ولكن؛ من نظر إلى أفعال كثير منا -عباد الله- رأى العجب العجاب، وحار لبه، وأصابته الدهشة والحيرة، فليست أفعالنا أفعال المؤمنين المصدقين بالموت والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، وإنما هي أفعال مَن لا يصدق بالموت وبالبعث والجزاء والجنة والنار، شابهنا فيها من ذكر الله في قوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية:24].
إن الحمد لله نستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: الموت حق ثابت على كل نفس،كما قال -سبحانه وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
لما احتضر الواثق بالله، ردد هذين البيتين:
الموت فيه جميعُ الخلق مُشترِكُ *** لا سوقةٌ منهمُ يبقى ولا مَلِكُ
ما ضرّ أهل قليل في تفرّقهم *** وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالتراب، وجعل يقول: "يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه!".
والمؤمن الصادق في إيمانه لا يشك في هذا طرفة عين، بل يؤمن به ويسلم به، والبعث بعد الموت، والوقوف بين يدي الله للحساب، والجزاء حقٌّ ثابتٌ أيضاً، كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام:36]، وقال -سبحانه-: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].
ولا شك للمؤمن الصادق في إيمانه في هذا، بل يؤمن به ويسلم به ويعلم علم اليقين أنه ميت ومبعوث، وعن أعماله مسؤول، وعليها محاسب ومجزي، والجنة حق، وهي دار المؤمنين، وهم فيها خالدون مخلدون ومنعمون، والنار حق، وهي دار الكافرين، وهم فيها خالدون مخلدون ومعذبون، وهذا لا يشك فيه مسلم، نعم، لا يشك فيه مسلم ولد من أبوين مسلمين، وعاش بين المسلمين، وسمع الكتاب المبين، وسنة خاتم النبيين، بل يعلم أنه حق مبين.
ولكن؛ من نظر إلى أفعال كثير منا -عباد الله- رأى العجب العجاب، وحار لبه، وأصابته الدهشة والحيرة، فليست أفعالنا أفعال المؤمنين المصدقين بالموت والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، وإنما هي أفعال مَن لا يصدق بالموت وبالبعث والجزاء والجنة والنار، شابهنا فيها من ذكر الله في قوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية:24].
ترْكٌ للصلوات الخمس المفروضة أو تساهل بها، ترك للزكاة، تفريط في الصيام والحج، تساهل بكثير من الواجبات، وقوع في كثير من المعاصي والسيئات، تلبّس ببعض الكبائر الموبقات، تعدٍّ على الحقوق، أكْل للأموال بالباطل، ظلم للعباد في نفس ومال، كبْر وعُجب، فخر واختيال، همز ولمز وازدراء، لا اعتبار بموت قريب أو حبيب أو صديق، لا عظة بمرض أو حادثة، مداهنة على حساب الدين والمروءة، اغترار بمال، أو منصب أو جاه، أو سلطة، أو حسب، ونسب.
لقد انطبق علينا قوم أحدهم:
نحن أهل اليقين بالموت والبعـــ *** ـــثِ وَعرض الأقوال والأعمالِ
ثم لا نرعـوي وقــد أمــهـل اللــ *** ـــهُ بطـول الإيـقـاظ والإمـهــال
أي شـيء تركــتَ يا عــارفا بـالـ *** ـــلـهِ لـلمغتـــرّيـــن والجُهّـــال؟
[المغترين والجهال] بالموت والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار ولا شك، لو سألت الواحد منا عن الموت لأجابك بأنه حق وسأل الله حسن الختام، ولو سألته عن البعث والحساب والجزاء، لأجابك بالتصديق والإيمان به وسأل ربه تخفيف الحساب والتجاوز والعفو، ولو سألته عن الجنة والنار لصدق بذلك وسأل الله الجنة واستعاذ به من النار، فإن نظرات إلى أفعاله رأيتها مناقضة لإيمانه وتصديقه، ما السبب عباد الله؟!.
الأسباب كثيرة، أذكر منها ما يتسع المقام لذكره:
أولها: الغفلة والإعراض عن ذكر الموت والبعث والجزاء والجنة والنار، فحديث المجالس -غالبه أو كله- عن الدنيا وزينتها، وجديدها وقديمها. وعلاج هذا السبب بالإكثار من ذكر الموت والجنة والنار، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات".
وقد كانت مجالس السلف الصالح معمورة بذكر الله والدار الآخرة، بذكر الموت والجنة والنار، ذكر الذهبي -رحمه الله- في السير عن أبي داود -رحمه الله- أنه قال: "كانت مجالس الإمام أحمد -رحمه الله- مجالس الآخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط، وكان -رحمه الله- إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: إذا ذكرتُ الموت هان عليّ أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل".
ثانيها: الصحبة السيئة، فإنها سبب لأن ينسى العبد ربه وعبادته، والموت وكربته، والحساب وشدته، وعلاج هذا السبب بمرافقة الصحبة الصالحة التي تذكّر الإنسان بربه، وتعينه على طاعته وعبادته، وتدله على الخير وترشده إليه، وتحذره من الشر وتمنعه منه.
ثالثها: الفتن العارمة التي انتشرت في هذا الزمان، وأقصد بها فتن الشبهات التي يلقيها الأعداء على المسلمين، ليشككوهم في دينهم وأمر آخرتهم، وفتن الشهوات التي يبثها الأعداء وأدعياؤهم في مجتمعات المسلمين وبلادهم عن طريق وسائل البث المقروءة والمرئية. وعلاج هذا السبب بالعلم النافع، والعمل الصالح، والخوف من الله، ومراقبته، والخشية منه.
رابعها: فقدان التربية الإسلامية الصادقة الناصحة.
خامسها: إخفاء أمور الآخرة وجعلها من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وعلاج هذا السبب أن يؤمن العبد بحقيقة ما أخبر الله عنه ورسوله من أمور الآخرة، وأنها حق، لأن الذي أخبر بها هو الله -عز وجل-، ومن أصدق من الله قيلا؟ وأخبر بها رسوله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
سادسها: رؤية الكافرين وكيف يصبرون على ضلالهم وكفرهم، ويجاهدون في تحقيق مآربهم ولو كلفهم ذلك حياتهم، ولو تعرضوا بسبب ذلك للأذى.
وعلاج هذا السبب أن نعلم أن الشيطان زين لهم أعمالهم،كمال قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:103-104]، وأن الله -عز وجل- يملي لهم ويمهل حتى يأخذهم على غرة وغفلة، قال -سبحانه-: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:183]، "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، وكان أخذه له أليماً شديداً.
سابعها: رؤية المسلمين وما يعيشونه في هذا الزمان من واقع أليم، وتخلف ذريع، في أكثر مجالات الحياة، وتفوق عدوهم عليهم فيها. وعلاج هذا السبب بأن نعلم أن هذا التخلف بسبب المسلمين أنفسهم لا بسبب الإسلام.
ثامنها: تأخر النصر والتأييد من الله لعبادة المسلمين المستضعفين، حتى قال قائلهم: متى نصر الله؟ أليس المسلمون على الحق، والكافرون على الباطل؟ وعلاج هذا السبب بأن نعلم أن الله -عز وجل- يمتحن المؤمنين ويبتليهم؛ ليعلم الصادق من الكاذب، والمجاهد الصابر من المتقاعس الجزع.
هذه عباد الله بعض الأسباب وعلاجها، فلنتق الله -عز وجل-، ولتكن أفعالنا أفعال الخاشعين المتقين، ولنحذر من الاغترار بالدنيا وأن يغرنا بالله الغرور.
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أنما هذه الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، وعما قريب تنتقلون منها إلى الدار الآخرة، التي قال الله فيها: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
فمهما عمرت في الحياة الدنيا ودام لك فيها السرور واليسار فلا مناص من الموت الذي ينقلك من دارك الدنيا إلى دارك الأخرى، كما قيل:
هبـْـَكَ عُمـِّـرْتَ مثـــل ما عاش نـوحٌ *** ثم لاقـيــتَ كُــــلَّ ذاك يــســاراً
هل من الموت -لا أبا لك- بُدٌّ *** أيُّ حيٍّ إلى سوى الموت صارا؟
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي