أثر القرآن الكريم (2)

خالد بن محمد الشارخ
عناصر الخطبة
  1. أثر القرآن الكريم على قلوب المؤمنين .
  2. فضل القرآن الكريم .
  3. إعجاز القرآن الكريم .
  4. تأثيره على الخلائق .
  5. دعوةٌ للإقبال على القرآن الكريم .
  6. حالنا مع القرآن الكريم .

اقتباس

بالأمس القريب جاءني شاب غضّ, تسير في عروقه حيوية الشباب، فقال: يا أخي، إني أشكو قسوةً في قلبي، وظلمةً في نفسي، وهاجسًا لا يكاد يفارقني، وحديثاً في نفسي يأخذ عليّ صلاتي وعبادتي، وقد جئتك أطلب العلاج. فعجبت من أمةٍ ينزل عليها شفاء من مولاها، وخطاب إيمان من خالقها، ثم تطلب الشفاء من الناس!.

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة المؤمنون: بالأمس القريب جاءني شاب غضّ, تسير في عروقه حيوية الشباب، فقال: يا أخي، إني أشكو قسوةً في قلبي، وظلمةً في نفسي، وهاجسًا لا يكاد يفارقني، وحديثاً في نفسي يأخذ عليّ صلاتي وعبادتي، وقد جئتك أطلب العلاج. فعجبت من أمةٍ ينزل عليها شفاء من مولاها، وخطاب إيمان من خالقها، ثم تطلب الشفاء من الناس!.

مهما اخترع الأطباء وقال الحكماء فلن يجدوا شيئًا يشرح الصدور، وينور القلوب، ويذهب قسوتها، ويلين يابسها، ويحيي ميتها، ويوقظ نائمها, مثل كتاب الله, القرآن الكريم.

نعم أيها الإخوة، كتاب الله لما أعرضنا عنه, أصبحنا نحس بضيق في صدورنا, وبقسوة في قلوبنا, وظلمة في نفوسنا. فهل من عودة للقرآن؟ فما أشرفه من كتاب!.

قارَعَ العرب بفصاحته فأفحمهم، ونازل البلغاء ببيانه فأعجزهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا لذلك سبيلاً: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88].

ثم تحداهم -تنزلاً لهم- بأن يأتوا بعشر سور من مثله، فما وجدوا طريقًا: (قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَدْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [هود:13].

ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فما وجدوا دليلاً، ولا هُدُوا سبيلاً: (قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَدْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [يونس:28].

إنه كتاب الله, آيات منزلة، فالأرض بها سماء, هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نُشر له من الفضيلة علَمٌ, وانضوت إليه من الأرواح مواكب.

أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها، وكم صد المشركون عن سبيله صدًا! ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟ واعترضوه بالألسنة ردًا، ولعمري! من يرد على الله القدر؟ وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل! وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل! فما حالهم إلا ما قال الله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18].

نعم، هو القرآن, ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.

نعم، هو القرآن الكريم, المعجزة الخالدة لهذا الدين، وهو الكتاب الحكيم الذي أنزل الله على نبيه الكريم.

وإذا كان الأنبياء السابقون -عليهم السلام- قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم، فإن الذي أوتيه محمدٌ ظلّ -وسيظل- معجزةً يدركها اللاحقون بعد السابقين, ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون.

وتلك -والله!- معجزةٌ تتناسب مع طبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، يقول النبي، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".

أيها الإخوة المسلمون: لقد استطاع هذا القرآن أن يخرق قلوب الكفار في صدر الإسلام, وهم بعدُ على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والإيمان. يقول جبير بن مطعم -رضي الله عنه-: "قدمت على النبي المدينة وذلك في وفد أسارى بدر فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الآية: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاواتِ وَلأرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ) [الطور:35-37]. قال جبير: فكاد قلبي يطير" متفق عليه. وفي رواية: "كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي".

وها هو عتبة بن ربيعة ترسله قريش ليكلم النبي في شأن ما جاء به، فكلم النبيَّ كثيرًا وهو منصت له، فلما فرغ، قال له النبي : "أفَرَغْتَ يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "أنصِتْ"، فقرأ عليه مطلع سورة فُصِّلت: (حم * تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [فصلت:1-4], حتى بلغ قوله -تعالى-: (فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت:13], فأمسك عتبة على فم النبي، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله فلم يخرج، واحتبس عن قريش فترة.

وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم فقال بعضهم لبعض: نقسم! لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً -والله!- ما سمعت مثله قط، والله! ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة! يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فوالله! ليكوننّ لقوله الذي سمعتُ نبأ, والله! إن لقوله لحلاوة، وإن أعلاه لطلاوة، وإن أسفله لمورق، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه. قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه. فاصنعوا ما بدا لكم.

وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].

بل تأثر مَرَدة الجن الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع: (فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً) [الجن:1-2].

وللملائكة شأن مع القرآن الكريم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري، عن أسيد بن حضير -رضي الله عنه- قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت -أي اضطربت- الفرس، فسكت، فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه -يعني اجتر ولده لا تطأه الفرس- رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي فقال له: " اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير"، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة -أي السحابة- فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: "وتدري ما ذاك؟" قال: لا. قال: "تلك الملائكة، دنت لصوتك، ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم".

وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين -والشطن الحبل الطويل- فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي فذكر له ذلك فقال: "تلك السكينة تنزل للقرآن".

إخوة الإيمان: وكذلك لا يزال القرآن يهذب النفوس، ويؤثر فيها، ويغير مسارها وحياتها، فها هو يحيل قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء صالحين, فهذا الفضيل بن عياض العالم العابد -عليه رحمة الله- حُكي في قصة توبته، أن سبب توبته آية من كتاب الله، فقد كان الفضيل بن عياض شاطرًا يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدار إليها, إذ سمع رجلاً قائمًا من الليل يتهجد ويقرأ قوله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]، فلما سمعها قال: بلى يا رب، قد آن! بلى يا رب، قد آن! بلى يا رب، قد آن! فرجع وهو يقول: اللهم إني تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.

وصدق الله إذ يقول: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه.

أيها المسلمون: رسالة أهديها إلى من أراد إصلاح قلبه, رسالة أزفها إلى من أراد الثبات على دينه، وأراد أن يجد للعبادة حلاوتها، وللطاعة لذتها, أقول: عليك بالقرآن الكريم!.

نعم! عليك بالقرآن الكريم؛ ففيه صلاح القلوب, وراحة النفوس, ولذة العبادة, وحلاوة الطاعة؛ عليك بكتاب الله حفظًا، وتلاوة، وتدبرًا، وتعلمًا.

والله! إن القلوب لتقسو حتى تكون كالحجارة أو أشد قسوة، ولكنها ما تلبث أن تلين حينما تسمع آيات الله حتى يرق قاسيها وترعوي إلى باريها، وما أدري ماذا سيصبح حالنا لو لم ينزل هذا القرآن؟.

يا من يصيبك ضيق شديد، وتحس بكآبة مستمرة، يا من لا تجد لذة العبادة ولا أنس الطاعة، يا من يحس ظلمة في صدره وقسوة في قلبه، يا من يريد التوبة والرجوع إلى الله، يا من يريد الثبات على هذا الدين رغم اشتداد الفتن؛ عليك بتلاوة القرآن بقلب وَجِلٍ خائفٍ عند آيات الوعيد، وبقلب مستنير عند آيات النعيم.

وما أجمل أن تذرف تلك الدمعات! تغسل بها عينيك من النظر إلى الحرام، وتطهر قلبك من الإثم والعصيان؛ فإن الدمعة أول ما تقع على الخدود تقع على القلوب، فإذا هي تذهب قسوتها وتزيل درنها.

ولا تحقرن أخي المسلم تلك الدمعات وإن قلَّتْ؛ فربما رُحمْتَ بدمعة ذرفتها من خشية الله؛ "عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".

سؤال أوجهُهُ إليكم معشر المسلمين: قد سمعنا أثر القرآن على الخلائق كلهم، إنسهم وجنهم، فما هو أثر القرآن علينا جميعًا؟ وقبل هذا السؤال: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حين تتلى علينا آيات الله؟.

إن واقع المسلمين اليوم -إلا من رحم الله، وقليل ما هم- واقع مُرٌّ يرثى له مع الأسف الشديد! فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها، وقلة القارئين فيها، لا أقول من عامة الناس بل حتى من خاصتهم. والله المستعان!.

إخوة الإسلام, هل نسينا أن الحسنة بعشر أمثالها وأن (الم) فيها ثلاثة أحرف؟ فكيف سيكون تعداد الحروف في الصفحة الواحدة؟ بل كم ستكون لك من الحسنات؟ هل من ساع إلى الخير؟.

أليس من اللائق بك -أخي المسلم- أن تبكر في المجيء إلى الصلوات الخمس لتحظى بقراءة قسط من القرآن، وتحصل على رصيد كبير من الحسنات؟ فإن أبيتَ, بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت وغلبت عليك نفسك، أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن فيكون زادك في حياتك ومعينًا لك في قضاء حاجاتك؟.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي