إنها العبادة تعطي العبد قوة، وتزيده إيمانًا، وتجعله أقوى في صدّ الفتن التي تعصف بهذه الأمة، ولهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن للعبادة في زمن الفتن فضلاً عظيمًا، فقال عليه الصلاة والسلام: "عبادة في الهرج كهجرة إليَّ"، حينما تكثر الفتن يكثر القتل، وتُرَاق الدماء، ويقبل العبيد إلى رب الأرض والسماء؛ فإن العبادة تعدل هجرة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-...
إن الحمد لله نستغفره ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى من سلك سبيلهم أو سار أو استنار بهدي المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: معاشر المسلمين: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
إخوة الدين والعقيدة: أمر الله -جل وعلا- نبينه -صلى الله عليه وسلم- أن يتزود من العبادة، وأن يكثر من الطاعة، وأن يلحّ على ربه -جل وعلا- في المسألة، أمره الله -جل وعلا- بهذا الأمر، وبيَّن أن هذه العبادة هي مصدر شرف العبد وفخره وعزه حتى يأتيك الموت، وليس ما تدعي بعض الطرق أنه حتى يصل العبد إلى درجة اليقين فيتخلى عن أوامر الرحيم -جل وعلا-.
بل إن العبد منذ أن يعيش في هذه الحياة وهو يتقلب في طاعة الله وينعم على قلبه ولسانه وجسده بعبادة خالقه ومولاه -سبحانه وتعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، أمر من الرب -جل وعلا- أن يستمر العبد في عبادته وفي طاعته إلى آخر لحظة من حياته حتى يدركه الموت وحتى يقبض هادم اللذات ومفرق الجماعات روحه. إنها عبادة الله، إنها الشرف والعز والفخر الذي ينتسب له المسلم.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبادة دائمة لربه ومولاه وخالقه -جل وعلا-، ولما قدم بعض الشباب من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فدُلوا عليها، فقال أحدهم: "أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا فقال: "ما بال رجال يقول أحدهم كذا، وكذا لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
إن عبادة الله -جل وعلا- لا تتم إلا بركنين أساسيين؛ الأول: أن يكون المقصد في هذه العبادة وجه الله -عز وجل-؛ لا يبتغي بها العبد رياء ولا سمعة. والأمر الثاني: أن تكون هذه العبادة على منهج محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن زاد في شرع الله ومن زاد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعمله مردود عليه.
وقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، أي: مردود عليه، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
ولقد نعت الله -جل وعلا- ووصف نبيه الأعظم في كتابه الكريم في المقامات العظيمة في دين الله بلفظ العبودية، فقال -جل وعلا-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1].
وقال -جل وعلا-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) [الكهف: 1]، وقال تعالى (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [الجن: 19]، وقال -جل وعلا-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء: 1].
ويأتي جبريل الأمين إلى الصادق الأمين -عليهما الصلاة والسلام- فيقول: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا أَوْ نَبِيًّا مَلِكًا"؟ مقام النبوة ثابت، لكن هل تريد مع هذا المقام أن تعيش حياة الناس؛ إن جاعوا تجوع، وإن شبعوا تشبع، أو تريد أن تعيش حياة الملوك كما عاشها سليمان وداود -عليهما السلام-.
فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَنْ تَوَاضَعْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا". فَمَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ مُتَّكِئًا حَتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ».
وهذا هو الشرف وهذا هو الفخر والعز الذي يصل إليه العبد:
ومـما زادني شـرفـاً وتـيــهـاً *** وكدت بأخمصي أطأ الـثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صـيَّرت أحمد لي نـبيا
مقام العبادة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مقام عظيم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!"، فماذا أجاب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عائشة أفلا أكون عبدًا شكورًا".
يدخل عليه بلال -رضي الله عنه- ليؤذنه بالصلاة فيجد أن إمامه ونبيه وقائده وسيده -صلى الله عليه وسلم- يقوم وهو يبكي، فالتفت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول يا بلال أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190- 191].
وإذا أردتم أن تنظروا إلى مدلول قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله"، فتأملوا في هذا الخبر، وانظروا لهذا الموقف عن الصادق المصدوق -رضي الله عنه- يقول حذيفة -رضي الله عنه-: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه" (رواه مسلم).
إنها عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا لو أردت أن تحسب هذه القراءة المتواصلة، وكما ورد في هذا الحديث وبتمهل لوجدت أنها لا تقل عن ست ساعات، يقضيها في عبادة رب الأرباب وخالق الخلق -سبحانه وتعالى-.
إنها العبادة تعطي العبد قوة، وتزيده إيمانًا، وتجعله أقوى في صدّ الفتن التي تعصف بهذه الأمة، ولهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن للعبادة في زمن الفتن فضلاً عظيمًا، فقال عليه الصلاة والسلام: "عبادة في الهرج كهجرة إليَّ"، حينما تكثر الفتن يكثر القتل، وتُرَاق الدماء، ويقبل العبيد إلى رب الأرض والسماء؛ فإن العبادة تعدل هجرة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
سُئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: "كان يذكر الله في كل أحيانه"، بل كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استغفروا الله وتوبوا إليه؛ فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة"، وفي رواية "مائة مرة".
من الذي يستغفر؟ من الذي يتوب إلى الله؟ إنه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بنا نحن العصاة المذنبين الخطائين؟! اللهم ارحمنا برحمتك واكلأنا برعايتك يا رب العالمين.
لقد ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام على هذا المبدأ العظيم، وحثَّهم على القرب من الكريم الرحيم -جل وعلا-؛ لأن العبادة هي التي تقوّي العبد، وإذا وحّد العبد ربه، وأكثر من عبادة خالقه، جعل في قلبه سياجًا يحميه، ويمنعه من شرور الشهوات والشبهات، وهذا ما غرسه نبينا في قلوب أصحابه، وربى عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-، اسمع إلى هذا الموقف العظيم الذي يدل على أثر تربية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في قلوب أصحابه، وعلى أثر العبادة بل وعلى تلذذهم بعبادة الله -جل وعلا-.
الصحابة ما كانوا يعبدون لمجرد العبادة فقط؛ إنهم يحتسبون الأجر من الله، لكن العبادة أصحبت في حياتهم كالزاد، كالطعام والشراب الذي لا يستطيع الجسم أن يتخلى عنه، فكذلك العبادة في حياة الصحابة -رضوان الله عليهم- لا تستقيم حياتهم، ولا ينهضون في هذه الأرض إلا بعبادة خالقها -جل وعلا-.
نبينا -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الغزوات يأمر اثنين من الصحابة، وهما عباد بن بشر وعمار أن يحرسا الجيش، نام جيش النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام عباد بن بشر، فقال لصاحبه عمار: تريد أن أكفيك أول الليل أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله، قام عباد يحرس جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم أن مشركًا كان يتتبع جيش النبي -عليه الصلاة والسلام- يريد أن يسخن فيه الجراح، يريد أن يصيب دمًا في جيش محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نظر عباد فوجد أن الجيش آمِن، وأن الدنيا آمنِة، ثم نظر فإذا بذلكم الليل الذي يخيم بظلامه وتنشرح به قلوب المؤمنين فيقومون ليناجوا رب الباريات وخالق الأرض والسماوات، فتسعد أرواحهم، وتتهذب قلوبهم، وتأنس حياتهم بذكرهم لربهم -جل وعلا-.
فقام يناجي ربه -جل وعلا- فرفع يديه مكبرًا من أجل أن يصلي، وفي أثناء صلاته إذا بهذا المشرك يأخذ سهمًا فيضعه في كبد قوسه، فما استقر إلا في ظهر عباد -رضي الله عنه-، فقام عباد فأخذ السهم ورماه، فرماه بالثاني، ثم أتبعه بالثالث، وهو يأخذ السهم ويلقي به، فلما رأى أن الدماء سالت خفّف من صلاته، فقام عمار، ولما رأى الدماء، قال: "يرحمك الله ألا آذنتني حينما ضُربت بهذه السهام؟" فماذا قال؟ ماذا قال من أنس بالصلاة؟ ماذا قال من انشرح صدره للصلاة؟ ماذا قال من سعد بعبادة ربه -جل وعلا-.
قال: "يا عمار لقد كنت أناجي ربي -جل وعلا- وأقرأ القرآن، ووالله لخروج روحي من جسدي أهون عليَّ من أن أقطع صلاة دخلت فيها، ووالله لولا أن أضيّع ثغرًا من ثغور المسلمين ما أتممت الصلاة خفيفة".
فيا الله كيف أصبحت هذه العبادة زاد لأرواحهم، وروح لقلوبهم وسعادة لحياتهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كانت الصلاة والعبادة هي الزاد الحقيقي لهم، هي المعين الذي ينطلقون فيه في هذه الحياة فيقابلون بها شهواتها وشبهاتها؛ لأنهم قد تعلقوا بخالقهم سبحانه وتعالى.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به *** وقت المسير في أعقابها حادي
اللهم حبِّب العبادة في قلوبنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي