هناك أعمال لو قصر العبد المؤمن عن فعلها، حبسه الله -سبحانه وتعالى- عن دخول الجنة، وأخره عنها، وهناك أعمال لو فعلها الإنسان تحبسه وتؤخره عن دخول جنة الرحمن -سبحانه-، فلنذكر بعضا من هذه الأعمال، حتى نجتنب الحبس والتأخر عن ولوج الجنة، مع السابقين، ولا نتأخر عن دخول الجنة مع...
إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة الكرام: هناك أعمال لو قصر العبد المؤمن عن فعلها، حبسه الله -سبحانه وتعالى- عن دخول الجنة، وأخره عنها، وهناك أعمال لو فعلها الإنسان تحبسه وتؤخره عن دخول جنة الرحمن -سبحانه-، فلنذكر بعضا من هذه الأعمال، حتى نجتنب الحبس والتأخر عن ولوج الجنة، مع السابقين، ولا نتأخر عن دخول الجنة مع الأوليين، قال الحافظ ابن القيم في كتاب [الروح، ص 90 - 117]: "هذه مسألة عظيمة، تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تُتلقَّى -عن الوحي- من السمع -أي من الكتاب أو السنة- فقط، واختلف في ذلك -وأذكر من اختلافهم المذهب الراجح- فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله -تعالى- في الجنة؛ شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسْهم عن الجنة كبيرة -من الكبائر- ولا دين، ويلقاهم ربهم سبحانه وتعالى بالعفو عنهم -والرحمة-، وهذا -هو- مذهب -جمع من الصحابة؛ مثل- أبي هريرة وعبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-" -وهذا أرجح الأقوال من حيث الدليل-.
فعَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ -القرآن الكريم- الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا -اخترناهم! فاختار من -يا عباد الله-؟ الله اختار هذه الأمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم- (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ).
فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ" -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ولا محاسبة، أولئك السابقون-.
"وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا، فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا.
وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحْبَسُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ" -أي قبل دخول الجنة، يتأخرون؛ والسبب: أنهم ظلموا أنفسهم، بارتكابهم المعاصي، والذنوب والخطايا، بمخالفتهم لأمر الله، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ظلموا أنفسهم مع الله، فلم يؤدوا حق الله، ظلموا أنفسهم مع الناس، فلم يعطوا الناس حقوقهم، وتكلَّم عن كلمة -ظلموا- وقل ما شئت، يدخل في هذه الصفة- ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلاَفَاهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ -في النهاية، وبعد الحبس الطويل، أو في عذابهم النار، تلافاهم الله برحمته، أسبغ عليهم هذه الرحمة لأنهم مؤمنون؛ لأنهم من هذه الأمة؛ لأنهم لم يكفروا، لم يرتدوا، لم ينافقوا، لكنهم مقصرون في أعمال أمروا بها، لم يعملوها، واجترؤوا على أعمالٍ نُهوا عنها فعملوها، فأُخِّروا وحُبِسوا، وتأخروا عن السابقين الأولين-
"فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)" [فاطر: 34 - 35] [أخرجه أحمد: 5/198، رقم: 21727]، قال الهيثمى في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 7/ 95: "رَوَاهُ أَحْمَدُ بِأَسَانِيدَ رِجَالُ أَحَدِهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَهِيَ هَذِهِ؛ إِنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ سَمِعَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِنَّهُ تَابِعِيٌّ"].
فالأغنياء يتأخرون عن دخول الجنة عن الفقراء، فكل غنيٍّ صاحبِ مال يتأخر عن دخول الجنة، عن الفقير الذي ليس عنده مال، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله تبارك وتعالى عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ-: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ" -وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على باب الجنة، ينظر بداخلها من دخلها، وينظر لأمته وهو مشفق عليهم، من بقي خارجها؟-
"فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ" -أي الفقراء، ليسوا أصحاب أموال، ولا أصحاب عقارات، ولا أصحاب أراضي- "وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ" -يَعْنِي: ذَوِي الْحَظِّ وَالْغِنَى- [شرح السنة، للبغوي: 14/ 266].
"مَحْبُوسُونَ" أي ممنوعون من دخول الجنة، لا نتكلم عن أصحاب النار، أهل الشرك والكفر، والبعد عن دين الله -عز وجل-، قال عليه الصلاة والسلام: "إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ" [مسلم: 2736].
فأكثر من يدخل النار، النساء من هذه الأمة، لماذا -يا عباد الله-؟!
لأن الغنيَّ، يحاسب على ما اكتسب من المال وعلى ما أنفق منه، كلُّ شيكل منه، وكل دينار، وكل فلس من الفلوس، من أين اكتسبت هذا؟ من الحلال، فيم أنفقته؟ في الحلال، هان الأمر، الدرهم الثاني، وهكذا، والفقير ليس عنده مثل هذه الأمور حتى يتأخر، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ" -أي عن الصراط المستقيم، لا تتحرك أقدام العبيد- "حَتَّى يُسْأَلَ" -هذا العبد، وكل عبد يُسأل: - "عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" [سنن الترمذي: 2417، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" وانظر: الصحيحة: 946].
فهذه الأشياء التي يسأل عنها الإنسان تؤخره إن احتاج إلى تأخير، فالذي كل ماله من حلال يتأخر على قدر مال قلة وكثرة: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ كل درهم، وعلى قدر السؤال يكون التأخير، والفقير لا يتأخر؛ لأن هذا السؤال مرفوع عنه، تبقى الأسئلة الأخرى، مشترك هو والغني وغيره.
كذلك من الذين يتأخرون عن دخول الجنة: أصحاب الديون، من تراكمت عليهم الديون، يحبسون على أبواب الجنة، ولو ماتوا أو قتلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهداء في سبيل الله في المعارك، معركة بدر أو أحد أو غزوة الخندق، أو غيره، الدينَ الدين -يا عباد الله-.
يا من أردت أن تحجَّ في هذا العام: هل سددت ديونك؟ من يدري ترجع أم لا ترجع؟ وهل تأمن أن أولادك من بعدك يبردون عليك جلدتك في قبرك بسدادهم الديون؟ ربما.. فأهل الخير كثير.
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه، ترضوا عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاحَ مَرَّتَيْنِ -وفي رواية أخرى: أنه صلى صلاة الغداة، صلى الصبح ونادى في المسلمين الذين صلوا معه في المسجد مرتين- فَقَالَ: "مَنْ هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟" -وفي رواية: من بني هذيل- فَلَمْ يُجِبْهُ -يتكلم- أَحَدٌ، -خشي ممن هم لهم هذه الصفة من بني هذيل، أو بني فلان، ما وقف أحد، ولا قال: أنا، خشية أن يكون نزل فيهم شيء من الله -سبحانه وتعالى-، إنهم يخافون، كررها الثانية، من ها هنا من بني فلان؟ كررها الثالثة- ثُمَّ قَامَ فِي الثَّالِثَةِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا! -وجد أن الأمر يحتاج إلى ردٍّ- قَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؟ إِنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِاسْمِكَ" -يعني لم أقل على صفة القبيلة التي أنت منها- "إِلَّا لَخَيْرٍ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ" -وقد توفي في ليلة سابقة، من قبيلة هذا الرجل- "مَحْبُوسٌ بِبَابِ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ" -فسببُ حبسه دين عليه، وأهله لا يعلمون، وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورحمة بهذا فقضى عنه دينه، حتى لا يطالبه أحد به- قَالَ: فَقَضَى عَنْهُ حَتَّى مَا يُطَالِبَهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ" [مسند أبي داود الطيالسي: 2/ 213، ح 933، انظر: الصحيحة: 3415].
كذلك رواية أخرى عن سعد بن الأطول -رضي الله عنه-: أن أخاه مات، -كم ترك أخوه؟- وترك ثلاثمائة درهم، -يعني لا تزيد عن جرامات من الذهب،- وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، -ما يوجد غيرها- قال: فقال لي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن أخاك محبوس بدينه فاذهب، فاقض عنه" -يقولون: الميت أولى من الحي، لأن الحيَّ يعمل ويجتهد، لكن الميت انقطع عمله، إلا من جهة أهله قال: فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت، قلت: يا رسول الله! قد قضيت عنه، -كلَّ ديونه، فمن كان له شيء أحضر شهوده وأخذ ما له- إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بينة، -ليس عندها شهود، أما من كانت عنده بينة أعطيته-، قال صلى الله عليه وسلم: "أعطها، فإنها محقة" وفي رواية: "فإنها صادقة" [أخرجه ابن ماجة: 2/ 82، وأحمد: 4/ 136، 5/ 7، والبيهقي: 10/ 142، وأحد إسناديه صحيح، والآخر مثل إسناد ابن ماجة، وصححه البوصيري في " الزوائد "! وسياق الحديث، والرواية الثانية للبيهقي، وهي والزيادات لأحمد في رواية].
هذا بالنسبة للديون وأموال الآخرين، فكيف بإزهاق الأرواح، وقتل الأنفس ظلما وعدوانا دون وجه حق، فالقتل؛ -من يقتل مؤمنا متعمدا- من أسباب الحبس على باب الجنة، إن عفي عنه، فعن جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ" -أن لا يكون حائل وحاجز يمنعه من دخول الجنة والحبس عنها- "بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ" -أي من إنسان أو مظلوم، كيف كانت حالة القتل؟- "كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً" -بعض الناس عنده القتل لا شيء، يصفُّ الناسَ صفًّا ويقتلهم، دون وجه شرعي، ودون إذن من الله -عز وجل-، وقد يسمونه: جهادا، وقد يسمونه: مقاومة، وأناس أبرياءُ لم يفعلوا شيئا، ربما الذي اعتدى تعتدي عليه؛ ما في مانع، لكن غير المعتدي -يا عباد الله- فهو كأنما يذبح دجاجة، ورأيناهم كيف يقتلونهم بدم بارد.
قتْل الناس ولو كانوا كفارا محظور شرعا، دون إذن شرعي؛ فالكافر لسنا مأمورين بقتله؛ بل بدعوته إلى الله -عز وجل-، فإن اعتدى علينا نعتدي عليه، وهذا يحتاج إلى تفصيل موجود في كتب العلماء الراسخين في العلم، وعند الذين يستنبطونه منهم.
نرجع إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ كأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً، كُلَّمَا يَعْرِضُ لِبَابٍ" -مهما جاء من أعمال صالحة بعد ذلك- "مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ" -من الأكل ومن المطاعم- "إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ" [المعجم الأوسط: 8/ 233، ح8495، وانظر: الصحيحة: 3379].
فأول ما ينتفخ عند الإنسان بعد الموت بطنه، فلا يضع أحدكم في بطنه إلا الحلال.
إن المظالم بين المسلمين بشتى أنواعها سببٌ في الحبس عن دخول الجنة، وحتى لو تجاوز هؤلاء الناس الصراط المستقيم، وتجاوزوا النار، وأقبلوا على الجنة، واستمعوا إلى حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا"-وتصير المسامحة، ويصير الصفح والعفو- "حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا" [البخاري: 2440].
عند خروجك من المسجد لا تَتِيْهُ عن بيتك، وفي الجنة لا تتيه عن مسكنك، والآن لا تعرفه ولا تعرف خارطته، ولا تعرف طريقا إلى بيتك في الجنة، لكن إذا فتحت أبواب الجنة تعرف منزلك في الجنة، أكثر من منزلتك في الدنيا.
وسيتأخر أناس من هذه الأمة عن دخول الجنة مع السابقين السابقين، ويحبسون في النار حتى يأذن لهم الله الرحمن الرحيم بدخولها، قال عليه الصلاة والسلام: "يُعَذَّبُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَيُطْرَحُونَ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا فِيهَا حُمَماً، ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرَّحْمَةُ، فَيُخْرَجُونَ وَيُطْرَحُونَ عَلى أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ المَاءَ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الغُثَاءُ فِي حَمَالَةِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ" [حم، ت، عن جابر، صحيح الجامع: 8103].
وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: -مبينا بعض الناس الذين حبستهم جهنم، دخلوا في جهنم من المؤمنين الموحدين، وأذن لهم بالخروج منها بتوحيدهم، قال: - "إِنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا" -لأعمال فعلوها، كل الجسم محترق، إلا شيء واحد، قال: "إِلَّا دَارَاتِ -دائرات- وُجُوهِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" [صحيح مسلم: 191].
ونتكلم عن آخر محبوس وممنوع عن دخول الجنة، ثم بعد ذلك يؤذن له بدخولها، فحبسه كان في النار، ليس حبسا في زنزانة، يؤتى إليه بالطعام بين الحين والحين، أو بعض السجون اليوم فيها التلفزيون، أو فيها مكيفات، وتأتيه زوجته كل أسبوع، أو كل شهر، ما هو هذا الحبس؟ حبس في النار، وآخر من يخرج منها، ما رواه عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله تعالى عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا" -يعني على رجليه وقدميه، كالطفل الصغير- "فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ"، قَالَ: "فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى" -يعني كل مكان يأتيه، يقول له خزنتها هذا لفلان، اذهب إلى مكان آخر في الجنة-: "فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا -أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا-"، قَالَ: "فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي -أَوْ أَتَضْحَكُ بِي- وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟"، قَالَ -عبد الله بن مسعود-: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ -من هذا الملح الذي لم يعمل خيرا، الذي تمنى دخول الجنة- قَالَ: "فَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً" [البخاري: 6571، ومسلم: 186].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فتوبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد:
عباد الله: هذه حال هؤلاء قد حبسوا ببعض الذنوب والخطايا فكيف بغيرهم؟ كيف بأهل الظلم والعقوق، وأهل الفساد والإفساد، وأهل الضلال والإضلال؟ كيف بأهل الشر والضر، كيف بأهل الزيغ والفسوق والعصيان؟
حالهم أشد من ذلك بكثير، هؤلاء حبسوا ثم أذن لهم بالدخول، فكيف بغيرهم -يا عباد الله-، والحبس قد يقصر وقته، وقد يطول.
قال ابن القيم -رحمه الله-: لما كان أكثرُ الناس أهلَ معاصي وذنوب؛ كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم -الذي لا يعذب- قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب.
ظواهرها بالتراب والحجارة مَبْنيات، وفي بواطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، ويحقُّ لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله! لقد وَعَظَتْ -القبور- فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت -كأن القبور تنادي على أهل الدنيا-: يا عُمارَ الدنيا! لقد عمَّرتم داراً موشِكةً بكم زوالا، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتاً -القصور والشقق والمباني- لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكنُ سواها، هذه دار الاستباق، ومستودعِ الأعمال، وبَذْرِ الزرع، وهذه محل للغير، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النار" انتهى.
وإذا كان هذا شأن القبور ووعظِها، فما الظن بما آلت إليه أحوال كثير من أهل وقتنا عند حضورهم الجنائز والقبور؟.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في جنتك.
اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلَبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفَسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ.
اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أسماعِنا وَأبصَرِنا، وَشَرِّ ألسنتنا وَقلوبنا.
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلوبنا عَلَى طَاعَتِكَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ذنوبنا، وخَطَأنا وَعَمْدنا، اللَّهُمَّ إِنّا نَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أمورنا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شرور أنفسِنا.
اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا بفضلك ورحمتك.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين، أننا ننكر على كل من استعمل نعمتك في معصيتك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا: (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
ِ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي