المؤمن مثل النحل.. لا يقع على الجيف النتنة.. ليس كالذباب يحوم حول النجاسات والقاذورات.. فالمؤمن إن رأى عيبًا أصلحه أو خللا سدًّه.. إن رأى تقصيرا أكمله وجمله.. لا يبحث عن أخطاء الآخرين.. ولا يجعلها هدفًا لعمله، فالنحل ينشد الفائدة فقط، ولا يضيع وقته في السفاسف.. والمؤمن لا يتحسس أخطاء الناس.. إن رأى تلك الأخطاء لا يجعلها مادة حياته.. وغاية اهتمامه.. بل يمر عليها ولا يقف.. كالنحل !
الحمد لله..
أما بعد فيا أيها الناس: إن المؤمن بالله له شأن عظيم عند الله عز وجل، ولهذا أثنى عليه في القرآن في أكثر من موضع، كما تكاثر مدحه في السنة الصحيحة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إنه مثله بأطيب المخلوقات، تلك التي لا ضرر منها إنما هي خير محض، ولعلنا في هذه الخطبة بإذن الله نمر على تلك الأمثال مستخرجين منها أوجه الشبه ليتمسك به المؤمن ليسعد في الدارين.
معاشر المؤمنين: إن من الأحاديث التي وردت مشبهة للمؤمن بأطيب النبات ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثَل المسلم، فحدثوني ما هي"، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله. قال: فقال: هي النخلة. قال: فذكرت ذلك لعمر، قال: لأن تكون قلت هي النخلة أحب إليَّ من كذا وكذا".
قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "قال العلماء: وشبَّه النخلة بالمسلم في كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام، فإنه مِن حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد أن ييبس يُتَّخَذ منه منافع كثيرة، ومن خشبها وورقها وأغصانها، فيستعمل جذوعًا وحطبًا وعصيًا وحُصرًا وحبالاً وأواني وغير ذلك، ثم آخر شيء منها نواها، ويُنتفَع به علفًا للإبل، ثم جمال نباتها، وحسن هيئة ثمرها، فهي منافع كلها، وخير وجمال، كما أن المؤمن خير كله، من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه، ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره، والصدقة والصلة، وسائر الطاعات، وغير ذلك". اهـ كلام النووي -رحمه الله-.
إن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة هي كما ذكر أهل العلم، ويكفي فيها أنها أفضل الشجر، فالمؤمن أفضل الخلق، وكما قيل:
كن كالنخلة في نفعها حتى لمن أساء إليها *** فمن رماها بالحجر رمته بالثمر
ومما ورد في السنة أيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة؛ ريحُها طيِّب وطعمُها طيِّب".
ورَدَ في "مختار الصحاح": "الأُتْرُجَّة والأُتْرُج بضمِّ الهمزة والراء، وتشديد الجيم فيهما، وحكى أبو زيد تُرُنْجَة وتُرُنْجٌ" اهـ.
والمقصود بها الترنج المعروف. والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر في شَرْحه على صحيح البخاري:
"قيلَ: الحكمة في تخصيص الأُتْرُجَّة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمعُ طيب الطعم والريح كالتفاحة؛ لأنه يُتداوَى بقِشْرها وهو مُفْرِح بالخاصِّيَّة، ويُستخرَج من حَبِّها دُهنٌ له منافع، وغلاف حَبِّه أبيض، فيناسِب قلب المؤمن، وفيها أيضًا من المزايا كِبر جِرْمها، وحُسن مَنظرها، وتفريح لونها، ولِين مَلْمَسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيبُ نَكْهة، ودباغ مَعِدة، وجودة هَضْمٍ، ولها منافعُ أخرى مذكورة في المفردات". اهـ كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
ولعل من أظهر أوجه الشبه بين المؤمن والأترجة الرائحة والطعم، فهي طيبة الرائحة وحلوة المذاق، وكذلك المؤمن لا بد أن يكون طيب الرائحة، فقد حُبِّب للنبي -صلى الله عليه وسلم- الطيب، ونهى عن رد الطيب إذا أُهدي إليك، وكان -صلى الله عليه وسلم- أكره شيء عليه أن توجد منه رائحة كريهة، بل نهى المصلى أن يقرب المسجد إذا كان به رائحة ثوم أو بصل، وقد يعبر بالرائحة عن السمعة الطيبة والذكر الحسن وكذلك ينبغي أن يكون المؤمن
وأما المذاق الحلو في الأترجة فيقابله في المؤمن طيب الكلام، والنفع المتعدي للغير، فالمؤمن كالغيث أينما وقع نفع، فالواجب على المسلم أن يسعى جاهدًا في نفع الناس، وقضاء حوائجهم، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.
وقال ابن القيم: "وحقيق بشيء هذه منافعه أن يُشبَّه به خلاصة الوجود وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن، وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح".
وقيل في قوله: "طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيبٌ" خصَّ صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالرائحة؛ لأنّ الطّعم أثبت وأدوم من الرائحة
اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
أما بعد فيا أيها الناس: فهنيئًا للمؤمن، فلا يُضرب له المثل في القرآن والسنة إلا بأطيب الأمثال، وقد ذكرنا في الخطبة الأولى تشبيه المؤمن بأطيب النباتات والثمار، ولنعرج الآن على تشبيه المؤمن ببعض الحيوانات النافعة والتي تحمل صفات كصفات المؤمن فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِد" (صححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني).
في هذا الحديث شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بالنحلة، والمقصود الصفات الطيبة في النحلة، وإلا فالمؤمن أعظم نفعًا منها.
ولهذا عدَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الصفات، فقال: "تأكل الطيب، وتضع الطيب، وإذا وقعت على عود لم تكسره، ولم تفسد".
ومجموع هذه الصفات تعتبر علامة فارقة في النحل دون غيره من الحشرات، فليس ثم من الحشرات ما ينفع نِتاجه مثل النحل.. وليس من الحشرات ما ينتقي ما يقع عليه مثل النحل.. ورعي النحل للزهور وأعواد الورود وبساتين البراعم رعي حنون، فهي لا تهجم هجوم الجراد، ولا تعيث عيث الزنابير، كما أن رعيها للزهور تلقيح لها لتثمر، وتهييج للمياسم لتنتج، إلى غيرها من الصفات الطيبة.
وكذلك المؤمن..
إذا أنجز عملاً كان طيبًا.. ينتفع به الخلق..
وإذا علّم علمًا كان طيبًا.. ينفع الناس ويمكث في الأرض.
وإذا أنتج شيئًا كان إنتاجه من أطيب الطيبات.
المؤمن مثل النحل.. لا يقع على الجيف النتنة.. ليس كالذباب يحوم حول النجاسات والقاذورات.. فالمؤمن إن رأى عيبًا أصلحه أو خللا سدًّه.. إن رأى تقصيرا أكمله وجمله..
لا يبحث عن أخطاء الآخرين.. ولا يجعلها هدفًا لعمله، فالنحل ينشد الفائدة فقط، ولا يضيع وقته في السفاسف..
والمؤمن لا يتحسس أخطاء الناس.. إن رأى تلك الأخطاء لا يجعلها مادة حياته.. وغاية اهتمامه.. بل يمر عليها ولا يقف.. كالنحل !
ومن الأمثلة المضروبة للمؤمن ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث العرباض بن سارية قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ"، قال السندي -رحمه الله- في شرحه على السنن قوله: (فإنما المؤمن) أي: "شأن المؤمن ترك التكبر والتزام التواضع فيكون الجمل الأنف الذي جعل في أنفه الزمام، فيجره من يشاء من صغير وكبير إلى حيث شاء حيثما قِيدَ يعني سيق". اهـ.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الأتقياء الأخفياء الأنقياء
اللهم....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي