عقوبات المعاصي

صالح بن فوزان الفوزان
عناصر الخطبة
  1. عقوبات العاصين من الامم السابقة .
  2. من آثار الذنوب والمعاصي .
  3. سبب كثرة المعاصي في هذا العصر .

اقتباس

ومن أعظم عقوبات المعاصي: أنها تطفئ نور القلب، وتقتل الغيرة فيه فتقوى فيه إرادة المعصية وتضعف فيه إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنعدم من قلبه بالكلية؛ فلو مات نصفه لما تاب إلى الله. وقد يأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان وقلبه ممتلئ بالمعصية مصر عليها. عازم على فعلها متى أمكنه. وينعدم من قلبه الفرقان بين الحق والباطل؛ فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.. وهذا من أعظم العقوبات ..

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين. حذر من الذنوب والمعاصي وبين أضرارها ومفاسدها ليتجنبها العباد. وأرشد إلى الطاعات وعمل الصالحات وبين فوائدها وثمراتها ليكثر منها الموفقون. ويتزود بها المؤمنون. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

أحمده على فضله وإحسانه. وأشكره على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير. حذر من المعاصي وحث على التزود من الطاعات وقال في خطبته: " أيها الناس قدموا لأنفسكم. تعلمُنَّ والله ليُصْعَقَنّ أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس بها راع. ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حجاب يحجبه دونه: ألم يأتك رسول فبلغك. وآتيتك مالاً وأفضلت عليك. فما قدمت لنفسك؟ فلينظُرَنَّ يميناً وشمالاً أن يتقي بوجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل. ومن لم يجد فبكلمة طيبة. فإنها تجزى الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف " صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله واعلموا أن المعاصي لها عقوبات عاجلة وآجلة، ولها آثار سيئة على العباد والبلاد؛ فكم أهلكت من أمة، وكم دمرت من بلاد؛ فما في الدنيا والآخرة من شرور وداء وبلاء إلا بسبب الذنوب والمعاصي؛ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار النعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب.

وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها. وبدل بالقرب بعداً وبالرحمة لعنة. وبالجمال قبحاً. وبالجنة ناراً تلظى. وبالإيمان كفراً. وحل عليه غضب الرب ومقته.

وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق الجبال؟

وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة.

 

وما الذي أرسل على ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟

وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم. ولإخوانهم أمثالها. (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جنهم؟ فالأجساد للغرق. والأرواح للحريق.

وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟

وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟

وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال؟ ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً.

وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات؛ مرة بالقتل والسبي وخراب الديار، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وأقسم الرب ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؟..

إنها الذنوب والمعاصي؛ فالذنوب -يا عباد الله- سبب كل شر وفتنة.

عباد الله: هذه عقوبات المعاصي العاجلة: غرق وحريق وريح عقيم. ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وصيحة واحدة تجعل العصاة كالهشيم، وخَسْفٌ مروّعٌ يجعل عالي الأرض سافلها، ومطر بالحجارة من السماء، وسحاب يمطر ناراً تلظى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

أفلا يعتبر اللاحقون بالماضين (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)

ألم تسمعوا أخبارهم؟!. ألم تسكنوا ديارهم؟!. ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟! (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ).

عباد الله: إن من آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد؛ في المياه. في الهواء. في الثمار. في المساكن. في الأبدان. قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛ فمن تأثير المعاصي في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل.

وأنتم تسمعون عما يحل بأرجاء العالم اليوم من الزلازل والفيضانات والأعاصير المدمرة التي تجتاح الألوف من السكان.

ومن آثار الذنوب في الثمار: ما يظهر فيها من الآفات التي تقضي عليها أو تنقص محاصيلها.

ومن آثار المعاصي في المياه: ما ترون من حبس الأمطار. وغور المياه وهلاك الحروث والأشجار. ومن آثار المعاصي في الأبدان ما ترون من حدوث الأمراض الفتاكة. والآفات القاتلة. والحوادث المروعة التي يهلك فيها الجماعات من الناس.

ومن آثار المعاصي في المجتمعات: ما يحدث فيها من الفوضى وتسليط الظلمة والانقسام إلى شيع وأحزاب يموج بعضها في بعض واختراع الأسلحة النارية والقنابل المدمرة الفتاكة. التي تدمر الواحدة منها مدينة بأكملها أو أكثر من ذلك. صدق الله حيث يقول: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

ومن أعظم عقوبات المعاصي: أنها تطفئ نور القلب، وتقتل الغيرة فيه فتقوى فيه إرادة المعصية وتضعف فيه إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنعدم من قلبه بالكلية؛ فلو مات نصفه لما تاب إلى الله. وقد يأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان وقلبه ممتلئ بالمعصية مصر عليها. عازم على فعلها متى أمكنه. وينعدم من قلبه الفرقان بين الحق والباطل؛ فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.. وهذا من أعظم العقوبات.

عباد الله: إن المعاصي في مجتمعاتنا المعاصرة قد تكاثرت وتنوعت بشكل يخيف. بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه قد حدث في مجتمعنا معاص لم تكن معروفة من قبل بسبب ما مكن الله لهذا الجيل من تسخير ما في الكون من أسرار، وتفجير ما في الأرض من خيرات، واختلاط العالم بعضه ببعض بسبب سهولة المواصلات. وأنه -يا عباد الله- يخشى علينا من العقوبة المهلكة- فعلينا أن نتنّبه لأنفسنا ونرجع إلى ربنا لنتدارك أمرنا.

لقد كثر في مجتمعنا تضييع الصلوات. وترك الجمع والجماعات. لقد كثر أكل الحرام من الربا والرشوة والغش في المعاملات. وأكل أموال الناس بالباطل بأنواع الحيل وشهادة الزور والأيمان الفاجرة في الخصومات. لقد ارتفعت أصوات المعازف والمزامير والمغنيات في البيوت والدكاكين والسيارات. لقد تبرجت النساء في الأسواق وزاحمت الرجال كاسيات عاريات. مائلات مميلات.

لقد ضاع كثير من شباب المسلمين ونشأوا على الأخلاق الرذيلة والعادات السيئة والجهل بأمور دينهم، وصار هم الكثير منهم تقليد الكفار في شعوره ولباسه وكلامه ومشيته. فحلقوا لحاهم وأرسلوا شواربهم ورؤوسهم وأطالوا أظافيرهم وأسبلوا لباسهم وتختموا بخواتيم الذهب. لقد ضيعوا أوقاتهم وصرفوا كل طاقاتهم فيما لا يفيد لا في الدين ولا في الدنيا. فأصبح الكثير منهم لا صلة له بالقرآن. لا صلة له بالمسجد. لا صلة له بأهل الخير. لا صلة له بوالديه. لا يعرف إلا النوادي الرياضية والمقاهي وقرناء السوء.

فيا عباد الله: انتبهوا لأولادكم فهم أمانة في أعناقكم ورعية تحت أيديكم. قد يقول البعض منكم: أنا لا أستطيع السيطرة على ابني؛ لأنه خرج عن طاعتي. فنقول له: إنك ضيعته صغيراً فلم تنشئه على الخير، ولم تجنبه قرناء السوء، ولم تراقبه في تصرفاته. فلما كبر تمرد عليك وعتا عن أمرك؛ ضيعته صغيراً فعصاك كبيراً؛ فانتبهوا يا عباد الله (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
 

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي