عباد الله: إن تذكُّرَ الموتِ، يُزَهِّدُ في الدنيا، ويُحفزُ على العملِ الصالح، وعلى التوبة من الذنوب، والتخلُّصِ من مظالم العباد، وإعطاءِ الناس حقوقَهم، ولَمَّا كان الموت نهايةَ حياةِ الإنسان في هذه الدنيا، وقد شَرَعَ الله -سبحانه- للأمواتِ أحكاماً تجبُ معرفتُها وتنفيذها في أموات المسلمين، تُعْرَفُ بأحكامِ الجنائز، كانَ...
الحمد لله ربِّ العالمين، حكمَ بالموت على بني الإِنسان: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
وبعدَ الموت يودَعُون في القبور إلى يوم البعث والنشور، وأحمَدُه على كل حال.
وأشهَدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبيرُ المتعال، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهُدى ودينِ الحق، وبقمع الكفرِ والضلال، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيرِ صَحْبٍ وآله، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيُّها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-، وتَذَكَّروا الموتَ، وقُربَ نزوله، فاستَعِدُّوا له بالأعمالِ الصالحةِ، والتوبةِ مِنَ الذنوب والسيئات، فإنَّ نسيانَ الموت يُقسي القلبَ، ويرغبُ في الدنيا، عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكرِ هادمِ اللذات" يعني الموت[رواه ابنُ ماجة والترمذي وحسَّنه].
وابن حبان في صحيحه، زاد: "فإنه ما ذَكَرَه أحدٌ في ضيقٍ إلا وَسَّعَه، ولا ذَكَرَهُ في سعَةٍ إلا ضَيِّقها عليه".
وعن عبدِ الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أَخَذَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابرُ سبيل".
وكانَ ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تَنتظر المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك" [رواه البخاري].
وعن عبدِ الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجنةُ أقربُ إلى أحدكم من شِراكِ نعلِهِ، والنارُ مثلُ ذلك"[رواه البخاريُّ وغيره].
عباد الله: إن تذكُّرَ الموتِ، يُزَهِّدُ في الدنيا، ويُحفزُ على العملِ الصالح، وعلى التوبة من الذنوب، والتخلُّصِ من مظالم العباد، وإعطاءِ الناس حقوقَهم، ولَمَّا كان الموت نهايةَ حياةِ الإنسان في هذه الدنيا، وقد شَرَعَ الله -سبحانه- للأمواتِ أحكاماً تجبُ معرفتُها وتنفيذها في أموات المسلمين، تُعْرَفُ بأحكامِ الجنائز، كانَ واجباً علينا معرفَتُها.
قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: "كان هَدْيُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنائز أكملَ الهدي، مُخالفاً لهَدْيِ سائر الأمم، مشتملاً على الإِحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفَعُه في قبرهِ ويوم معاده، وعلى الإِحسان إلى أهلهِ وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيها يعاملُ به الميت.
وكانَ من هَدْيهِ في الجنائز: إقامةُ العبودية للربِّ -تبارك وتعالى- على أكملِ الأحوال، والإِحسانُ إلى الميت وتجهيزُه إلى الله على أحسنِ أحواله وأفضلِها.
ووقوفُه صلى الله عليه وسلم ووقوف أصحابهِ صفوفاً يحمَدُون الله، ويستغفرون للميت، ويسألون له المغفرةَ والرحمةَ، والتجاوز عنه، ثم المشيُ بينَ يديه إلى أن يُودِعُوه في حُفرته، ثم يقومُ هو وأصحابه بينَ يديه على قبرهِ، سائلين له التثبيتَ، أحوجَ ما كان إليه، ثم يتعاهدُهُ بالزيارة له في قبرِه، والسلام عليه، والدعاء له، كما يتعاهَدُ الحيُّ صاحبَهُ في دارِ الدنيا.
فأولُ ذلك: تعاهدُه في مرضِه، وتذكيرُهُ الآخرةَ، وأمرُه بالوصيةِ، والتوبةِ، وأمرُ مَنْ حَضَرَ بتلقينِه: شهادةَ أن لا إلهَ إلا الله، لتكونَ آخرَ كلامه.
فقد أجملَ الإِمامُ ابنُ القيم -رحمه الله- في هذه الكلمة الطيبة أحكامَ الجنائز، ونحن نفصِّلُها حسبَ الإِمكان.
فأولُ هذه الأحكام: أنه يُسْتَحَبُّ تلقينُ المحتضر: "لا إلهَ إلا الله"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا موتاكم "لا إلهَ إلا الله"[رواه مسلم].
وذلك لتكونَ هذه الكلمة الطيبة آخرَ كلامه، ويُخْتَمَ له بها، فقد جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد وغيره مرفوعاً: "مَنْ كان آخرَ كلامه: "لا إلهَ إلا الله"، دَخَلَ الجنة".
ولأنَّ الشيطانَ يعرضُ للإِنسانِ في حالة احتضارِهِ، ليُفْسِدَ عقيدتَه، فإذا لُقِّنَ هذه الكلمةَ العظيمة، ونَطَقَ بها، فإنَّ ذلك يطرُدُ الشيطان، ويذَكِّرُه بعقيدةِ التوحيد.
ومن هذه الأحكام: أنه إذا ماتَ يُسرعُ في تجهيزِهِ: من تغسيله وتكفينه، والصلاة عليه، ونقله إلى قبره؛ لقولِ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي لجيفةِ مسلمٍ أن تُحْبَسَ بينَ ظهراني أهلِه"[رواه أبو داود].
قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: و"كانَ من هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم الإِسراعُ بتجهيزِ الميت إلى الله، وتطهيره، وتنظيفه، وتطييبه، وتكفينه في الثياب البِيض".
قال: "وكانَ يأمُرُ بغَسْلِ الميت ثلاثاً أو خمساً أو أكثرَ بحسب ما يراهُ الغاسلُ، ويأمرُ بالكافورِ في الغَسْلةِ الأخيرة، وكان يأمرُ مَنْ وَلِيَ الميتَ أن يُحْسِنَ كفنَه، ويكفنَه بالبياض، وينهى عن المغالاتِ في الكفنِ.
والرجلُ يتولَّى تغسيلَه الرجالُ، والمرأةُ يتولَّى تغسيلَها النساءُ.
ويجوزُ للرجل أن يغسلَ زوجتهَ.
وللمرأةِ أن تغسلَ زوجَها.
ومن تعذَّرَ غسلُه لعدمِ الماء، أو لكونِ جسمه محترقاً، أو متقطعاً، لا يتحملُ الماءَ، فإنه يُتَيَّمُ بالترابِ، وإن تعذَّرَ غَسْلُ بعضِه غُسِلَ ما أمكنَ غسلُه منه، ويُمِّمَ عن الباقي.
والسَّقْطُ إذا كان له أربعةُ أشهُرٍ غُسِلَ، وصُلِّيَ عليه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: "والسقطُ يُصَلَّى عليه، ويُدعى لوالديه، بالمغفرةِ والرحمة"[رواه أحمد وأبو داود وغيرهما].
فإذا غُسِلَ الميتُ وكُفِّنَ، فإنه يصلَّى عليه، والصلاةُ عليه جماعةً أفضلُ لفِعله صلى الله عليه وسلم، وفعلِ أصحابه.
قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: "ومقصودُ الصلاةِ على الجنازة هو الدعاء للميت".
وقالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- على قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ) [التوبة:84].
لمَّا نهى الله نبيه عن الصلاة على المنافقين كان دليلاً على أن المؤمنَ يُصَلَّي عليه قبلَ الدفن، ويقامُ على قبرِهِ بعدَه.
ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الصلاةَ على المسلمين من أكبرِ القُربات، وأفضلِ الطاعات، ورتَّبَ الشارعُ عليها الجزاءَ الجزيل، كما في الصحاح، وغيرِها.
ودلَّت الآيةُ على أنَّ الصلاةَ عليه كانت عادةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين، وأمراً متقرراً عند المسلمين.
وكُلَّما كَثُرَ المصلُّون كان أفضلَ، لِما رَوَىَ مسلم في صحيحه: "ما مِنْ ميتٍ يُصَلِّى عليه أمةٌ من المسلمين يبلُغُونَ مئةً، كلُّهم يشفَعُون له، إلا شُفِّعُوا فيه".
ومَنْ فاتته الصلاةُ على الميت قبلَ دفنه، صَلَّى على قبره، لِما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابنِ عباس: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على قبرٍ، وذلك أنَّ امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجدَ، ففقَدَها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأَلَ عنها، فقالوا: ماتت، فقال: أَفَلا كُنتم آذنْتُموني؟" قال: فكأنَّهم صَغَّرُوا أمرها، فقال: "دُلُّوني على قبرِها" فدلُّوه، فصلَّى عليها.
ثم بعدَ الصلاةِ على الميتِ يبادرُ بحملِهِ إلى قبره.
ويُستَحَبُّ للمسلمِ حضورُ الصلاة على أخيه المسلم، وتشييعُ جنازته إلى قبره، بسكينة وأدبٍ، وعدمِ رفع صوت، لا بقراءة ولا ذكر، ولا غير ذلك، فعن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ الجنازةَ حتى يُصَلِّى عليها فله قِيراطٌ، ومَنْ شَهِدَها حتى تُدْفَنَ فله قيراطانِ" قيل: وما القيراطانِ؟ قال: "مثل الجبلينِ العظيمين"[متفق عليه].
ويُسَنُّ توسيعُ القبر وتعميقه، ويوضَعُ الميتُ فيه موجهاً إلى القبلة على جنبهِ الأيمن، ويُسَدُّ اللَّحْدُ عليه سدّاً مُحْكَماً، ثم يُهالُ عليه الترابُ.
ويُرْفَعُ القبر عن الأرضِ قدرَ شِبْرٍ، ويكونُ مسنَّماً، أي: محدّباً، وذلك ليُرى فيُعْرَفَ أنه قبر فلا يُوطأَ، ولا بأسَ أن يُجعلَ علامةٌ عليه، بأن يوضَعَ عليه حجرٌ ونحوه، ليعرِفَهُ مَنْ يريدُ زيارته للسلام عليه، والدعاء له.
ولا تجوزُ الكتابةُ على القبر، لا كتابة اسم الميت، ولا غيرها.
ولا يجوزُ تجصيصُه، ولا البناءُ عليه.
ولا تجوز إضاءةُ المقابر بالأنوار الكهربائية، ولا غيرها، لحديثِ جابر قال: "نَهَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ القبرُ، وأن يُعْقَدَ عليه، وأن يُبْنَى عليه" [رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي وصحَّحه].
ولفظُه: "نَهَى أن تُجَصَّصَ القبورُ، وأن يُكْتَبَ عليها، وأن يُبْنَى عليها، وأنْ توطأَ".
قال الإِمامُ ابن القيم -رحمه الله-: "ولم يكن من هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم تعليةُ القبور، ولا بناؤُها بآجُرٍّ، ولا بحجرٍ ولبن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا القِبابِ عليها، فكلُّ هذا بدعةٌ مكروهة مخالفةٌ لهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم، وقد بَعَثَ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى اليمن أن لا يَدَع تمثالاً إلاَّ طَمَسَه، ولا قبراً مُشْرِفاً إلا سَوَّاه".
فسنتُه تسويةُ هذه القبورِ المشرفة كلها، ونهى أن يُجَصَّصَ القبرُ، وأن يُبنَى عليه، وأن يُكتبَ عليه، وكانت قبورُ أصحابِهِ لا مشرفةً ولا لاطئةً.
وهكذا كانَ قبرُهُ الكريم، وقبرا صاحبيه.
فقبرُهُ صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوحٌ ببطحاء العرضةِ الحمراء، لا مبنيٌّ ولا مُطَيَّنٌ.
وهكذا كانَ قبرا صاحبيه.
وكانَ يُعَلِّمُ قبرَ مَنْ يريدُ تعرُّفَ قبرهِ بصخرةٍ.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذِ القبورِ مساجدَ، وإيقادِ السُّرُجِ عليها، واشتدَّ نهيُه في ذلك، حتى لَعَنَ فاعِلَه، ونهى عن الصلاةِ إلى القبور، ونَهَى أُمَّتَه أن يتخذوا قبرهَ عيداً، ولَعَنَ زوَّاراتِ القبور.
وكان هديُه: أَنْ لا تُهانَ القبورُ وتوطأ، وألا يُجْلَسَ عليها، ويتكَّأَ عليها، ولا تُعَظَّمَ بحيثُ تُتَّخَذُ مساجدَ، فيُصَلَّى عندها وإليها، أو تتخذُ أعياداً وأوثاناً.
وكان إذا زارَ قبورَ أصحابه يزورُها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفارِ لهم.
وهذه هي الزيارةُ التي سنَّها لأمته، وشَرَعَ لَهُم وأمرَهُم أن يقولوا إذا زاروها: "السلامُ عليكم أهلَ الديارِ من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، نسألُ الله لنا ولكم العافية".
وكانَ هديُهُ: أن يقولَ ويفعَلَ عند زيارتها من جنسِ ما يقولُه عند الصلاة على الميت من الدعاء، والترحُّمِ والاستغفار.
فأبى المشركون إلا دعاء الميت، والإِشراك به، والإِقسام على الله به، وسؤال الحوائج، والاستعانة به، والتوجه إليه.
بعكس هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم، فإنه هديُ توحيدٍ وإحسانٍ إلى الميت، وهَدْيُ هؤلاءِ شِرْكٌ وإساءةٌ إلى نفوسهم، وإلى الميتِ.
وهم ثلاثة أقسام:
إما أن يدعو الميتَ، أو يدعو به أو عندَه.
ويرَوْنَ الدعاءَ عنده أوجبَ وأولى من الدعاء في المساجد.
أيها المسلمون: ومن البدعِ المُحْدَثَةِ: القراءة عند الجنائز، أو عند القبور، قراءةُ الفاتحة أو قراءة شيءٍ من القرآن.
يزعُمون أنَّ ذلك ينفَعُ الميتَ، وهذا بدعةٌ؛ لأنَّه لم يكن من سنةِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، ومن عوائدِ الكُفَّار، ومَنْ يُقَلِّدُهم من جهلةِ المسلمين، إلقاء أكاليل الزُّهورِ على القبور.
ومن عوائدِ الكُفَّار ومَنْ يُقَلِّدُهم من جهلة المسلمين اليومَ: إعلانَ الإِحدادِ على الأمواتِ، ولُبْسُ السواد، وتنكيسُ الأعلام، وتعطيلُ الأعمال الرسمية من أجلِ ذلك، والوقوفُ والصمتُ بضعَ دقائق لروح الميت، وما أشبهَ ذلك من عوائدِ الجاهلية الباطلة.
فيجبُ على المسلمين الحذرُ من تقليدهم، والتشبه بهم.
أيها المسلمون: إن الذي ينفَعُ الميتَ بعد موته، هو ما شَرَعَهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- من المبادرةِ بقضاء ديونه، فإن المسلم مرتهَنٌ بدَيْنِهِ حتى يُقْضَى عنه، وتنفيذِ وصاياه الشرعية، والدعاءِ له، والتصدُّقِ عنه، والحجِّ والعمرة عنه، قالَ صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ ابنُ آدم انقطَعَ عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، وعلمٍ يُنتفع به، وولدٍ صالحٍ يدعو له".
ومما يجبُ أن يُعْلَمَ: أنه يحرُمُ على النساء اتباعُ الجنائزِ، وزيارةُ القبور، لحديثِ أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "نُهينا عن اتباعِ الجنائز".
والنهيُ يقتضي التحريمَ.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ زائراتِ القبور"[رواه الخمسة، وصحَّحه الترمذي].
فالمرأةُ لا تزورُ القبور، لا قبرَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا قبرَ غيره، وإنما زيارةُ القبور خاصةٌ بالرجال.
فاتقوا الله -عبادَ الله-، ولا تَنْسَوُا الموتَ، فتغفُلوا عن العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) [المنافقون:9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2].
وأشهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ الخلقَ ورزقهم، ولم يتركْهُم هَمَلاً، بل أنزلَ عليهم الكتبَ، وأرسلَ إليهم رسلاً، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسَّكُوا بسنَّتِهِ، ولم يرتَضُوا بها بدلاً، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيًّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلَموا أنَّ الله شَرَعَ الصبرَ عند المصائب، ووعدَ الصابرين بجزيلِ الثواب، ونَهَى عن التسخُّطِ والجَزَعِ، وتوعَّدَ على ذلك بأليمِ العقاب، فنهى سبحانه عن عادةِ الأمم التي لا تؤمنُ بالبعث والنشور؛ من لطمِ الخدود، وشَقِّ الجيوب، وحلقِ الرؤوس، ورفعِ الصوت بالندب، والنياحة، وتوابعِ ذلك.
أمَّا البكاءُ الذي لا صوتَ معه، وحُزْنُ القلب، فلا بأسَ بهما، وقد قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تدمَعُ العينُ، ويحزَنُ القلبُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي الربَّ"[رواه البخاري].
وتُستحبُّ تعزيةُ المصاب بالميتِ، وحثُّه على الصبرِ والاحتساب.
ولفظُ التعزية: أن يقولَ: أعظمَ الله أجركَ، وأحسنَ عزاءَك، وغَفَرَ لميتِك.
ولا ينبغي الجلوسُ للعزاءِ، والإِعلان عن مكانِ الجلوس للعَزاءِ.
قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: وكان من هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم: تعزيةُ أهل الميت، ولم يكن من هَدْيِهِ أن يجتمعَ للعَزاءِ، ويقرأَ له القرآنَ، لا عندَ قبره ولا غيره، وكلُّ هذا بدعةٌ حادثة مكروهة.
وكانَ من هَدْيهِ: السكونُ والرضا بقضاءِ الله، والحمدُ لله، والاسترجاعُ.
ويبرأُ مِمَّنْ خَرَقَ لأجل المصيبةِ ثيابَه، أو رَفَعَ صوتَه بالندب والنياحة، أو حَلَقَ لها شعره.
وكانَ من هَدْيِهِ: أَنَّ أهلَ الميت لا يُكَلَّفُونَ الطعام للناس، بل أمرَ أن يصنَعَ الناسُ لهم طعاماً يرسلونه إليهم، وهذا من أعظمِ مكارم الأخلاق، والشِّيَمِ، والحمل عن أهل الميت، فإنهم في شُغلٍ بمُصابِهم عن إطعامِ الناس.
وكان من هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم: تركُ نعي الميت، بل كان يَنْهَى عنه، ويقول هو عملُ الجاهلية.
وقد كَرِهَ حذيفةُ: أن يُعلِم به أهلُه الناسَ إذا مات، وقال: "أخافُ أن يكون من النعي".
فهذا الذي حَذَّرَ منه ابنُ القيم يفعَلُه كثيرٌ من الناس اليوم، يجتمعون للعزاء، ويُعلنون عن مكانه في الصحف.
وبعضُهم يهيِّئُونَ مكاناً لاجتماع الناس، ويصنعونَ الطعامَ، ويستأجرون المُقرئين.
وقد روى الإِمام أحمدُ عن جرير بن عبد الله قال: "كُنَّا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحةِ"[ورجالُ إسناده ثقات].
فلا ينبغي جلوسُ المُصابِ في مكان لأجلِ العزاء، بل يخرجُ لعملِه كعادته قبل المصيبة، ومَنْ لَقِيَه في طريقه، فإنه يُعزيه التعزيةَ المشروعة، أو في أي مكان.
ويذكر أنه في بعضِ الجهات يأتي الناسُ من بعيدٍ وقريب لأجل التعزية، ويأتُونَ معهم بأغنام وأكياس من الطعام، تُجْمَعُ عند المصاب، فيُذْبَحُ من الأغنام، ويطبخُ منها ومن الطعام، ويُقَدَّمُ للناس مدةً معينة من الأيام.
وهذا العملُ بدعةٌ ومنكَرٌ، لا يجوزُ فعلُه، وصرفٌ للأموال والأوقات بغير فائدةٍ.
والواجبُ: العمل بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا وفي غيره.
فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها... إلخ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي