إن لخسارتنا رمضانَ أسبابًا نحن الذين تعلَّقنا بها وأخذنا بِعُقَدِها، حين اتخذنا الشيطانَ وأعوانَه أولياءَ، وغفلنا عن أسبابِ الربحِ والرحمةِ، فَحقَّ على الخاسرِ منا قولهُ -تعالى-: (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً) [النساء:119].
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى اللهِ -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
عبادَ اللهِ: إن لِشهرِ رمضانَ طعمًا خاصًا، ومذاقًا حُلوًا، وشعورًا غريبًا، وإقبالا عجيبًا؛ به أحاديثُ لا تُملُّ، وكلامٌ لا يُسأمُ، إنه طعمُ العبادةِ، ومذاقُ الطاعةِ، وشُعُورُ المحبِّ، وإقبالُ الطائعِ؛ إنها الأحاديثُ التي تجلو القلوبَ وتُنظفُها، والكلامُ الذي يُزيلُ صَدَأَ النفوسِ ويُطهرُها.
في رمضانَ الصيامُ، وما أدراك ما الصيامُ؟! إنه حبسُ النفسِ على الطاعةِ وعنِ المعصيةِ، إنه تضييقُ مجاري الشيطانِ لِتَضعُفَ وسوستُهُ، وحرمانُ البدنِ من الملذاتِ والشهواتِ، ليصفوَ القلبُ، وتزكوَ النفسُ، ويُقبِلَ العبدُ على الطاعاتِ، ويَنشَطَ في العباداتِ.
وفي رمضانَ القيامُ في صلاةِ التراويحِ، وما أدراك ما صلاةُ التراويحِ؟! سُنَّةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- التي فعلها وأحبَّها، ولم يتركْها إلا رحمةً بِأُمتِهِ أن تُفرَضَ عليهم، فجاء الفاروقُ مِن بَعدِهِ وأحياها، أحيا اللهُ ذِكرَهُ وأعظم أجرَهُ، إنها اجتماعُ المسلمينَ لمناجاةِ رَبِّهِم، وتلاوةِ كِتابِهِ، ورفعِ حاجاتِهِم إليه.
وفي رمضانَ تفطيرُ الصائمين، وما أدراك ما هو؟! إنه طريقُ الأجورِ المضاعفةِ، وسبيلُ الحسناتِ المتكاثرةِ، إنه الشُّعُورُ بوحدةِ الجسدِ وأخوّةِ الدينِ.
في رمضانَ إطعامُ الطعامِ وإفشاءُ السلامِ، وصِلةُ الأرحامِ، والصلاةُ بالليلِ والناسُ نِيَامٌ؛ في رمضانَ الاعتكافُ والاجتهادُ في الطاعاتِ والمسابقةُ إلى الدرجاتِ؛ في رمضانَ عُمرةٌ تعدلُ حَجَّةً، وليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، في رمضانَ قراءةُ القرآنِ وذكرُ الرحمنِ، عباداتٌ متنوعةٌ وطاعاتٌ مختلفةٌ.
رمضانُ واحةٌ فيحاءُ يتفيأُ المسافرُ ظَلالَها ويقطفُ من ثمارِها، رمضانُ روضةٌ غناءُ تَنَوَّعَ زهرُها وفاح عبيرُها، رمضانُ موسمُ المؤمنين، رمضانُ جنةُ المحسنين، رمضانُ فُرصةُ المسابقين المسارعين.
رمضانُ فَتْحُ أبوابِ الجِنانِ، وإِغلاقُ أبوابِ النيرانِ، رمضانُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعِتقٌ للرقابِ، لكنَّ تلكَ الفضائلَ الكريمةَ والخصائصَ العظيمةَ، لا يشعرُ بها وينتبهُ لها إلا المحبون الراغبون، ولا يَجِدُها ويُحِسُّها إلا المشمرون السابقون، الذين يَقدُرُون هذا الشهرَ حَقَّ قَدرِهِ، ويعرفون ما فيه من الخيرِ العظيمِ.
إنهم أولئك الذين صاموا وقاموا إيمانا واحتسابًا، وتصدقوا وبذلوا طلبًا للأجرِ المضاعفِ، وفَطَّروا الصائمين رغبةً في الثوابِ الجزيلِ، ثم هم بعدَ ذلك ينثرون العبراتِ ويُطلقون الزفراتِ، ويرفعون إلى مولاهم الدعواتِ الصادقاتِ، لعلهم أن يكونوا من عتقاءِ اللهِ في هذا الشهرِ المباركِ من النارِ.
أيها المسلمون: ومَعَ كُلِّ هذا فإن هناك مَن يُفرِّطُ في رمضانَ ويخسرُ فضلَهُ، هناك من يُحرَمُ مِن أجرِهِ؛ لأنه لا يَعرفُ قَدرَهُ، ما عرف منه إلا الجوعَ والعَطَشَ، وحَبْسَ البطنِ عنِ الطعامِ والشرابِ والملذاتِ، ثم الامتلاءَ بَعدَ الغُرُوبِ مِن صُنُوفِ الأطعمةِ ولذائذِ الطبخاتِ، سهرٌ بالليلِ على غيرِ طاعةٍ، ونومٌ بالنهارِ عن ذكرِ اللهِ وعنِ الجماعةِ، حالُهُ حالُ من قال فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِهِ إلا الجُوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِهِ إلا السهرُ"، فَأَيُّ حرمانٍ بَعدَ هذا الحرمانِ؟! وأيُّ خسرانٍ أكبرُ من هذا الخسرانِ؟!.
عبادَ اللهِ: إن رمضانَ شهرٌ واحدٌ سريعُ المُرُورِ، وموسمٌ قصيرٌ خاطفُ العُبُورِ، انظروا -رحمكم اللهُ - واعتبروا، كيف صُمنا منه سبعةَ أيامٍ ونحن في الثامنِ، وكيف قُمنا ثمانيَ ليالٍ ونحن ننتظرُ التاسعةَ، وكأنما هي ثمان ساعاتٍ أو تسع، ذهب الظمأُ والجوعُ والتعبُ، وخلَّفنا الجهدَ وراءَنا والنَّصَبَ، وبقي الأجرُ، وعظُمتِ اللذةُ لمن أجاد وأحسن، وسُجِّلَ الذنبُ واشتدتِ الحسرةُ على من قصَّر وأساء.
وإذا كان الأمرُ كذلك -أيها المسلمون- فلماذا نخسرُ رمضانَ؟ لماذا يمرُّ علينا ولا نتزودُ منه بالتقوى؟ لماذا يدخلُ ويخرجُ وكأن شيئا لم يحدثْ؟ ما بالُنا تُرغَمُ منا الأُنُوفُ ونخسرُ ولا نَستفيدُ؟ ما بالُنا نُصِرُّ على الإضاعةِ والتقصيرِ والتفريطِ؟.
إن لخسارتنا رمضانَ أسبابًا نحن الذين تعلَّقنا بها وأخذنا بِعُقَدِها، حين اتخذنا الشيطانَ وأعوانَه أولياءَ، وغفلنا عن أسبابِ الربحِ والرحمةِ، فَحقَّ على الخاسرِ منا قولهُ -تعالى-: (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً) [النساء:119].
إن معشرَ الخاسرينَ -أيها الإخوةُ- إنما خسروا لأنهم غفلوا عن النيةِ الصالحةِ ولم يحتسبوا الأجرَ، صاموا وقاموا تقليدًا للناسِ ومجاراةً للآخرين، تركوا الطعامَ والشرابَ وبعضَ الملذاتِ، ولكنهم لم يبتعدوا عن المعاصي والشهواتِ، رمضانُ عليهم كالضيفِ الثقيلِ عِندَ مَن لا يُحبُّهُ، ساعتُهُ أطولُ الساعاتِ، ولحظتُهُ أبطأُ اللحظاتِ.
في الخاسرينَ مَن أَهمَلَ الصلواتِ الخَمسَ ولم يأبهْ بها، وفيهم من أخَّرَها عن وقتِها وتباطأَ في أدائِها، وفيهم من صلَّى بِكسلٍ وخمولٍ، وهذا من أعظمِ أسبابِ خسارةِ رمضانَ. فمن لم يحرصْ على الفرائضِ ولم يقمْ بالواجباتِ، فكيف يُرجى منه التَّزوُّدُ بالنوافلِ والمستحباتِ؟ بل كيف يُرجى منه استغلالُ رمضانَ والفوزُ فيه؟ وَأَنَّى له أن يُحِسَّ له بطعمٍ أو يجدَ له لذةً؟ إن مثلَ هذا حَرِيٌّ ألا يُقبلَ صيامُهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بِاللهِ!.
ومن أسبابِ الخسارةِ في رمضانَ السهرُ على غيرِ ما يُرضِي اللهَ، والسهرُ مكروهٌ في نفسِهِ إذا كان على مباحٍ، فكيف بمن سهر على حرامٍ، في قيلٍ وقالٍ وسهراتٍ ومحادثاتٍ، أو لعبِ ورقٍ وكرةٍ وتتبعِ قنواتٍ، أو مشاهدةِ أفلامٍ ومتابعةِ مسلسلاتٍ وتمثيلياتٍ؟!.
والسهرُ الطويلُ بهذه الصورةِ -أيها الصائمون- مَدعَاةٌ لِتَركِ سنةِ السُّحُورِ، التي رغَّبَ فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيَّنَ فضلَها ونهى عن تركِها، ومَن تَرَكَ تلك السنةَ المباركةَ، فما أحراه ألا يُصليَ الفجرَ مَعَ الجماعةَ!.
ثم السهرُ بَعدَ ذلك سببٌ لكثرةِ النومِ في النهارِ، والخمولِ والكسلِ عن ذكرِ اللهِ وعن الصلاةِ وقراءةِ القرآنِ، ولو نام العبدُ في الليلِ ساعاتٍ، لجلس بَعدَ صلاةِ الفجرِ يَذكُرُ الله ويقرأُ القرآنِ، أو لأصبح على الأقلِّ طوالَ نهارِهِ طَيِّبَ النفسِ نشيطَ الجسمِ.
وإن الفكرةَ السائدةَ لدى الناسِ في هذه الأزمنةِ عن رمضانَ، حيثُ يجعلون ليله سهرًا ونهاره نومًا، إنها فكرةٌ شيطانيةٌ إبليسيةٌ، أوحى بها عدوُّنا إلى أوليائِهِ وخاصةً من أهلِ الإعلامِ، فَشَغَلوا الناسَ بِسهراتٍ ومسرحياتٍ، ومسابقاتٍ ولقاءاتٍ، وأغانيّ ماجنةٍ وأصواتِ مزاميرٍ، فحرموهم لذةَ الشهرِ المباركِ، وأفسدوا عليهم روحانيتَه، وأفقدوهم بركةَ أوقاتِهِم وأعمارِهِم؛ ولذا، فإن لزامًا على مَن يَرجو الربحَ ويأملُ النجاةَ، أن يعودَ إلى رُشدِهِ، ويَرجعَ إلى سُنَّةِ رَبِّهِ، حيثُ جعل الليلَ لباسًا والنهارَ معاشًا، فإن ذلك مِن أعظمِ أسبابِ الفوزِ والفلاحِ.
ومن أسبابِ الخسارةِ كثرةُ الأكلِ والشربِ في ليالي رمضانَ، فإنه "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شَرًّا من بطنٍ"، ومَن أَكَلَ كثيرًا شرب كثيرًا، ونام كثيرًا، وخسر كثيرًا.
ومن أسبابِ الخسارةِ في هذا الشهرِ المباركِ، وفي غيرِهِ من فُرَصِ الخيرِ ومواسمِ العِبادةِ، التسويفُ، ذلكم المَرَضُ العضالُ والدَّاءُ الوبيلُ الذي قطَّع أعمارَنا وأذهب بركةَ أوقاتِنا، ولحقنا حتى في أفضلِ الأيامِ والشهورِ، نُسوِّفُ ونُؤخِرُ ونُؤَجِّلُ، ونحن نَعلمُ أننا قد لا نُدرِكُ رمضانَ مَرَّةً أُخرى، بل نُسوِّفُ ونُؤخرُ ونُؤجلُ، ونحن لا نعلمُ هل نُدرِكُ بقيةَ الشهرِ أم يُحالُ بَينَنا وبَينَ ذلك؟.
يُريدُ أَحَدُنا أن يَقرأَ بَعدَ صلاةِ الفجرِ جُزءًا من القرآنِ، فيترك ذلك لأنه مُرهَقٌ من السهرِ، ثم يُريدُ ذلك بَعدَ الظُّهرِ فيمنعُهُ الإرهاقُ بِسببِ العملِ، ثم بَعدَ العصرِ فيمنعُهُ التسوقُ وشراءُ حاجاتِ أهلِهِ، وفي الليلِ يَسهرُ مَعَ الأقاربِ أو يجلسُ مَعَ الرفاقِ، وهكذا يَنسلخُ رمضانُ وهو لم يختمْ ولو مرةً واحدةً!.
فيا معشرَ الصائمين، الجِدَّ الجِدَّ والتشميرَ! وإياكم والتسويفَ والتأجيلَ والتأخيرَ! (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة:63].
ومن أسبابِ الخسارةِ في رمضانَ منذُ سنواتٍ، المسلسلُ المسمى بـ "طاش ما طاش"، وهو مسلسلٌ لا يخفى على الغيورِ ما عُرض فيه ويُعرضُ إلى الوقتِ الحالي من استهزاءٍ بالشرائعِ المحكمةِ، وسخريةٍ بالسننِ النبويةِ المُتَّبَعَةِ، وتَنَقُّصٍ للمبادئِ الإسلاميةِ العظيمةِ، ومحاولاتٍ لتقليلِ قدرِ الأحكامِ الشرعيةِ في قلوبِ المسلمين.
وقد صدر من اللجنةِ الدائمةِ للإفتاءِ بيانٌ حولَ هذا المسلسلِ الخبيثِ مُنذُ سنواتٍ، بَيَّنَ فيه علماؤُنا حُرمةَ مشاهدتِهِ والجلوسِ لمتابعتِهِ، وَمَعَ كُلِّ ذلك ألقى أصحابُهُ هذه الفتوى وراءَهم ظِهريًا، ولم يزدادوا إلا خُبثًا وتبجُّحًا، واستهزاءً بشعائرِ اللهِ وتنقصًا.
وظل عوامُّ الناسِ والرعاعُ والمغفلون، يجلسون بَعدَ مغربِ كُلِّ يومٍ من أيامِ رمضانَ المباركةِ، لِيُبَدِّدُوا ما جمعوه من حسناتٍ في نهارِهِم وشَفَقُ الشمسِ لم يغِبْ، يتسمَّرون أَمامَ هذا المسلسلِ ويضحكون، ويطعنون في قلوبِهِم وهم لا يشعرون، وتُنتهكُ حُرُماتُ اللهِ وتُحقَّرُ شعائرُهُ وهم راضون!.
فاللهم إنا نبرأُ إليك مما يُعرَضُ في هذا المسلسلِ من غُثاءٍ، ونُشهدُك على بُغضِ أهلِهِ فيك، ونسألُك أن تهديَ مَن ضَلَّ مِن إخوانِنا عن سبيلِك يا حَيُّ يا قيومُ.
ومن أسبابِ الخسارةِ في رمضانَ، وفي غيرِهِ -أيها المسلمون- امتلاءُ القلوبِ بِالغلِّ والحِقدِ والحسدِ، وابتعادُ كثيرين عن الصفحِ والعفوِ والتسامحِ والتصافي، كم من الناسِ ممن لم يزالوا في هذا الشهرِ الكريمِ متشاحنين! وكم من الصائمين ممن ظلوا متقاطعين متهاجرين! يعملون ويعملون، ويرجون ويأملون، ولكنهم بِنصِّ حديثِ رسولِ اللهِ محرومون، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرَضُ أعمالُ الناسِ في كُلِّ جمعةٍ مرتين: يومَ الاثنينِ، ويومَ الخميسِ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ مؤمنٍ، إلا عَبدًا بَينَه وبينَ أخيه شحناءُ، فيُقالُ: اتركوا هذين حتى يفيئا".
أفلم يأنِ للقلوبِ المتنافرةِ أن تتقاربَ وتتآلفَ؟ ألم يأنِ للأيدي المتباعدةِ أن تَتَصافحَ وتتماسكَ؟ إلى متى والقلوبُ تُعاندُ الفطرةَ السويةَ؟ إلى متى والكبرُ يُوقِدُ ضِرامَهَا ويُشعِلُ فتيلَهَا؟ أما نجح رمضانُ في أن يعيدَ البسمةَ لوجوهٍ طال عُبُوسُها؟ أما نجح رمضان في أن يكسرَ نفوسًا طال تكبرُها وتجبرُها؟ أما آن للشفاهِ المطبقةِ أن تَنفرِجَ؟ أما آن للقلوبِ المغلقةِ أن تَنفتحَ؟.
إن قلوبًا لم تفلحِ المواعظُ في إعادتِها للحَقِّ، فإن لَفحَ جهنمَ هو القادرُ على أن يكسرَ مكابرتَهَا ويُرغِمَ أَنفَ باطلِها، إن نفوسًا لم تنكسرْ في رمضانَ وتخشعَ لذكرِ اللهِ، حريةٌ أن يخسرَ أصحابُها يومَ تَبيَضُّ وُجُوهٌ وتَسوَدُّ وُجُوهٌ، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16].
أيها المسلمون المتهاجرون: كيف ترجون الفلاحَ وقد سددتم طريقَه؟ كيف ترجون الأجرَ وقد أوصدتم أبوابَه؟ كيف تأملون القَبولَ وقد غَلَّظتُم حِجابَه؟ كيف تطلبون أن تَستَلِذَّ قلوبُكُم بِصيامٍ أو قِيامٍ، أو ذِكرٍ وقراءةِ قرآنٍ، وأنتم قد أفسدتموها بالتحاسدِ، وملأتموها بالتباغضِ؟.
إن قلوبًا مُلئِت بهذه الأمراضِ الفتاكةِ، حريةٌ ألا يبقى فيها مكانٌ لِلَّذَّةِ، وإن قومًا وَلَجَت بُيُوتَهُمُ اللعنةُ، حريُّونَ ألا يجدوا طَعمَ الراحةَ؟ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23].
أيها المتهاجرون المتقاطعون، لقد سُئِلَ رسولُ الرحمةِ والهدى -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الناسِ أفضلُ؟ قال: "كُلُّ مخمومِ القلبِ، صدوق اللسانِ"، قالوا : صدوقُ اللسانِ نَعرفُهُ، فما مخمومُ القلبِ؟ قال: "هو التقيُّ النقيُّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حَسَدَ".
ويحَكم يا أُمَّةَ الإسلامِ! عجبًا لكم يا أُمَّةَ القرآنِ! غريبٌ أمرُكُم يا مَن تَدَّعُون اتِّبَاعَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ثم تخالفون سُنَّتَهُ، وتتركون سبيلَه وطريقتَه، وتنبذون حُسنَ أخلاقِهِ وكريمَ سجاياه، تغضبون من كلمةٍ، وتتهاجرون من أجلِ ريالٍ، ويُقيمُكم تَصَرُّفٌ طائشٌ ثم لا تَقعُدُون، ويُفرِّقُكُم نمَّامٌ ثم لا تجتمعون!.
يا متهاجرون يا متقاطعون، يا متلاحون يا متباغضون، هل فيكم من أُخرج مِن دارِهِ؟ هل فيكم من أُخذ مالُهُ؟ هل فيكم من وُضِعَ سلا الجزورِ على ظهرِهِ؟ هل فيكم من شُجَّ وجهُهُ وكُسِرت رَبَاعيتُهُ؟ هل فيكم مَن جُيِّشَتِ الجيوشُ الجرَّارةُ لِحربِهِ؟ هل فيكم من قُتِلَ أقرباؤُهُ وأصحابُهُ؟ قولوا لي بِربِّكم: هل فيكم منِ اجتمعت ضِدَّه هذه الأمورُ مِن أخيه؟ قد يكونُ فيكم من ناله بعضُ هذه الأمورِ، أَمَّا كثيرٌ منكم -فواللهِ!- إن الأمرَ لا يَتعدَّى في حَقِّهِ كلمةً صغيرةً، أو زَلّةً يسيرةً، أقام الدنيا مِن أجلِها ولم يُقعدْها، وحَرَمَ نَفسَهُ بِسببِها صفاءَ القلبِ، ونعيمَ العيشِ، وراحةَ البالِ!.
ثم الأهمُّ مِن ذلك والأكبرُ، حِرمانُ التوفيقِ، وحلولُ اللعنةِ، وفسادُ الأعمالِ، وعدمُ رفعِها. ألا فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وأطيعوه، واستنُّوا بِسنةِ محمدٍ واتبعوه، فقد حصل له من عظائمِ الأخطاءِ مِن قومِهِ والتنقصِ والازدراءِ ما لا يخفى عليكم، أخرجوه من مكةَ وهي أحبُّ البلادِ إليه، ووضعوا الأشواكَ والأقذارَ في طريقِهِ، ورموا بسلا الجزورِ على ظهرِهِ وهو يصلي، وحاصروه في الشِّعبِ حتى أَكَلَ وَرَقَ الشجرِ، قتلوا عَمَّهُ وشَجُّوا وَجهَه وكَسَروا رَباعيَّتَهُ، آذوه وألَّبُوا ضِدَّه وحاربوه، واستهزؤوا به وتنقَّصوه، فلما ظَفِرَ بهم وانتصر عليهم، وفتح مكةَ وصارت له الغلبةُ، ما زاد - عليه الصلاةُ والسلامُ - على أن عفا عنهم وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاءُ"!.
ألا فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون- وراقبوه، واحذروا عدوَّكم الشيطانَ واقهروه، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6].
أما بعدُ فاتقوا اللهَ -تعالى- حقَّ التقوى، وتمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى.
أيها المؤمنون: انقضت سبعةُ أيامٍ من شهرِ رمضانَ المباركِ كلَمحَةِ بصرٍ، انقضت وبينَ صُفُوفِنا الصائمُ القائمُ العابدُ، الذاكرُ التالي الراكعُ الساجدُ، الداعي المستغفرُ المُتَبَتِّلُ، الباذلُ المُنفقُ الجَوَادُ المُتَصَدِّقُ، نقيُّ القلبِ والسريرةِ، طيبُ الذكرِ والسيرةِ، فهنيئا له أيامٌ قضاها بخيراتٍ كهذه، وهنيئا له الأجورُ من الرَّبِّ الغفورِ.
انقضت سبعةُ أيامٍ وبينَ صُفُوفِنا صائمٌ عن الطعامِ والشرابِ، مفطرٌ على أعراضِ المسلمين وعلى الحرماتِ، مُطْلِقٌ عينيه في الأسواقِ والشاشاتِ، مُرخٍ أُذُنَهُ لاستماعِ الغناءِ والمزاميرِ.
انقضت سبعةُ أيامٍ وبَينَ صُفُوفِنا مَن فاتته صلواتٌ وجماعاتٌ، قد آثر النومَ والراحةَ على كسبِ الأجرِ وابتغاءِ الثوابِ، انقضت سبعةُ أيامٍ وبَينَ صفوفِنا بخيلٌ شحيحٌ، لم تمتدَّ يَدُهُ لِتُسعفَ محتاجا أو تمسحَ دَمعةَ يتيمٍ، أو تُفَطِّرَ صائمًا، أو تُفَرِّجَ كربةَ مكروبٍ.
انقضت سبعةُ أيامٍ وفينا من هو أسودُ السريرةِ، سيئُ المَعشرِ، دخيلُ النيةِ، فاسدُ الطَّوِيَّةِ، فأحسن اللهُ عَزَاءَ هؤلاء وأمثالِهِم فيما مضى! وجبرهم في مصيبتِهِم فيما ذهب وانقضى، وجعلهم فيما يَستقبلون خيرًا مما وَدَّعوا!.
ألا فَلْنُرِ اللهَ من أنفسِنا خيرًا، واللهَ اللهَ أن يَتكرَّرَ شريطُ التهاونِ والتسويفِ! وحذارِ حذارِ أن تستمرَّ دواعي الكسلِ والتفريطِ! فَلُقيا الشهرِ مرةً أخرى غيرُ مؤكدةٍ، ورحيلُ الواحدِ منا مُنتظرٌ في أيةِ لحظةٍ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي