْخَرُ مِنْ نَفْسِهِ حِينَمَا يَسْخَرُ بِـمُجْتَمَعِهِ وَأَهْلِهِ؛ مِنْ غَـيْـرِ وَعْيٍ أَنَّهُ يَهْجُو نَفْسَهُ وَيَسْخَرُ بِـهَا؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْشُرُ الْـمَقَاطِعَ السَّاخِرَةَ الْفَاضِحَةَ لِبَعْضِ مَنْسُوبِي الأَنْدِيَةِ الَّذِينَ يُـخَالِفُونَـهُ فِي الْمِيُولِ؛ بِدَافِعِ الْعَصَبِيَّةِ الْـجَاهِلَيَّةِ لِنَادِيهِ؛ وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْـمُخَالِفِينَ لِـمُيُولِهِ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِيـنَ، وَلَا حُرْمَةَ لَـهُمْ، أَوَ مَا عَلِمَ بِأَنَّهُمْ وَأَهْلُوهُمْ يَتَأَذَّوْنَ مِنْ صَنِيعِهِ ؟! وَقَدْ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ.
تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالْـمَظْلُومُ مًنْتَبِهٌ *** يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْـنُ اللهِ لَا تَـنَمِ
وَلَا أَعْجَبُ مِنَ السَّاخِرِينَ كَعَجَبِـي مِنْ الْـمُسْتَقْبِلِيـنَ لِـهَذِهِ السُّخْرِيَةِ، الْمُعْجَبِيـنَ بِـهَا، الضَّاحِكِيـنَ عَلَيْهَا، وَالرَّاضِيـنَ بِـهَا؛ فَيُعِيدُونَ نَشْرَهَا بَيْـنَ النَّاسِ بَدَلًا مِنْ إِنْكَارِهَا، وَمُنَاصَحَةِ مَنْ أَرْسَلَهَا، وَتَوْبِيخِ وَمُعَاتَبَةِ مَنْ صَنَعَهَا، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا فَوْرًا بِـحَذْفِهَا مِنْ أَجْهِزَتِـهِمْ؛ حَتَّـى لَا يَبُوؤُوا بِإِثْـمِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَـهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالـِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 13]، فَمِثْلُ هَذَا الصَّنِيعِ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَتـَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وَكَمَا فِي الْـحَدِيثِ: «...وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَـهَا بَالًا، يَهْوِي بـِهَا فِي جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الْـبُخَارِيُّ. فَكَيْفَ بِـمَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْكَلِمَةِ؟!
وَإِنِّي عَلَى يَقِيـنٍ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ لَـمْ يَنْتَبِهْ بِأَنَّ هَذِهِ سُّخْرِيَةٌ فَلذا قام بنَشَرَهَا؛ وَلَو عَلِمَ أَنَّـهَا سُخْرِيَةٌ؛ لَـخَافَ مِنَ اللهِ وَاِرْتَدَعَ. فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَلَّا يَكُونَ إِمَّعَةً، يُرْسِلُ كُلَّ مَا يَأْتِيهِ دُونَ تَـمْحِيصٍ وَإِنْعَامِ نَظَرٍ. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْنَا رَقِيبٌ عَتِيدٌ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاِسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أمَّا بَعْدُ ... عِبَادَ اللهِ، فَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ السُّخْرِيَةَ عَادَةٌ ذَمِيمَةٌ، تُورِثُ الأَحْقَادَ وَالأَضْغَانَ؛ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهَا، وَأَلَّا يَتَهَكَّمَ عَلَى أَحَدٍ، بِتَنَقُّصِهِ وَإِظْهَارِ عَيْبِهِ، لِيُنَفِّرَ النَّاسَ مِنْهُ، أَوْ يُضْحِكَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ يَشْفِيَ غِلَّهُ مِنْهُ.
وَعَلَينَا أَنْ نَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ الشَّرْعِ، وَأَنْ نَعْرِضَ أَفْعَالَنَا وَتَصَرُّفَاتِنَا عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّـى لَا تَصْدُرَ أَفْعَالُنَا عَنْ عَوَاطِفَ هَوْجَاءَ وَأَهْوَاءَ مُهْلِكَةٍ، أَوْ رَغْبَةٍ فِي إِضْحَاكِ النَّاسِ، بِـمَعْصِيَةِ اللهِ، وَأُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيتكلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، يُضْحِكُ بِهَا جُلساءَهُ؛ يهوي بها مِنْ أَبْعَدَ مِنَ الثُّرَيَّا" (رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
فَعَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُهُ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَاطِعِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِي نَفِسِهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُبَادِرَ بِنَشْرِهَا: هَلْ أَنَا مَأْجُورٌ بِنَشْرِ هَذَا الْمَقْطَعِ أَمْ مَأْزُورٌ؟ وَهَلْ سَيَكُونُ هَذَا الْمَقْطَعُ الَّذِي سَأَنْشُرُهُ بِيْـنَ النَّاسِ يَوْمَ أَنْ أَقِفَ بَيْـنَ يَدَيِّ اللهِ شَاهِدًا لِي أَمْ عَلَيَّ؟ وَهَلْ سَيَنْفَعُ النَّاسَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ أَمْ لَا؟ وَهَلْ فِي هَذَا النَّشْرِ خَيْـرٌ لَهُ أَمْ شَرٌّ عَلَيْهِ؟
فَمِثْلُ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ فِيهَا تَدْرِيبٌ وَتَرْبِيَةٌ للنَّفْسِ عَلَى الْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ، فِي التَّعَامُلِ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الْـمَقَاطِعِ وَالرَّسَائِلِ. وَعَلَى مَنْ يَتَعَرَّضُ للسُّخْرِيَةِ أَلَّا يُقَابِلَ هَؤُلَاءِ بـِمِثْلِ مَا يَفْعَلُونَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَكِلَ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا بِأَنَّ الْـمَنْهَجَ الصَّحِيحَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ السَّاخِرِينَ، يَتَّضِحُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 91].
وَكَانَ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الآخَرِينَ بِاْلعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَلَا أَعْظَمَ إِسَاءَةً مِنْ إِسَاءَةِ رَأْسِ الْمُنَافِقِيـنَ وَكَبِيـرِهِمْ، الَّذِي آذَى النَّبِـيَّ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، إيذاءً شديدًا، وَمَعَ ذَلِكَ تَعَامَلَ النَّبِـيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ تَعَامُلًا لَا مَثِيلَ لَهُ، بِالإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَكَانَ عُلَمَاءُ الأُمَّةِ يَتَعَامَلُونَ مَعَ الْمُسِيئِيـنَ إِلَيْهِمِ بِالْمَنْهَجِ الشَّرْعِيِّ القَائِمِ، عَلَى العَفوِ والصَّفحِ والإِعرِاضِ عِنِ الـجَاهِلِيـنَ، وَمِنْ أَعْظَمِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءِ شَيْخُ الإِسلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَكَانَ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ مِنْ خُصُومِهِ بِالْعَفْوِ وَالدُّعَاءِ لَـهُمْ، مَعَ سُوءِ أَلْفَاظِ بَعْضِ خُصْمِه نَـحوهِ؛ فَقَالَ فِي رَدِّه عَلَى أَحَدِ خُصُومِهِ الَّذِينَ أَسَاءُوا إِلَيْهِ: "وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيُسَــدَّدُهُ، وَيُوَفِّــقُـــهُ وَسَائِرَ إِخْوَانِنَا المْــُسْلِمِينَ، وَنَـحْنُ نَعْدِلُ فِيهِ، وَنُقْصُدُ قَوْلَ الحْــــَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِ، كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْقِسْطِ عَلَى أَعْدَائِنَا الْكُفَّارِ، فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَالْـمُـسْلِمُونَ إِخْوَةٌ" اِنْتَهِى كَلَامُهُ رَحِـمَهُ اللهُ!
وَلِسَانُ حَالِ مَنْ يَتَعَرَّضُونَ لِلسَّبِّ:
وَإِنَّكَ قَدْ سَبَبْتَنِـي فَغَلَبْتَنِـي *** هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالسَّبِّ أَحْذَقُ
كَمَا عَلَيْنَا ألَّا نُقَابِلَ الظُّلْمَ وَالْـخَطَأَ بِـمِثْلِهِ وَنَـمْتَثِلَ لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ). فَلَا يَـجُوزُ أَنْ تَصْنَعَ بِهِ كَصَنِيعِهِ بِكَ؛ فَإِذَا لَـمْ تَعْفُ عَنْهُ وَتَصْفَحْ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَسْلُكَ الطُّرُقَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا تَأْخُذْ حَقَّكَ بِنَفْسِكَ، وَإِنَّـمَا تَـرْفَعُ الْقَضِيَّةَ لِلْقَضَاءِ الشَّرْعِيِّ إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُهُ لِيَفْصِلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، أَوْ تَرْفَعُ الأَمْرَ لِـجِهَاتِ الاِخْتِصَاصِ لِلْبَحْثِ عَنْهُ لِتَأْخُذَ حَقَّكَ مِنْهُ. اللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا مِـمَّنْ سَلِمَ الْـمُسْلِمُونَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ، اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَـمِيلًا.
عِبَادَ الله، أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ وَخَافُوهُ، وَارجُوا رَحْمَتَهُ، وَخَافُوا عَذَابَهُ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُـحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِينَا لِلْبِـرِّ وَالتَّــقْوَى. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُـحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى وَجْهِكَ. الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيينَ غَيْـرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.
اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْـمُسْلِمِينَ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاِجْعَلْهُ هَادِيًا مَـهْدِيًّــا، وَأَصْلِحْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْـمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللهُمَّ انصُرِ الْمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ يُـجَاهِدُونَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، اللهُمَّ انصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكِ وَعَدُوِّنَا، اللهُمَّ ثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ وانصُرْهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِيـنَ، اللَّهُمَّ اخلُفْهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ خَيْـرًا، اللَّهُمَّ انصُرْ قُوَّاتِ التَّـحَالُفِ عَلَى الْـحُوثِـيِّينَ الظَّلَمَةِ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرُوا مَعَنَا، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَـمْـكُمُ اللهُ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي