القرآن الكريم: فضله وفضل حملته

عبدالمحسن بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. فضائل القرآن الكريم .
  2. عقيدة أهل السنة في القرآن العظيم .
  3. بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم .
  4. وجوب تلاوة القرآن وتدبره والعمل بأحكامه .
  5. فضائل حَمَلة القرآن والعاملين به .
  6. جزاء المعرضين عن القرآن وأحكامه. .

اقتباس

الفرحُ بالقرآن العظيم وتعليمه من أرفع مقامات الإيمان، ولا غِنى لأحدٍ عن كتاب الله، .. وأسعدُ الناس أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين. كتابُ الله شاملٌ في أحكامه، عدلٌ في قضائِه، حكيمٌ في أمره ونهيه، عليه هيبةٌ وجلالٌ، وله قوةٌ وتأثيرٌ وجمال، مُعجِزٌ بأقل ألفاظه، هادٍ بأيسر دلائله، آيةٌ باهرةٌ ومُعجزةٌ ظاهرة. من عمل به أُجِر، ومن حكمَ به عدَل، ومن تمسَّك به عُصِم، ومن اتَّبعه رُحِم...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوَى.

أيها المسلمون:

ربُّنا - سبحانه - كاملٌ في ذاته وأسمائِه وصفاتِه، لا كُفؤ له ولا مثيل، وصفاتُه أكملُ الصفات وأحسنُها، ومن صفاته - سبحانه - الكلام، يتكلَّم متى شاء، إذا شاء، بما شاء، ولا مُنتهى لكلماته، (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109].

كلامُه أحسنُ الكلام، وفضلُ كلامه على كلام الخلق كفضلِ الخالقِ على المخلُوق، وآلاؤُه - سبحانه - على العباد لا تُحصَى.

ومن حكمة الله ورحمته بهم أن بعثَ فيهم رُسُلَه وأنزل عليهم كُتُبَه، فأنزل التوراة والإنجيلَ والزَّبُور وصُحف إبراهيم وموسى، وختمَها بالقرآن العظيم أعظمها فضلاً وأشرفها قدرًا.

حمِدَ نفسَه - سبحانه - على إنزاله للقرآن فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف: 1].

وعظَّم ذاتَه العليَّة بإنزاله فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1].

وأقسمَ به فقال: (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس: 1، 2].

وهو مما أقسم عليه، (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 75، 76].

مُصدِّقٌ لما بين يديه من الكُتب ومُهيمِنٌ عليها وناسِخٌ لها ومُؤتمنٌ على ما كان فيها.

بشَّرَت به الأنبياءُ قبل نزوله، (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء: 196].

قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "ذكرُ هذا القرآن والتنويهُ به موجودٌ في كتب الأولين المأثُورة عن أنبيائِهم".

ودعا إبراهيمُ وإسماعيلُ - عليهما السلام - أن يبعثَ الله نبيًّا لتلاوته وتعليمه، فقالا: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة: 129].

القرآنُ كلامُ ربِّ العالمين تكلَّم به حقيقةً بحرفٍ وصوتٍ مسمُوعَين، منه بدأ وإليه يعودُ في آخر الزمان، سمِعَه جبريلُ - عليه السلام - خيرُ الملائكة من الله، ونزل به على خير الرُّسُل في أشرف البِقاع، وفي خير شهرٍ، وفي خير الليالي ليلة القدر، لخير أمةٍ بأفضل لغةٍ وأجمعها.

كتابٌ لا يعدِلُه كتاب، (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51].

امتنَّ به - سبحانه - على هذه الأمة فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران: 164].

هو شرفٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44].

وهو روحُها لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، وإذا ابتعدَ المرءُ عنه كان حيًّا بلا حياة، قال - سبحانه -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52].

لو أنزلَه الله على جبلٍ لخشعَ وتصدَّع ذلاًّ لله وطاعة.

لا يصحُّ إيمانٌ عبدٍ حتى يُؤمنَ به جُملةً وتفصيلاً، قال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) [النساء: 136].

وهو في السماء في صُحف مُكرَّمة، مرفوعةٍ مُطهَّرةٍ، بأيدي سفَرَة - وهم الملائكةُ -، كرامٍ برَرة.

حفِظَه الله قبل إنزاله، فقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج: 21، 22].

وصانَه من الشياطين وقت نزوله، (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) [الشعراء: 210، 211]، وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].

قدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه، فقال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن: 1، 2].

علَّم الله عبادَه القرآن ويسَّره لهم تلاوةً وعملاً وحفظًا، يحفظُه العربيُّ والعجميُّ، والصغيرُ والكبيرُ، والذكرُ والأنثى، والغنيُّ والفقيرُ.

كثُرَت أسماؤُه وتعدَّدت أوصافُه، جعلَه الله هُدًى وذكرَى للعالمين، عامٌّ للبشرية كلِّها كعُموم رسالة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، فلا يختصُّ بأمةٍ دون أمة.

يُشبِهُ بعضُه بعضًا، وتُصدِّقُ آياتُه آياتِه،(كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) [الزمر: 23].

مُستقيمٌ لم يجعل الله له عِوجًا، لا اختلاف فيه ولا تناقُض، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].

هو أحسنُ الحديث وأفضلُه، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23].

قال النوويُّ - رحمه الله -: "فدلَّ على أنه أحسن من سائر الأحاديث المُنزَّلة من عند الله وغير المُنزَّلة".

وصفَه الله بالعظمة فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87].

وكتبَ الله له العلُوَّ في ذاته وقدره، فقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4].

بيِّنٌ في لفظه ومعناه، وبيانٌ للأمور على جليَّتها، قال - سبحانه -: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 138].

قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "بيَّن لنا في هذا القرآن كل علمٍ وكل شيءٍ".

حكيمٌ فيه ومنه الحكمة، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) [يونس: 1]، كريمٌ عند الله فيه من المكارِم أعلاها، وبه يُكرَم العبدُ ويُعظَّم عند الله وخلقِه، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 77].

فيه هدايةُ الخلق، ومع الهداية فيه الرحمة، (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 52].

عصمةٌ من الضلال لمن تمسَّك به، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله» (رواه مسلم).

مجيدٌ بالغٌ في الشرف أعلاه، قال تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1].

عزيزٌ لا يُجارِيه في عزِّه شيء، ومن دنا منه نالَه العزُّ، (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) [فصلت: 41].

عالٍ لا يُدانَى، كثيرُ الخير والمنافِع، ووجوه البركة فيه، قال - سبحانه -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) [الأنعام: 155].

من تلاه وعمل به ونشرَه في الآفاق عزَ ونالَه الأمنُ والرخاء. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "لما كانت خلافةُ عُثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارِق الأرض ومغارِبِها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن".

كتابُ الله نورٌ في الحياة لإبصار نور الدنيا والآخرة، قال - سبحانه -: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) [المائدة: 15].

وبه تحيا الأرواحُ، فهو الحياةُ لمن استجابَ له، (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].

ومع حياة الأرواح به فهو شفاءٌ لأمراض الأبدان؛ لدغَت عقربٌ رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقُرئَ عليه سورةُ الفاتحة فبرأَ . (رواه البخاري).

هو موعظةٌ وتثبيتٌ للقلب عند الفتن والمصائِب والمصاعِب، (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) [الفرقان: 32].

بالقرآن تجتمعُ كلمةُ الأمة وتزولُ خلافاتهم، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].

وبه فصلُ الخلاف والنجاح، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1].

تحدَّى به الأولين والآخرين إنسَهم وجنَّهم، فقال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88].

ما سمِعَه عاقلٌ إلا شهِدَ أنه حقٌّ، سمِعته الجنُّ فقال بعضُهم لبعضٍ: أنصِتوا، وعادوا إلى قومهم قائلين: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) [الجن: 1].

خيرُ الذكر وأفضلُه، تلاوتُه تزيدُ في الإيمان، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال: 2].

آياتُه أبكَت العظماء؛ قرأ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سورة النساء، فلما بلغَ قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، قال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «حسبُك». قال: "فالتفتُّ فإذا عيناه تذرِفان" (رواه البخاري).

وكان أبو بكرٍ - رضي الله عنه - إذا قرأَ القرآنَ لا يكادُ يُسمِعُ من خلفَه من البكاء.

وقرأَ جعفرُ الطيارُ - رضي الله عنه - على النجاشيِّ صدرًا من سورة مريم، فبكَى حتى أخضلَ لحيتَه، وبكَى أساقِفتُه حتى أخضَلوا مصاحفَهم.

وأمر الله بإجارة المُستجير من الكفار حتى يسمع القرآن، قال - سبحانه -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) [التوبة: 6].

حوى من العلوم أجمعها، ومن المعارِف أنفعها، وأهلُه العارِفون بمعانيه هم العلماء حقًّا، قال - سبحانه -: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49].

ومُعلِّم القرآن ومُتعلِّمه هم خيرُ الناس، قال - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»؛ (رواه البخاري).

فيه من الأنباء أصدقُها، ومن البراهين والدلائل أظهرُها، ومن القصص أحسنُها، ومن الحِكَم أبلغُها، ومن البلاغة والفصاحَة أجملُها.

قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "نفسُ نظم القرآن وأسلوبُه عجيبٌ بديع، ليس من جِنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحدٌ بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنسِ الشعر ولا الرَّجَز ولا الخطابة ولا الرسائل، ولا نظمُه نظمُ شيءٍ من كلام الناس عربهم وعجَمهم".

والإعجازُ في معناه أعظمُ وأكثرُ من الإعجاز في لفظه، كتابُ الله شاملٌ في أحكامه، عدلٌ في قضائِه، حكيمٌ في أمره ونهيه، عليه هيبةٌ وجلالٌ، وله قوةٌ وتأثيرٌ وجمال، مُعجِزٌ بأقل ألفاظه، هادٍ بأيسر دلائله، آيةٌ باهرةٌ ومُعجزةٌ ظاهرة.

من عمل به أُجِر، ومن حكمَ به عدَل، ومن تمسَّك به عُصِم، ومن اتَّبعه رُحِم، (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].

هو أنفعُ الذكر وأجمعُه، امتدحَ الله من تلاه وأثنَى على العاملين به، ووعدَهم بالوفاء والزيادة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر: 29، 30].

هو التجارةُ الرابحةُ المُضاعفَة، من قرأَ حرفًا منه فله به حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها.

وتعلُّمه خيرٌ من أموال الدنيا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجد فيعلَمُ» - أي: يتعلَّم - «أو يقرأُ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتَين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهن من الإبل» (رواه مسلم).

«والماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرة» (متفق عليه).

مجالسُ القرآن ومواطِنُ تعلُّمه مظانُّ تنزُّل السكينة والرحمة على مُعلِّميها والمُتعلِّمين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله تعالى يتلُون كتابَ الله، ويتدارسُونه بينهم إلا نزلَت عليهم السكينة، وغشيَتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكرَهم الله فيمن عنده» (رواه مسلم).

وباستماعه نَيلُ الرحمات، قال - سبحانه -: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].

التمسُّك به وتلاوتُه هو وصيةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة. سُئل عبدُ بن أبي أوفَى - رضي الله عنه - عن وصيَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أوصَى بكتابِ الله" (رواه البخاري).

قال ابن حجرٍ - رحمه الله -: "والمُرادُ بالوصيَّة بكتاب الله حفظُه حسًّا ومعنًى، فيُكرمُ ويُصانُ ويُتَّبعُ ما فيه، ويُداوَمُ على تلاوته وتعلُّمه وتعليمه".

حاملُ القرآن مُكرَمٌ في حياته وبعد مماته؛ ففي الحياة «يؤمُّ القومَ أقرأُهم لكتاب الله» (رواه مسلم).

وبعد الوفاة: كان - عليه الصلاة والسلام - يجمعُ بين الرجُلَين من شُهداء أُحُد، ويسألُ: «أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن»، فيُقدِّمُه في اللَّحد. (رواه البخاري).

وأهلُ القرآن خيرُ جليسٍ للمرء، "كان القُراء أصحاب مجالس عُمر ومُشاورته" (رواه البخاري).

وهو حُجَّةٌ لأهله يوم الدين وشافعٌ مُشفَّعٌ عند رب العالمين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه» (رواه مسلم).

وصاحبُ القرآن في أعلى درجات النعيم، «يُقالُ لصاحب القرآن: اقرأ وارتِق ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا، فإن منزلَك عند آخر آيةٍ تقرؤها» (رواه أبو داود).

وبعد .. أيها المسلمون:

فالفرحُ بالقرآن العظيم وتعليمه من أرفع مقامات الإيمان، ولا غِنى لأحدٍ عن كتاب الله، فنبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أكملُ الناس عقلاً، وكمالُ عقله لم يهدِه إلى الصواب، وإنما هدايتُه بالقرآن، قال - سبحانه -: )قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ: 50].

وأسعدُ الناس أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:

من اتبَع القرآنَ نالَه الهُدى، ومن أعرضَ عنه ضلَّ في الرَّدَى، قال - سبحانه -: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124].

ولا طريقَ للهداية بدونه، ومن حُجِب قلبُه عن الانتفاع به فلن يهتدِيَ بغيره، قال - سبحانه -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ[الجاثية: 6].

وكما أن القرآن يرفعُ صاحبَه فإنه يضعُ من عاداه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين» (رواه مسلم).

وكلامُ الله عزيزٌ عظيم، من أنكرَ حرفًا منه أو هزلَ به كفر، قال - سبحانه -: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65، 66]. ولم يسخَر أحدٌ بكتاب الله أو أهله أو تعليمه إلا أذلَّه الله.  فحقيقٌ بالمُسلم أن ينصُر كتابَ ربِّه ويعتزَّ به؛ لينالَ أعلى الدرجات.

ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجعَل ديارَهم ديارَ أمنٍ وأمانٍ يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم انصُر جُندَنا، اللهم ثبِّت أقدامهم، وسدِّد رميَهم، واجعلهم يا ربَّنا قوةً من قوتك يا ذا الجلال والإكرام.

)رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].

عباد الله:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي