لو اقترفت في اليوم سيئة! فكم سيئة تقترف في اليوم الواحد؟ نفترض واحدة، يا من بلغت الخمسين والستين، كم عليك من الأوزار والآثام؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: اعلم ولنعلم جميعا: أن الجنة لن يدخلها إنسان وعليه سيئة واحدة، أو معصية واحدة، صغيرةً كانت أو كبيرة، إذا علمنا هذا، فأين...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار.
عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان، وجعل له جزاءً الجنان أو النيران، فالجنان للطائعين، والنيران خلقها للكافرين والعاصين.
عباد الله -يا أيها الشاب، يا من بلغت خمسا وعشرين سنة، عشر سنين من التكليف، والبلوغ: لو كل يوم في هذا العشر سنين، اقترفت سيئة واحدة، فأكثر من ثلاثة آلاف سيئة، في العشر سنوات.
يا من بلغت الخمسا وثلاثين؛ أو خمسا وأربعين، تتضاعف الأيام، وتتضاعف الحسنات، وتتضاعف السيئات.
يا عبد الله: لو اقترفت في اليوم سيئة! فكم سيئة تقترف في اليوم الواحد؟ نفترض واحدة، يا من بلغت الخمسين والستين، كم عليك من الأوزار والآثام؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: اعلم ولنعلم جميعا: أن الجنة لن يدخلها إنسان وعليه سيئة واحدة، أو معصية واحدة، صغيرةً كانت أو كبيرة، إذا علمنا هذا؛ فأين رحمة الله؟! أين عفو الله -سبحانه وتعالى-؟!
لذلك؛ جاء العلماء ونظروا في مثل هذه الأمور، التي تدخل الإنسان الجنة، وتعافيه من النار، فالإنسان فيها بين أمرين: إما مخلد فيها أبدا، لا يخرج منها أبد الآبدين، وهو الكافر المشرك، الذي مات على الشرك بالله، مات عليه ولم يتب منه، النار؛ بعض الناس يدخلها، بمعاص وذنوب ثم يخرج منها، مصيره ومآله إلى الجنة، وهذا الموحِّد، العاصي المذنب، المخطئ المسيء، المقصِّر في حق الله سبحانه وتعالى، لذلك قال الله -عز وجل- عن الذي يموت مشركا: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].
المشرك؛ لن يدخل الجنة أبدا، المشرك الكافر لن يخرج من النار أبدا.
عافنا الله وإياكم من الكفر والشرك، والشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق.
لذلك؛ عندما قرأ العلماء واستقرأوا في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن منهج السلف الصالح، رأوا أن هناك أمورا وأسبابا عشرة، العشرة هذه ماذا تفعل؟ ما اسمها؟
اسمها: الممحِّصات، اسمها: ماحيات الذنوب، اسمها: المكفرات للسيئات، سماها العلماء: الماحيات للذنوب والسيئات والخطايا، عشرة، احفظها -يا عبد الله-، اجعلها باقةً في صدرك، تعمل بها، وتعلِّمها غيرك من أهل وولد وعشيرة، عشرة حتى نحفظها؛ جعلناها لنتذاكرها فيما بيننا: ثلاثة أقسام: قسم في الدنيا، وقسم في القبر والبرزخ، وقسم في الآخرة.
أما التي في الدنيا؛ فخمسةُ أسباب، سارِع -يا عبد الله- في تحصيلها، اليوم قبل غد، والساعة قبل انتهاء صلاة الجمعة، تستطيع أن تفعلها.
فمنها؛ التوبة، و"التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ" [حسنه لغيره في صحيح الترغيب: 3145].
التوبة مصيرها الفلاح: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
الفلاح في الدنيا والآخرة، بالتوبة من الذنوب الماضية، التوبة ألا تقع في ذنوب مستقبلة، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
تب إلى الله -يا عبد الله-، ما دمت مؤمنا موحدا، مهما كنت قد اقترفت من الذنوب والخطايا، لا أريد أن أستطرد، فإنكم تعلمون قصة من قتل تسعة وتسعين نفسا، وأكملَها بالمائة، لكنه صادق في توبته، مات! أخذته ملائكة الرحمة: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النــور: 31].
التوبة؛ امرأة عاشت حياتها بالزنا، من بني إسرائيل، بغي من بغاياهم، في آخر عمرها، عملت خيرا مع كلب، سقته في حذاءها، من ماء لا يستطيع الكلب أن يصل إليه، سقته وتابت إلى الله فماتت، فغفر الله لها، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ تب -يا عبد الله- إلى الله قبل فوات الأوان، والتوبة؛ لا يتكبر إنسان ويقول: أنا لم أفعل معاصيَ وذنوبا حتى أتوب، فقد فعل ذلك من هو خير منك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان يتوب إلى الله عشرات المرات، في اليوم والليلة، صعبة هذه؟ والله ليست بصعبة، تمحو من الخطايا والذنوب.
ومن الأسباب أيضا: الاستغفار، قال نوح -عليه الصلاة والسلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10- 11].
هذا نتيجة الاستغفار، غفارا يغفر الذنوب، السماء المدرار، مطر كثير، وغيث فيه بركة: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ).
يا من تبحثون عن الأموال، بالطرق الحلال والحرام، يمددكم بأموال حلال، لكن أكثِروا من الاستغفار: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 12].
أموال وبنين، جنات وأنهار، ماذا تريد غير ذلك؟!
إن كنت فقيرا فاستغفر الله، إن ضاقت عليك الأمور؛ فاستغفر الله، إن أردت شيئا أو حلَّ مشكلة أو مسألة؛ فاستغفر الله، كان ابن تيمية -رحمة الله تعالى عليه- إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل العلمية، توجه إلى الاستغفار، بعد أن بحث في الأدلة وما شابه ذلك، ما وجد، فيلجأ إلى الله؛ لأن يهديه إلى الحل، إلى الجواب الصحيح، فيستغفر الله مائة مائتين، ألف مرة، فيأتيه الجواب.
التوبة والاستغفار؛ تستغفر الله من ذنب قد مضى، تقول: استغفر الله! يا رب امح عني الذنب، تقول هذا ومعنى كلامك أنك تقول يارب امح عني الذنوب والخطايا، فيُمحَى عنك إن شاء الله، على قدر إخلاصك، وعلى قدر ذكرك للاستغفار وأنت صادق.
السبب الثالث من المنجيات من النار: الحسنات، أعمال الخير، أعمال البر والمعروف، التي ترضي الله -عز وجل-، كل معروف صدقة، صلاة تطوع ركعتين أو أكثر، في الضحى، أو في منتصف الليل، قيام الليل، الوضوء، تبسمك في وجه أخيك صدقة، إماطة الأذى عن الطريق صدقة، قول: "لا إله إلا الله" وذِكْرُ الله صدقات: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
"وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" [الترمذي: 1910].
الحسنات أبوابها كثيرة، فأكثروا منها -يا عباد الله-.
السبب الرابع: ما يصيب المؤمن من مصائب دنيوية.
المصائب نوعان: دنيوية يؤجر المرء عليها إذا صبر، ويكفر عنه من سيئاته.
وأما المصائب الأخرى؛ فهي المصائب الدينية، مصيبتك في الدين، هل تكفر السيئات؟ هي سيئات، ترك الصلاة مصيبة، ترك الحج مع الاستطاعة والقدرة عليه مصيبة، فعل ما يغضب الله مصائب، لكنها دينية، نتكلم عن المصائب الدنيوية، المصيبة في النفس، في نفسك هم وحزن، شوكة تشاكها، ما تشعرون به الآن من حرِّ لكم عليه أجرٌ -يا عباد الله-، إذا صبرتم، وتكفيرٌ من السيئات، لكن إن لم تصبروا؛ فالذي لم يصبر، فيتسخَّط ويغضب ويتأفَّف، هذا عليه إثم، هو صحيح أن المصيبة رفعت عنه من السيئات، لكن يبقى الأجر، والإثم، فالأجر مقترن بالصبر على المصيبة، والإثم مقترن بالتسخط من المصيبة، فاصبر -يا عبد الله- على المصيبة في النفس، على المصيبة في الزوجة، في الأهل، في الأولاد، مصيبة المال، مصيبة المرض، بذهاب أو ما شابه ذلك، كلها مصائب دنيوية، ومكفرات للخطايا.
والسبب الخامس من التي تستطيع أن تفعلها -يا عبد الله-: أكثر من الرفقة الصالحة، أكثر من الصحبة الطيبة، وإياك ورفقة السوء، لماذا؟
لأن السبب الخامس، هو: دعاء المؤمنين لك بظاهر الغيب، في حال حياتك وبعد مماتك، إذا غبت عنهم ذكروك بخير، دعوا لك، اللهم اغفر لأخينا فلان، الله ارحم أخينا فلان، اللهم إن كان عنده دين أو مصيبة، أو ما شابه، ففرج عنه، يدعون لك.
أما رفقة السوء؛ فماذا يفعلون إذا غبت عنهم؟
يغتابونك، يأكلون لحمك، ويأكلون ظهرك.
فأكثر من رفقة الخير -يا عبد الله-.
التوبة والاستغفار والحسنات، والمصائب الدنيوية، ودعاء المؤمنين لك بظاهر الغيب، وأنت تفعل ذلك؛ تذكر إخوانا لك، تدعوا لهم، بظاهر الغيب، سواء موجودين، وغابوا عنك، يوما وليلة، أو غائبين في غياهب السجون، أدع لهم أن يفرج الله كربهم، ويفك أسرهم.
اللهم آمين.
كذلك؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ -الملك ما وظيفته الآن؟ يؤمن على دعائك- يقول: إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ".
عندما تقول: اللهم اغفر لأخي فلان، أنت أيضا تدعو لنفسك، لماذا؟
لأن الملَك يقول: آمين، ولك بمثل، أي بمثله، ولك بمثل، هكذا في رواية [مسلم، برقم: 4912]، في أكثر من رواية فيه، فالملك يؤمن لك، فكأن الدعوة تذهب إلى من دعوت له، ثم ترجع إليك، فكيف بمن يدعو على غيره، آمين؛ ولك مثله.
ونسأل الله السلامة.
أما الاثنتان اللتان في القبر؛ وبعد الموت، وبعد انقطاع الأعمال، وانتهاء الآجال، ماذا يبقى لك -يا عبد الله-؟ إلا أن تأخذ نتيجة ما قدمت، عذاب القبر، وما يحدث فيه من عذاب، إذا مات الإنسان وهو محمل بالذنوب، لم يستخدم الخمسة السابقة، قصر في تحصيلها فلن تنفعه في إزالة جميع الذنوب، عن هذا المؤمن، إذن يعذب في قبره، وقد ورد في الحديث الذي [رواه أحمد: 8698، وغيره]: "إِنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ".
والحديث الآخر في الصحيحين، مَرَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ -الوحي جاءه فأخبره، لأنه لا يعلم من الغيب إلا ما علَّمه الله- قال: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ"-الأمر الذي يعذبان من أجله، ليس أمرا كبيرا عليهما أن يتركاه، لكنهما فعلاه، ما هو؟- "أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" -يفسد بين الإخوة وبين الأصحاب، وبين زملاء العمل، وما شابه ذل- "وَأَمَّا الْآخَرُ، فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ" وفي رواية: "يَسْتَنْزِهُ" وفي رواية: "يَسْتَتِرُ" -من بوله".
يبول وهو قائم مثلا، وهذا منهي عنه، فيرجع الرشاش عليه، ما في استبراء من البول، أو يبول أمام الناس، لا يستتر وتعوَّد على ذلك، هذا بعض العذاب لبعض الأمة في قبورها، ثم سؤال الملكين، منكر ونكير، فعندما يسألانه وهذا فتنة له، لا يستطيع أن يقف أمام الملكين إلا من ثبته الله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27].
التثبيت من الله -عز وجل-، ولن يثبت إلا من ثبته الله، فلذلك ينال هذا الإنسان من هذه الفتنة تخفيفاً من العذاب، تخفيفاً من السيئات، من الخطايا، محواً لها.
السبب الثاني هناك في القبر بعد موتك، وأنت سبب فيه، لكنه أمرُ خير، ما يهدى للميت بعد موته، مِن دعاء المؤمنين، مِن صدقات مِن أهله وأقاربه، مِن حجٍّ عنه أو عمرة، من قضاء دين عن الميت، من صنع سبيل، كصنبور مياه في الخارج، يُسقى منها الإنسان والحيوان، كل هذه عن روح فلان مثلا، سواء كان أبا أو أما، أو والدا، أو والدة، أو ولدا، أو مولودا، أو أخا أو قريبا، كلُّه مقبول إن شاء الله -سبحانه وتعالى-، جاء أحد الصحابة أو إحدى الصحابيات -رضي الله عنهم أجمعين-، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ" [البخاري: 1299، ومسلم: 1672].
ماتت قبل أن توصي، قبل أن تتكلم، ماذا أفعل عنها؟
فأوصى السائل بالماء، أن يسقي الناسَ الماء، واليوم الناس بحاجة إلى الماء المحلَّى -المفلتر-؛ لأن مياهنا الآن كلَّها مالحة، تحتاج إلى صناعة، فالذي يتصدق على الناس بمثل هذا أمره عظيم، ينوي عنه عن أمواته، أمر عظيم ما يهدى للميت بعد موته.
وأما الثلاثة التي تكون يوم القيامة؛ فهذه أيضا بعد انتهاء الآجال، وانقطاع الأعمال، ثلاثة منها أهوال وشدائد يوم القيامة، يوم القيامة ما هو؟
يبدأ بالنفخ في الصور، والخروج من القبور، حفاة عراة: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [المعارج: 43- 44].
أبصارهم إلى السماء، تنظر ماذا يفعل بها، تنظر الأبصار إلى السماء إلى كتبها، هل تأخذه بأيمانها أم بشمائلها، تقترب الشمس من رؤوس العباد، قيد ميل، تبتعد عنهم فقط ميل، ويغرق الناس في العرق على حسب أعمالهم، وإيمانهم وحسناتهم، أهوال وشدائد يوم القيامة، يعرضون بعد ذلك على النار، أنا وأنتم، وكل من خلق الله من الجن والإنس: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71- 72].
هناك أمران؛ الكلُّ سيرد، لكن ليس الكلُّ سينجو، إذن نحن سنرِدُ، لكن من سينجو منا؟
اللهم نجنا من النار، ومن عذاب النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72].
الكافرين المشركين، يبقون في جهنم -والعياذ بالله-، جِثيَّا لا يخرجون منها، فالمرور على الصراط، حيث يتساقط الناس في النار، على حسب أعمالهم السيئة، ما حملت ظهورهم من أوزار في الحياة الدنيا، لم يخففْها ما سبق من الخمسةِ في الدنيا، فلا توبة ولا استغفار ولا حسنات ولا مصائب دنيوية، ولا مؤمنين يدعون له، وليس له رفقة يدعون له بالخير، ولم يمحها عذاب القبر وما كفى ذلك، إذا بقيت عليه جميع السيئات، ماذا يفعل به بعد ذلك؛ يحبس المؤمنون بعد مجاوزة الصراط، على قنطرة، جسر بين الجنة والنار، قبل دخول الجنة، بقيت عليهم بقايا ومظالم فيما بينهم، لا يدخلون الجنة، ولا تفتح لهم أبوابها، ولكنهم نجوا من النار، يحبسون على قنطرة، كما ورد في صحيح البخاري: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ -يعني مروا من فوق جهنم وانتهوا- حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ -ماذا يفعل بهم؟- فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا -هناك توجد حقوق بين بعضهم، أخٌ مع أخيه، أبٌ مع ابنه، ابنة مع أبيها، أو مع أخيها الذي أكل ميراثها، مثلا، وكلهم مؤمنون، انتهت جميع السيئات عنهم، بقيت هذه الحقوق- حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا -تصافَوا فيما بينهم، تصالحوا تسامحوا- أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ" [البخاري: 2260].
قلت لكم في أول الخطبة: لن يدخل الجنة أحدٌ عليه ذنبٌ صغير أو كبير، إلا أن يمرَّ قبل ذلك على مسألة التنظيف، والتطهير والتطهر، من أوزار الآثام والسيئات، أُذن لهم بدخول الجنة.
والثالثة يوم القيامة؛ عندما يدخل أهل الجنة الجنة، والذين تساقطوا في النار، تساقطوا بكثرة خطاياهم وذنوبهم، يأذن الله عز وجل بالشفاعة، الشفاعة في مفهومنا نحن الواسطة، إنسان يتوسط عند إنسان، فإن كان فيها خير؛ يؤجر هذا الإنسان، وإن كان فيها شرٌّ يؤثم هذا الإنسان، شفاعة حسنة، وشفاعة سيئة، قال سبحانه: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) [النساء: 85].
لذلك يوم القيامة؛ يأذن بالشفاعة، فيقوم الناس، أهل الجنة يشفعون، فالمؤمن له شفاعة، والشهيد له سبعون من أهل النار، من قومه، يشفع فيهم فيدخلهم الجنة، من الموحدين، ليس من المشركين [انظر: الصحيحة: 3213].
ويبدأ الناس بإخراج من شاءوا، بإذن ورضا من الله -عز وجل-، ثم بعد ذلك؛ تشفع الملائكة، الملائكة كيف تشفع؟
تشفع لك؛ لأنها سمعت منك ذكرك لله كثيرا، وكتبت في صحفها، صلاتك على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكرك لله -عز وجل-، إصلاحك بين الناس، حب الخير للآخرين، تسجل عليك فتعرفك باسمك مباشرة، فتقول: يا رب فلان، وفلان، وفلان، وتخرج أمثال هؤلاء، وهم استحقوا، وعليهم أوزار وخطايا تمحى عنهم، بشفاعة الشافعين، الأنبياء؛ لكل نبي شفاعة، إلا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فله ثماني شفاعات، لا تتسع الخطبة لذكرها، يشفع فيمن شاء: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5].
الله سيعطيه، ومنها الشفاعة العظمى، وهي التعجيل بتسريع القضاء بين الناس، يوم القيامة، تعجيل لفصل القضاء: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79].
وبهذا يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جماعات من أمته -عليه الصلاة والسلام-، حتى يرضى عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك؛ تبقى بقية، نذكرها في الخطبة التالية، فتوبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: بعد أن انتهت الأسباب العشرة، التي قد يكون للإنسان دخل فيها، وفي تحصيلها، وفي الحصول عليها هذه العشرة، ونجد أن بعض هذه الأمة في جهنم، وماتوا على التوحيد، لكن كثرة الخطايا، أثقلتهم، فلم تخرجهم الممحصات وماحيات الذنوب العشرة، يبقون في جهنم؟ لا والله! ما دام في قلوبهم "لا إله إلا الله"، ما دام ماتوا على كلمة "لا إله إلا الله"، لكنهم؛ هل يعذبون أم لا؟ يعذبون على سيئاتهم، من كثرتها، ما خرجوا مع الخارجين، ما نجوا مع الناجين، لكن لن يبقوا في جهنم، وانظر إلى تجلِّي الله -عز وجل-، على هؤلاء العباد، الذين فعلهم للخير نادر، ماتوا على كلمة التوحيد وخيرٍ قليل، ماذا يقول الله في الحديث القدسي الصحيح، يقول: "شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" -من لهؤلاء؟ لهم الله- "وَبَقِيَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"، فيخرج سبحانه كما في رواية [مسلم: 269]. وغيره، ثلاث حفنات، أو ثلاث حثيات، مفرد حفنة، أو حثية، أو نسميها: "حثوة".
وفي اللغة، هي مجتمع الكفين، من الدقيق أو الشعير أو القمح، لا أريد أن أشبه، لكن هذا بيد الله -عز وجل-، يخرج أناسا من جهنم، يخرجهم وقد امتحشوا، يعني أصبحوا فحما، يجاء بهم ضبائر ضبائر، حزم حزم، اليوم الحمد لله هذا وقت الحصاد، فكلما حصد شيئا ربطه بخيط، انظر إلى التشبيه؛ ضبائر ضبائر، حزم حزم، يؤتى بهم، وأهل الجنة ينتظرون إخوانهم الذين سيخرجون الآن، ويدخلون الجنة معهم، فالله -سبحانه- يضرب بين أهل الجنة وأهل النار، نهرا يقال له: "نهر الحياة" أشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، يؤتى بهذه الضبائر والحزم، بشر لكنه فحم، لا حياة فيه، فيلقون في نهر الحياة، فتبدأ الحياة تدب بهم، الحديث في صحيح مسلم وغيره، يقول صلى الله عليه وسلم: "فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ" -وليس الحَبة، الحَبة كبيرة، كالقمح والشعير، هذه الحِبة التي تشبه بذور الملوخية، أو الرجلة، أو البقلة، صغيرة جدا، كيف تنبت في حميل السيل؟ بعد أن جفَّ السيل؟! فما ظهر للشمس قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأخيضر وأصيفر، فالنبات إذا ظهر إلى الشمس، تبدأ مادة خاصة وهي مادة حياة النبات، الخضراء، والذي لم يظهر يكون لونه أصفرَ، يقول أحد الصحابة: يا رسول الله؛ كأنك كنت في البادية ترى السيول والنباتات؟ قال: نعم! كنت أرعى الغنم لأهل مكة، صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، فإذا خرجوا وتكاملت أجسامهم، ونفخت فيهم الأرواح، ودخلوا الجنة، رحَّب بهم أهل الجنة، لكن ترحيبا مشوبا بعدم رضا، كيف؟ ماذا أطلق أهل الجنة على هؤلاء؟ جماعة أو حزب أو سمِّ ما شئت، قالوا: هؤلاء الجهنميون؛ لأنهم خرجوا من جهنم، فقالوا: جهنميون، اسم حسن أم قبيح؟ اسم قبيح، فغيَّر الله -سبحانه وتعالى- هذا الاسم، وكأنها بطاقة على صدورهم، يقرأها أهل الجنة، عتقاء الله من النار، أيهما ألذُّ وأجمل؟ عتقاء الله من النار، ونحن في نهاية رمضان، نقول: اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان، اللهم أعتق رقابنا من النار، هذه حالهم يوم القيامة، فلا يبقى في جهنم موحد، وإن بقي سنينَ وأياما ولياليَ وما شابه ذلك، على قدر ذنوبه وخطاياه، التوبة والاستغفار والحسنات، نعيدها حتى نحفظها يا عباد الله، والمصائب الدنيوية، والرفقة الصالحة، والمؤمنون يدعون لك بظاهر الغيب، فتنة القبر وعذابه، وما يهدى للميت بعد موته، من دعوة صالحة أو فعل خير، أهوال وشدائد يوم القيامة، والقنطرة بين الجنة والنار، وشفاعة الشافعين، ثم عفو أرحم الراحمين.
اللهم اعف عنا بمنك وكرمك، يا أكرم الأكرمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وحد صفوفنا، وألف بين قلوبنا، وأزل الغل والحقد والحسد من صدورنا، وانصرنا على عدوك وعدونا يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، يارب العالمين، اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم أيدنا ولا تخذلنا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأنت -أيها المؤذن- أقم الصلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي