مِن طَبِيعَةِ الإِنسَانِ المُشَاحَّةُ وَحُبُّ التَّغَلُّبِ عَلَى الآخَرِينَ، وَمِن ثَمَّ فَلا غَرَابَةَ أَن حَرِصَ مُنذُ كَانَ عَلَى تَوَلِّي الإِمَارَةِ وَتَقَلُّدِ الوِلايَاتِ، حَتَّى أَفضَى بِهِ ذَلِكَ إِلى نِزَاعَاتٍ وَخِلافَاتٍ، وَأَدخَلَهُ في مَصَائِبَ وَمُشكِلاتٍ، بَل وَجَرَّهُ إِلى حُرُوبٍ وَعَدَاوَاتٍ، سَقَطَت بِسَبَبِهَا دُوَلٌ وَحُكُومَاتٌ، وَضَاعَت أَمجَادٌ وَتَبَدَّدَت أُمنِيَّاتٌ. وَكَمَا وُجِدَ هَذَا الأَمرُ الَّذِي هُوَ أَشبَهُ بِالدَّاءِ في الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَالمَنَاصِبِ العَالِيَةِ، فَقَد تَسَلَّلَ إِلى المُجتَمَعَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالوِلايَاتِ الحَقِيرَةِ، وَسَيطَرَ عَلَى بَعضِ النُّفُوسِ وَغَدَا هَاجِسًا لَهَا، حَتَّى صَارَ هَمُّ الفَردِ أَن يَسُودَ عَلَى بِضعَةِ أَفرَادٍ، أَو يَنَالَ مَنصِبًا لَيسَ لَهُ مِنهُ إِلاَّ اسمٌ بِلا رَسمٍ، دُونَ تَفكِيرٍ بِتَوَابِعِ ذَلِكَ وَخُطُورَتِهِ عَلَى الذِّمَّةِ في العَاقِبَةِ...
أَمَّا بَعدُ، فَـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مِن طَبِيعَةِ الإِنسَانِ المُشَاحَّةُ وَحُبُّ التَّغَلُّبِ عَلَى الآخَرِينَ، وَمِن ثَمَّ فَلا غَرَابَةَ أَن حَرِصَ مُنذُ كَانَ عَلَى تَوَلِّي الإِمَارَةِ وَتَقَلُّدِ الوِلايَاتِ، حَتَّى أَفضَى بِهِ ذَلِكَ إِلى نِزَاعَاتٍ وَخِلافَاتٍ، وَأَدخَلَهُ في مَصَائِبَ وَمُشكِلاتٍ، بَل وَجَرَّهُ إِلى حُرُوبٍ وَعَدَاوَاتٍ، سَقَطَت بِسَبَبِهَا دُوَلٌ وَحُكُومَاتٌ، وَضَاعَت أَمجَادٌ وَتَبَدَّدَت أُمنِيَّاتٌ.
وَكَمَا وُجِدَ هَذَا الأَمرُ الَّذِي هُوَ أَشبَهُ بِالدَّاءِ في الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَالمَنَاصِبِ العَالِيَةِ، فَقَد تَسَلَّلَ إِلى المُجتَمَعَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالوِلايَاتِ الحَقِيرَةِ، وَسَيطَرَ عَلَى بَعضِ النُّفُوسِ وَغَدَا هَاجِسًا لَهَا، حَتَّى صَارَ هَمُّ الفَردِ أَن يَسُودَ عَلَى بِضعَةِ أَفرَادٍ، أَو يَنَالَ مَنصِبًا لَيسَ لَهُ مِنهُ إِلاَّ اسمٌ بِلا رَسمٍ، دُونَ تَفكِيرٍ بِتَوَابِعِ ذَلِكَ وَخُطُورَتِهِ عَلَى الذِّمَّةِ في العَاقِبَةِ، وَلا انتِبَاهٍ لأَنَّ كُلَّ وِلايَةٍ كَبُرَت أَو صَغُرَت هِيَ أَمَانَةٌ، وَهِيَ يَومَ القِيَامَةِ خِزيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ لِمَن سَلَّمَهُ اللهُ وَأَنجَاهُ.
وَلأَنَّ الحِرصَ عَلَى الإِمَارَةِ أَيًّا كَانَ نَوعُهَا يُفسِدُ دِينَ المَرءِ بِقَدرِ حِرصِهِ، وَيُضِيعُ نَصِيبَهُ في الآخِرَةِ، فَقَد حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مِن عَوَاقِبِ التَّطَلُّعِ إِلى الإِمَارَةِ وَالبَحثِ عَنِ الزَّعَامَةِ فَقَالَ: "مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لَهَا مِن حِرصِ المَرءِ عَلَى الشَّرَفِ وَالمَالِ لِدِينِهِ" (رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
وَالمَعنَى أَنَّ الفَسَادَ الحَاصِلَ لِلعَبدِ جَرَّاءَ حِرصِهِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ، أَشَدُّ مِنَ الفَسَادِ الحَاصِلِ لِلغَنَمِ الَّتِي غَابَ عَنهَا رُعَاتُهَا، وَأُرسِلَ فِيهَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ، يَفتَرِسَانِ وَيَأكُلانِ، فَإِذَا كَانَت الغَنَمُ في هَذِهِ الحَالِ لا يَسلَمُ مِنهَا إِلاَّ قَلِيلٌ، فَإِنَّ الحَرِيصَ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لا يَكَادُ يَسلَمُ لَهُ دِينُهُ.
وَأَمَّا حِينَ تَكُونُ الإِمَارَةُ أَوِ الوِلايَةُ مَقصُودَةً لِلتَّعَالي وَالتَّكَبُّرِ وَرُؤيَةِ النَّفسِ فَوقَ غَيرِهَا، أَو تُتَّخَذُ مَسلَكًا لِلإِفسَادِ وَتَضيِيعِ الحُقُوقِ، فَتِلكَ خَسَارَةُ الدَّارِ الآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ الجَدِيرَةُ بِالاهتِمَامِ بِهَا ؛ وَالَّتِي لا رَافِعَ فِيهَا إِلاَّ التَّوَاضُعُ وَالتَّطَامُنُ وَتَركُ الإِفسَادِ، قَالَ – تَعَالى -: (تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
وَلِعِظَمِ أَمرِ الإِمَارَةِ وَثِقَلِ شَأنِ الوِلايَةِ، وَكَونِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ غَيرَ حَقِيقٍ بِهَا وَلا قَادِرًا عَلَى النُّهُوضِ بِهَا، فَقَد وَرَدَت نُصُوصٌ تَنهَى عَن سَؤُالِهَا وَتَمَنِّيهَا، وَتُحَذِّرُ مِن ذَلِكَ وَتُبَيِّنُ عَاقِبَتَهُ، وَتَنهَى عَن تَولِيَةِ مَن سَأَلَهَا أَو حَرَصَ عَلَيهَا، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِعَبدِالرَّحمَنِ بنِ سَمُرَةَ: "يَا عَبدَالرَّحمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لا تَسأَلِ الإِمَارَةَ ؛ فَإِنَّكَ إِن أُعطِيتَهَا عَن مَسأَلَةٍ وُكِلتَ إِلَيهَا، وَإِن أُعطِيتَهَا عَن غَيرِ مَسأَلَةٍ أُعِنتَ عَلَيهَا " (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكُم سَتَحرَصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَومَ القِيَامَةِ، فَنِعمَ المُرضِعَةُ وَبِئسَتِ الفَاطِمَةُ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ).
نَعَم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – التَّزَعُّمُ مَحبُوبٌ لِلنَّفسِ في الدُّنيَا، وَكُلٌّ يَتَطَلَّعُ إِلَيهِ وَيَطلُبُهُ، وَمَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إِلاَّ وَهُوَ يَرَى نَفسَهُ أَهلاً لِلقِيَادَةِ، وَلَكِنَّ الأَمرَ كَمَا وَصَفَهُ الحَبِيبُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – حُلوٌ في أَوَّلِهِ، مُغرٍ في بِدَايَتِهِ، وَلَكِنَّهُ بَعدَ المَوتِ وَحِينَ لِقَاءِ اللهِ، يُصبِحُ حِملاً ثَقِيلاً وَإصرًا وَبِيلاً، حِينَ يَتَعَرَّضُ المُتَزَعِّمُ لِلسُّؤَالِ وَالحِسَابِ وَالعِقَابِ، وَيَتَعَلَّقُ الأَمرُ بِحُقُوقِ مَن تَزَعَّمَ المَرءُ فِيهِم وَوَعَدَهُم بِأَن يَكُونَ لَهُم أَبًا وَعَنهُم مُنَافِحًا، وَأَن يُحَقِّقَ لَهُم هَدَفًا يَصبُونَ إِلَيهِ وَيَصِلَ بِهِم إِلى غَايَةٍ يُرِيدُونَهَا، ثم نَسِيَهُم وَوَلاَّهُم ظَهرَهُ، فَوَا حَسرَتَهُ حِينَ يَقِفُونَ مُتَظَلِّمِينَ أَمَامَ رَبِّ العَالَمِينَ ! وَوَا خَسَارَتَهُ حِينَ يَأخُذُونَ حُقُوقَهُم مِن حَسَنَاتِهِ فَيُفلِسُ، أَو يُلقُونَ مِن سَيِّئَاتِهِم عَلَى ظَهرِهِ فَيُبلِسُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد أَصبَحَ النَّاسُ اليَومَ لا يَتَوَرَّعُونَ أَن يَسأَلُوا الإِمَارَةَ وَيَطلُبُوا الزَّعَامَةَ، وَجَعَلُوا يَتَسَابَقُونَ إِلى ذَلِكَ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهِ، حَتَّى وَصَلَ الأَمرُ بِكَثِيرٍ مِنهُم إِلى أَن يَتَشَبَّعَ بِمَا لم يُعطَ، وَيَصِفَ نَفسَهُ بِمَا لَيسَ فِيهَا مِنهُ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، وَكَفَى بِذَلِكَ زُورًا وَغُرُورًا، وَخِدَاعًا لِلنَّاسِ وَتَغرِيرًا، وَعَلَى عَكسِ مَا كَانَ يَفعَلُ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَقَد صَارَتِ الدِّعَايَاتُ تُؤَثِّرُ في النَّاسِ فَيَتَّجِهُونَ إِلى مَن يَمدَحُ نَفسَهُ، وَيَدعَمُونَ مَن يَملِكُ جَذبَهُم بِمَعسُولِ الكَلامِ وَحُلوُ الوُعُودِ، فَيُوَلُّونَهُ أَمرَهُم وَيُلقُونَ إِلَيهِ بِزِمَامِ مَصَالِحِهِم.
أَمَّا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – أَحكَمُ النَّاسِ وَأَعلَمُهُم، وَأَخشَاهُم للهِ وَأَتقَاهُم، فَقَد قَالَ لِرَجُلَينِ سَألاهُ الإِمَارَةَ: "إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَن سَأَلَهُ وَلا مَن حَرَصَ عَلَيهِ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).
وَالسَّبَبُ في عَدَمِ تَولِيَتِهِ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - الإِمَارَةَ مَن سَأَلَهَا، أَنَّ الَّذِي يَسأَلُهَا وَيَحرِصُ عَلَيهَا وَيَتَشَوَّفُ لَهَا، غَالِبًا مَا يَكُونُ غَيرَ صَالِحٍ لَهَا ؛ لأَنَّ سُؤَالَهُ وَحِرصَهُ يَدُلُّ عَلَى حُبِّهِ الشَّدِيدِ لِلدُّنيَا وَطَمَعِهِ بِزَهرَتِهَا، وَإِرَادَتِهِ العُلُوَّ فِيهَا، هَذَا عَدَا كَونِ مَدحِهِ نَفسَهُ وَإِعلاءِ شَأنِهَا في هَذَا الجَانِبِ هُوَ نَوعَ اتِّكَالٍ مِنهُ عَلَيهَا، وَإِعجابًا بِقُدُرَاتِهِ وَغُرُورًا بِإِمكَانَاتِهِ، وَانقِطَاعًا عَنِ الاستِعَانَةِ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالَّتِي لا غِنَى لِعَبدٍ عَنهَا طَرفَةَ عَينٍ، وَلا تَوفِيقَ لَهُ في كَبِيرٍ وَلا صَغِيرٍ مِنَ الأَمرِ إِلاَّ بِمَعُونَتِهِ - سُبحَانَهُ -.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ لِمَن لا يَستَحِقُّونَ تَوَلِّي شُؤُونِ النَّاسِ عِلامَاتٍ، لَو تَأَمَّلُوهَا لَعَرَفُوا كُلَّ امرِئٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَسُبُّ الآخَرِينَ وَيَشتَغِلُ بِبَيَانِ عُيُوبِهِم، وَتُشعِلُ قَلبَهُ الغَيرَةُ مِنهُم فَيُحَاوِلُ التَّقلِيلَ مِن شَأنِهِم كُلَّمَا سَنَحَت لَهُ فُرصَةٌ، أَو ذَلِكُمُ الَّذِي يُكثِرُ الشَّكوَى مِن عَدَمِ نَيلِهِ لِمَنصِبٍ مَا، فَتَرَاهُ يُكثِرُ السُّؤَالَ عَنِ الأُسُسِ وَالمَعَايِيرِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِن تَقَلُّدِ بَعضِ المَنَاصِبِ، أَو ذَلِكُمُ البَاحِثُ عَن وَاسِطَةٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلى مَنصِبٍ أَو كُرسِيٍّ، أَو ذَلِكُمُ الكَسُولُ الفَاشِلُ في عَمَلِهِ الصَّغِيرِ وَوَظِيفَتِهِ المَحدُودَةِ، غَيرُ المُشَارِكِ بِجَدٍّ عِندَمَا يَكُونُ مَرؤُوسًا، وَالمُتَهَرِّبُ مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتي لا بُرُوزَ لَهُ فِيهَا، وَمِثلُهُمُ المُنفَرِدُ بِرَأيِهِ المُصِرُّ عَلَيهِ، الَّذِي لا يَتَنَازَلُ عَنهُ وَإِن ظَهَرَت لَهُ أَدِلَّةُ بُطلانِهِ.
إِنَّ أُولَئِكَ وَأَشبَاهَهُم لا يَستَحِقُّونَ أَن يُوَلَّوا إِدَارَةَ بَيتٍ صَغِيرٍ وَأُسرَةٍ قَلِيلَةِ العَدَدِ، فَضلاً عَن أَن يَتَشَوَّفُوا لِلدُّخُولِ فِيمَا يُهِمُّ أَمرَ مُجتَمَعَاتٍ، أَو يَتَطَلَّعُوا إِلى أَن يَضَعَ النَّاسُ ثِقَتَهُم فِيهِم بِسُهُولَةٍ. أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مَن يَظُنُّ أَنَّ المَنَاصِبَ تَشرِيفٌ، وَلْيَعلَمْ أَنَّهَا تَكلِيفٌ ثَقِيلٌ، وَمَسؤُولِيَّةٌ ضَخمَةٌ، وَعِبءٌ بَاهِظٌ فَادِحٌ، لَيسَت لِبسًا لأَفخَرِ الثِّيَابِ، وَلا تَقَدُّمًا لِلصُّفُوفِ لِلتَّصوِيرِ وَإِبرَازِ الذَّاتِ، وَلَكِنَّهَا تَضحِيَةٌ بِوَقتٍ وَبَذلُ مَالٍ، وَإِيثَارٌ بِالنَّفسِ وَالرَّاحَةِ والمَصلَحَةِ الشَّخصِيَّةِ، وَتَنَازُلٌ عَن كُلِّ ذَلِكَ لِمَصلَحَةِ الآخَرِينَ وَنَفعِهِم.
وَكُلُّ تَقصِيرٍ فِيمَا تَوَلاَّه ُالمَرءُ وَهُوَ يَقدِرُ عَلَى إِتمَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَضيِيعٌ لِلوَاجِبِ وَخِيَانَةٌ لِلأَمَانَةِ، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً فَلَم يُحِطْهَا بِنُصحِهِ إِلاَّ لم يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ), وَقَالَ: "مَا مِن أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلاَّ يُؤتَى بِهِ يَومَ القِيَامَةِ مَغلُولاً، لا يَفُكُّهُ إِلاَّ العَدلُ أَو يُوبِقُهُ الجَورُ" (رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 72- 73].
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا) [الطلاق: 2].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، حِينَمَا يُذَمُّ التَّطَلُّعُ إِلى الإِمَارَةِ وَحُبُّ الزَّعَامَةِ وَالرِّئَاسَةِ، وَيُنهَى عَنِ التَّشَوُّفِ لِلقِيَادَةِ، فَلَيسَ ذَلِكَ قَتلاً لِلطُّمُوحِ إِلى الأَمجَادِ، أَو تَفضِيلاً لِدُنُوِّ الهِمَّةِ وَالقُعُودِ عَنِ المَعَالي، أَو تَشجِيعًا لِلخُمُولِ وَالعَجزِ وَالكَسَلِ، أَو دَعوَةً لِلتَّهَرُّبِ مِن حَملِ المَسؤُولِيَّةِ وَتَركِ العَمَلِ وَالتَّخَاذُلِ عَنِ الوَاجِبَاتِ، أَو نَهيًا عَن قِيَامِ ذَوِي الكِفَايَةِ بِفُرُوضِ الكِفَايَاتِ، أَو تَركِ اغتِنَامِ الفُرَصِ فِيمَا يُقَرِّبُ إِلى اللهِ أَو يُحِقِّقُ لِلنَّاسِ مَصَالِحَهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.
وَلَكِنَّهَا دَعوَةٌ إِلى التَّفرِيقِ بَينَ الاهتِمَامِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَالحِرصِ عَلَى نَفعِهِم، وَبَينَ تَعظِيمِ النَّفسِ وَإِعطَائِهَا أَكبَرَ مِن حَجمِهَا، فَالمُؤمِنُ نَاصِحٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّتِهِم، لا يَطلُبُ الرِّئَاسَةَ وَلا يَسعَى إِلى الزَّعَامَةِ لِمُجَرَّدِ نَيلِ حُظُوظِ دُنيَاهُ وَبُلُوغِ مُشتَهَاهُ، وَهُوَ يَكرَهُ التَّصَدُّرَ وَالإِمَارَةَ وَالشُّهرَةَ بِطَبعِهِ؛ لإِخلاصِهِ وَبُعدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ، وَلَكِنَّهُ في الوَقتِ نَفسِهِ صَاحِبُ مُبَادَرَةٍ إِلى كُلِّ مَا يَنفَعُ، وَفَارِسُ مَيدَانٍ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيهِ التَّصَدُّرُ.
وَقَد حَكَى اللهُ مِن دُعَاءِ المُؤمِنِينَ قَولَهُم: (وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إمَامًا) [الفرقان: 72]، وَقَالَ - سُبحَانَهُ – عَن يُوسُفَ - عَلَيهِ السَّلامُ -: (قَالَ اجعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]، وَهَكَذَا فَكُلُّ مَن رَغِبَ في النَّفعِ العَامِّ لأُمَّتِهِ أَو مُجتَمَعِهِ، وَعَرَفَ مِن نَفسِهِ الكِفَايَةَ وَالأَمَانَةَ وَالحِفظَ، وَكَانَت لَدَيهِ قُدُرَاتٌ وَإِمكَانَاتٌ في العِلمِ وَالعَمَلِ تَفُوقُ مَا عِندَ غَيرِهِ، وَكَانَ قَصدُهُ الإِصلاحُ وَهَمُّهُ الارتِقَاءُ، وَلَم يَكُنْ هَمُّهُ إِروَاءَ غَلِيلِهِ وَإِرضَاءَ شَهوَتِهِ في الزَّعَامَةِ ؛ فَلا بُدَّ لَهُ حِينَئِذٍ مِنَ الإِقدَامِ وَسُؤَالِ اللهِ الإِعَانَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالى - في تَوزِيعِ القُدُرَاتِ، لِيَحصُلَ التَّكَامُلُ وَيَتَحَقَّقَ التَّوَازُنُ، قَالَ – سُبحَانَهُ -: (وَهُوَ الَذِي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبلُوَكُم في مَا آتَاكُم إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165].
وَأَمَّا مَن كَانَ ضَعِيفًا في هَذِهِ الجَوَانِبِ، فَلَهُ أُسوَةٌ بِصَاحِبِ رَسُولِ اللهِ، الَّذِي مَا أَظَلَّتِ الخَضرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الغَبرَاءُ أَصدَقَ لَهجَةُ مِنهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ لَهُ نَبيُّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثنَينِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي