والناس تعرف المرء صالحاً أو طالحاً من خلال النوعية التي شاكلها، والصحبة التي سايرها، ولقد جسد ذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يُخالِل"...
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: الصحبة والصداقة عاطفة سامية القدر، ونعمة غزيرة المآثر، وإن من مظاهر امتحان الأخلاق، واختبار الأدب، ما يعانيه الإنسان في حياته من اختيار أصحاب له وأخلاء؛ يقرُب من هذا، ويبعد من ذاك، ويتوافق مع أقوام، ولا يتلاءم مع آخرين.
إن المرء يدرك أن صاحبه هو رقعة ثوبه فينظر بم يرقع ثوبه، ويرتضي لنفسه ما يوافق شخصيته، وما يحب أن يزنه الناس به، ذلك أن ميزان الإنسان أصدقاؤه، فقل لي: مَن صاحبك؟ أقل لك: من أنت.
والناس تعرف المرء صالحاً أو طالحاً من خلال النوعية التي شاكلها، والصحبة التي سايرها، ولقد جسد ذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يُخالِل" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
فالإنسان موسوم بسيماء مَن قارَب، ومنسوب إليه أفعال من صاحب، وهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ما من شيء أدل على شيء، ولا الدخان على النار، من الصاحب على الصاحب".
وقال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسـأل وسـل عـن قرينه *** فـكـل قـريـن بــالمقـارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحـب خيارهم *** ولا تصـحـب الأردى فتردى مع الردي
ولما للصاحب من أثر بالغ على صاحبه نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صحبة غير المؤمنين، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" أخرجه أبو داود والترمذي بسند لا بأس به.
أيها المسلمون: كم ضل من ضل بسبب قرين فاسد، أو مجموعة من القرناء الأشرار، وكم أنقذ الله بقرناء الخير من كان على شفا جرف هار فأنقذه الله بهم من النار.
وإن من الخيبة -والله!- أن ترى المرء لا تنبسط أساريره إلا مع قرناء السوء، ويصطفي لنفسه من مجموع هذه الخلائق أراذل الناس، إن همَّ بخير ثبطوه، وإن أبطأ عن سوء عجلوه، وإن استحيا من منكر شجعوه، وهونوه، فهم دعاة له على طريق جهنم.
إن استمر معهم أردوه في أبأس عاقبة، وأتعس مصير، وكانت عاقبته الندامة والعض الشديد على اليدين ندماً على صحبتهم، وإن أشاح عنهم بوجهه وبدنه، وعقله وفكره، وبحث عن الصحبة التي تدعوه إلى الجنة، عصمه الله بإذنه.
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:27-29].
معاشر المسلمين: ذكر أهل العلم والأدب جملة من النعوت والأوصاف يعرف بها الأصحاب في حسن مناقبهم، والخلان في مستحسن مذاهبهم، يجمل بالمرء أن يعرفها.
ونحن نذكر في هذا المقام ثلاث خصال تحوي فروع الفضائل، ولا يمكن التنازل عنها في الصديق:
الخصلة الأولى: عقل موفور، يهدي إلى مراشد الأمور، فالأحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة، وعداوة العاقل أقل ضرراً من صحبة الأحمق.
الخصلة الثانية: دين يقف بصاحبه على الخيرات، ويحجزه عن المنكرات، وقليل الديانة عدو لنفسه قبل غيره، فكيف ترجى منه مودة غيره؟ والصديق الفاسق شؤم على صاحبه؛ لأنه لن يتركه وشأنه، بل سيجره معه إلى فسقه ومجونه، ليذهب عن نفسه وحشة الانفراد بالمعصية، أو ليهدم حاجز النفرة بينه وبين صديقه بسبب معصيته.
الخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق، مرضي الفعال، مؤثراً للخير، آمراً به، كارها للشر ناهياً عنه، ولا يكفي التدين دون الخلق الحسن؛ لأن المرء قد يطبع على خلال لا تستقيم معها الصحبة.
معاشر المسلمين: وإذا كانت القلوب تموت بمصاحبة الأشرار، أو تصاب بالعلل الكبرى، فإن في مصاحبة الأخيار دواءً للقلوب وحياة لها، وقد يقنع المرء بصحبة الصالحين، ولكنه يجد في نفسه تثاقلاً أو حياءً أو حواجز نفسيةً تمنعه من صحبتهم، فلا بد أن يجاهد نفسه في البداية، فإنها ستنقاد له في النهاية.
ولا بد أن تعلم -أخا الإسلام- أن العتبة الأولى في مصاحبة الصالحين هي أن تكون صالحاً مثلهم، فإذا أصلحت حالك زالت عنك وحشة الذنوب، وانقشع عنك ذل المعصية، وأتتك الجرأة على صحبتك، فاستعن بالله -تعالى- وبادر قبل الندم.
وأنتم -معشر الأخيار- إذا جاءكم المرء مقبلا على الخير فإياكم أن تكفهروا في وجهه، ولو رأيتم عليه بقايا المعاصي، فحق من وضع رجله في الطريق الصحيح أن يقابل بالود والترحاب، وحق من استغاث بأهل الخير أن يغيثوه، وإن من الخطأ أن ينغلق أهل الخير على أنفسهم، أو تكون الريبة هي الأصل في تعاملهم.
فيا أخا الإسلام، نصيحتي لك أن تفر من المجذوم في هذه الحياة فرارك من الأسد، ولا تسلم فكرك للآخرين ليقودوك حيث شاؤوا، ويوقعوك في مصائب الدنيا مما يظل خزيه يلاحقك ما حييت، والفضيحة على رؤوس الأشهاد أنكى وأخزى.
وهذا كتاب الله يقص عليك حواراً معبراً عن أثر القرين، إلا من حمى الله ووقى، يقول -تعالى-: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:51-57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف رسله.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإنسان اجتماعي بطبعه، والتعارف بين الناس وما يترتب عليه من مصالح عظيمة في تعاونهم وتزاوجهم وتآلفهم أمر قائم مشهود، والصديق والصاحب لا يكاد ينفك عنه تاريخ الإنسان، وهو مصدر من مصادر تربيته ومعرفته، وأنسه وسروره، ومواساته ومعاونته، وهو ذو أثر كبير في حياة المرء النفسية والاجتماعية والثقافية.
ومن الأمثلة التاريخية المتميزة المبينة لأثر الصحبة ووظائفها صحبة أبي بكر الصديق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والارتباط النفسي والمصيري الذي اقتضته هذه الصحبة الفريدة، نظراً لارتباطها بأهداف عالية رفيعة، وكيف كان أثرها على أبي بكر -رضي الله عنه-.
والرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان، وخصوصاً في مرحلة الشباب والمراهقة، ويصعب منع الشاب عن الرفقة أو فرض العزلة عليه، وهو أمر يصطدم مع طبع الإنسان وجبلته، ويحرمه من حاجة نفسية مهمة؛ ولذا كان السجن الانفرادي عقابا قاسيا لأنه يعزل الإنسان عن حاجة من حاجاته المهمة ويحرمه من الاجتماع بالناس، والاختلاط بهم، وبث همومه وأحزانه وأشجانه إليهم.
والشاب المراهق يستوحش كثيراً من العزلة، ويحس بحاجة داخلية ملحة للالتقاء بأصحابه وأبناء مرحلته، ويشعر أنهم يمدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبار أو الأطفال، وفي الوقت ذاته لا يجد راحة في علاقته بوالديه أو أساتذته ونحوهم، ويشعر أنهم لا يفهمون شخصيته، خاصة إذا بدا منهم احتقار له أو سخرية منه.
وهذا يؤكد على أمر مهم جداً، وهو أنك إذا علمت حاجته للصحبة، وعلمت أن صحبة الوالدين لا تغني عن صحبة أترابه وأسنانه، وعلمت أنه سيصاحب، شئت أم أبيت، فعليك أن تعرف أهمية الصحبة الصالحة.
وأنت -أيها الشاب- لا بد أن تنتبه لشأن حالتك النفسية، فلا يكون توجيهك عفوياً لها، بل لا بد أن تلبي حاجتك في صحبة صالحة، ذلك أن لصحبتك أثراً تراكمياً متدرجاً على شخصيتك، وقل أن نجد شابا كان له خلة ومحبة ومرافقة لصحبة إلا ويكون على نهجها وطريقها، متحداً معها في أفكاره ومسالكه وأخلاقه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذا يؤكد دور الآباء في انتقاء الصحبة الصالحة لأبنائهم، وعدم تجاهل هذه الحاجة النفسية الملحة، حتى يفاجأ بأن ابنه يسير مع صحبة سيئة.
نسأل الله أن يعصمنا جميعاً وذرياتنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها ومات بطن.
اللهم صل على محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي