من الأخلاق الكريمة التي تحلى بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- وحثَّ أمته على التحلي بها طلبًا لرضوان الله -جل وعلا- ومغفرته: خُلُق العفو؛ هذا الخلق العظيم الذي ينبعث من نفوس تقية وقلوب كريمة تحب الله -عز وجل- والدار الآخرة؛ يعفو العبد عن العباد في الدنيا؛ لكي يعفو الله -جل وعلا- عنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يتخلق المسلم بخلق العفو؛ لأنها من الصفات التي اتصف الله بها، والتي يشرع للعبد أن يتخلق بها، يعفو العبد عن العباد في الدنيا لكي يغفر الله -جل وعلا- له في الآخرة ...
إن الحمد لله نستغفره ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من سلك سبيلهم أو سار أو استنار بهدي المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: معاشر المسلمين: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
إخوة الدين والعقيدة: أمرنا الله -جل وعلا- بالتحلي بمكارم الأخلاق، وحثنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على التجمل بمحاسن الأعمال، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن الأخلاق الكريمة التي تحلى بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- وحثَّ أمته على التحلي بها طلبًا لرضوان الله -جل وعلا- ومغفرته: خُلُق العفو؛ هذا الخلق العظيم الذي ينبعث من نفوس تقية وقلوب كريمة تحب الله -عز وجل- والدار الآخرة؛ يعفو العبد عن العباد في الدنيا؛ لكي يعفو الله -جل وعلا- عنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
يتخلق المسلم بخلق العفو؛ لأنها من الصفات التي اتصف الله بها، والتي يشرع للعبد أن يتخلق بها (فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)، يعفو العبد عن العباد في الدنيا لكي يغفر الله -جل وعلا- له في الآخرة (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22]، ويقول الله -جل وعلا- (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40].
يعفو العبد في الدنيا كي يحصّل تقوى الله -جل وعلا- قال سبحانه وتعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40]، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة: 237].
يعفو العبد عن العباد في الدنيا كي يرفعه الله -جل وعلا- درجات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ".
وهذا نبيكم -صلى الله عليه وسلم- الذي وُصف بأنه لا يجازي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، كان من أكثر الناس عفوًا، كان -صلى الله عليه وسلم- يحث الأمة على التحلي بهذا الخلق العظيم، ثم يجسِّده واقعًا عمليًّا في حياته عليه الصلاة والسلام، تأتيه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- فتقول يا رسول الله: "هل مر بك يوم قط هو أشد عليك من يوم أُحُد؟".
قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
ويفرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة بني المصطلق، ويسير خلفه أحد المشركين كان يمنّي نفسه لعله الذي يقضي على رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه-، وما علم أن الله يحفظه، وما علم أن الله يحميه، وما علم قول الله -جل وعلا-: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67].
فتفرق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستظلوا تحت الشجر وأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ سيفه وعلقه في شجرة، واضطجع تحتها -صلى الله عليه وسلم-، تسلل هذا المشرك حتى بلغ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخذ سيفه وشهَره في وجهه، ثم أيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد يا محمد! استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ما يمنعك مني الآن؟ فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكله ثقة بوعد الله ووعيده، فقال عليه الصلاة والسلام: "الله يمنعني منك"، فسقط السيف من يد هذا المشرك، أخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهره في وجهه قال: "أنت الآن! مَن يمنعك مني؟!"، قال: يا محمد اعف عني، فعفا عنه -صلى الله عليه وسلم-.
إنه الخُلق العظيم الذي تجسد في شخصه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة من أرضه، من بلده، من بيته، من داره، من ماله من أهله يخرج -صلى الله عليه وسلم- عام الهجرة، فيهاجر إلى المدينة طريدًا شريدًا قد وضع الأعداء في النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة ناقة لمن يأتي به حيًّا أو ميتًا، فحفظه الله، وأكرمه الله، وأعزه الله ونصره الله ليعود -صلى الله عليه وسلم- بعد ثماني سنوات، يعود في عام الفتح؛ فتح مكة، مع صحابته الكرام الذين يفدونه بالغالي والنفيس، ويقدمون أرواحهم رخيصة من أجل أن يبقى عليه الصلاة والسلام.
يعود -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة إلى أرضه وداره إلى بيت الله الحرام، فيقف في الناس خطيبًا، ويلتفت إلى الوجوه أمامه، فإذا بهذا قد ضربه، وذاك قد شتمه، وذاك قد آذاه، والآخر عذَّبه، والثالث وضع سلا الجزور على ظهره، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أهل مكة من يمنعكم مني الآن، يا أهل مكة ما تظنون أني فاعل بكم"؛ أنتم في قبضتي وأصحابي معي وقد آذيتموني، فقال أهل مكة: "يا محمد أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال -صلى الله عليه وسلم- وقد عفا عنهم لوجه الله -جل وعلا- قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
نعم عفا عنهم -صلى الله عليه وسلم- لأنه يريد رحمتهم، ويريد هدايتهم، ويريد إدخالهم في الإسلام؛ إنه الخُلق العظيم الذي أمر به النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
ويجمل هذا الخلق ويكون عظيمًا إذا كان العبد قادرًا على أن ينتقم لنفسه، وأن ينتصر لشخصه، فيمنعه هذا الأمر لقربه من الله ومحبته فيما عند الله -جل وعلا-.
يأتي أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد آذاه المنافقون في ابنته أقرب الناس إليه، وكان من بين مَن خاض في حادثة الإفك مسطح بن أثاثة، كان قريبًا لأبي بكر، وكان ينفق عليه من ماله، فلما نزلت براءة أم المؤمنين من فوق سبع سماوات، أقسم أبو بكر -رضي الله عنه- بالله قسمًا ألا ينفق على مسطح مرة أخرى، فنزل قول الله -جل وعلا-: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا)، قال أبو بكر: عفوت عنه، قال الله: (وَلْيَصْفَحُوا) قال أبو بكر: زدت له في النفقة، (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور:22].
حينما يعتدي عليك معتدٍ أو يقدح فيك قادح فاتق الله فيه، فقد قال بعض السلف: "من عصا الله فيك كافئه بأن تطيع الله فيه"، وهكذا كان صحابة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
يأتي عيينة بن حصن إلى ابن أخيه الحر بن قيس، وكان الحر بن قيس قريبًا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-، وكان له حظوة منه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه: يا حر! أدخلني على عمر، استأذن لي في الدخول على عمر.
فدخل على أمير المؤمنين بعد أن أذن له فقال: "إيهٍ يا ابن الخطاب! والله ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل"، فقام عمر -رضي الله عنه- فهَمَّ أن يبطش به، فقال الحر بن قيس: "يا أمير المؤمنين! إن الله -جل وعلا- يقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، وإن عمي هذا من الجاهلين، فقال عمر -رضي الله عنه-: "قد عفوت عنه".
ما أجمل أن يتقيد المسلم بأخلاق القرآن! وما أعظم أن يكون المسلم وقَّافًا عند أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
تدخل جارية ميمون بن مهران، وكان لديه أضياف دخلت عليه بصحفة فيها مرقة حارة، فإذا بها تكبّ هذا المرقة على ميمون بن مهران، وتصبّها عليه، فغضب غضبًا شديدًا وهمَّ أن يضربها، فقالت له: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، قالت: كظمت غيظي، قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، قال: عفوت عنك، قالت: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، قال: اذهبي فأنتِ حرة لوجه الله -جل وعلا-.
الله أكبر! ما أعظم أن نتقيد بأخلاق القرآن! ما أعظم أن نطبق حروفه وحدوده! وأن نكون كما كان سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه كان خُلقه القرآن، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
الحسن بن علي بن بنت رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- يقول: "لو أن رجلاً أذاني في أذني، ثم اعتذر لي في أذني الأخرى؛ لقبلت عذره"؛ لأنه يغلّب جانب العفو الذي أمر الله -جل وعلا- به.
ويقول جعفر الصادق: "لأن أندم على العفو عشرين مرة أحب إليَّ من أندم على العقوبة مرة واحدة".
أتي إلى عبد الملك بن مروان بجيش ابن الأشعث الذي خرج عليه، وإذا بهم أمامه قد رُبطوا فاستشار رجاء بن حيوة، فقال له: يا إمام ما تقترح عليَّ أن أفعل بهم، وقد أمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلهم، قال يا أمير المؤمنين: "لقد أعطاك الله فيهم ما تحب، فأعطِ الله فيهم ما يحب، قال: قد عفوت عنكم".
إنه الخُلق الكريم الذي أُمر به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، يقول الإمام القيم -رحمه الله- "يا ابن آدم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوبًا لا يعلمها إلا هو, وإنك تحب أن يغفرها الله لك, فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده, وأن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده, فإنما الجزاء من جنس العمل.. تعفو هنا يعفو هناك, تنتقم هنا ينتقم هناك، تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك".
فمن عفا عن عباد الله عفا الله عنه، ومن انتقمَ انتقم الله منه، ومن طالب بالحق هنا طُولب بالحق هناك، هكذا يسير المسلم كما أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
إن العفو ليس ضعفًا، ولكنه قوة؛ لأن أعظم القوة أن تأخذ بكتاب الله وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12].
محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى- يبين في أبيات من الشعر أن العفو من أعظم ما يستجلب به المودة بين البشر، يقول رحمه الله:
لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ *** أرحت نفسي من همّ العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيتـه *** أدفع الشر عنـي بالتحيـات
وقال غيره:
سامح أخاك إذا خلط *** منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفـه *** إن زاغ يوماً أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت *** مهذباً رمت الشطـط
من الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط؟
محمد الهادي الـــذي *** عليه جبريل هبط!
فخذوا بهذا الخلق العظيم، تحروا هذا مع أنفسكم، في تعاملكم مع الناس، في أسركم، مع زوجاتكم، مع أبنائكم، مع العمالة عندكم، مع الناس جميعًا، من أحب أن يعفو الله عنه فليعف عن عباد الله، ومن أحب أن يغفر الله له فليغفر لعباد الله، وإنما الجزاء من جنس العمل.
اللهم زينا بزينة الإيمان وأصلح أحوالنا بالقرآن ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي