إنّ الظلْمَ ظُلُماتٌ على أصحابه في الدنيا والآخرة، وهو بؤس وشقاء وعناء، وما من مصيبة ولا عقوبة تقع في الدنيا على مستوى الفرد أو الأمة إلا وسببها الظلم والعدوان.
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل خلقه، وأقرب الناس إلى ربه، قوله حكمة، وفعله رحمة، صلى الله وسلم عليه ما ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم عليه ما غفل عن ذكره الغافلون.
صلى عليك الله في عليائـه *** ما قام عبدٌ في الصـلاة وكبرا
صلى عليك الله في عليائـه *** ما لاح نجم في السماء وأنورا
صلى عليك الله في عليائـه *** ما عاقب الليل النهـار وأدبرا
وعلى آله وأصحابه، ومن سار على منهاجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ففيها السعادة والنجاح والفلاح والتوفيق؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً) [الطلاق:2].
إن الحياة لا تهنأ، والعيش لا يرغد، والنفوس لا تسكن، إلا بتطبيق كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بعيداً عن الشهوات والشبهات، والفتن والمغريات؛ لهذا أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لا شك أن الظلم عاقبته وخيمة، ونهايته أليمة، والمجتمعات في هذا الزمن تعج بأنواع الظلم، وهذا ليس مقتصراً على عامة الناس، بل قد يصل الأمر إلى الأقرباء والإخوان والأشقاء الذين هم من أبٍ واحد وأم واحدة، ومن أراد الاستزادة فعليه بزيارة أروقة المحاكم.
والظلم ليس مقتصراً على قطعة أرض أو مبلغ عالٍ من المال، بل إن الظلم الشرك والكبائر والصغائر والذنوب، وما نراه في هذه الأزمنة من غفلة العباد، وقحط البلاد، والكوارث والحروب، والأمراض التي لم تكن في أسلافنا، ما هو إلا آثار الظلم، يقول الله -تعالى-: (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ) [غافر:31]، ويقول -تعالى- في موضع آخر: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق:1].
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"، فكان أبو إدريس الخولاني كلما حدّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
ولما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن قال: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب"، وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال : قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن اقتطع حق أمريء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة"، فقال رجلٌ: وإن كان يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك" رواه مسلم.
وكان رجلٌ يُدعى كركرة يقوم بخدمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم مات، قيل مات في الجهاد، وقيل غيره، فقال له الصحابة: هنيئاً له الجنة! فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هو في النار"، فقالوا، متعجبين: ولما يا رسول الله؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! إن الشملة التي غلّها لتشتعل عليه ناراً في قبره"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن استعملناه منا على عمل فأخذ خيطاً إلا كان غلولاً يأتي به يوم القيامة".
فماذا عسانا أن نقول لمن سرق مئات الآلاف من الريالات، أو أخذ آلاف الأمتار من حق المسلمين؟! والله المستعان!.
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "صلاح القلب في العدل، وفساده في الظلم"، ويقول أحد السلف: "والله! إني لأعرف إذا عصيت الله أعرف ذلك في زوجتي وفي دابتي وفي فئران بيتي".
والظلم محرم بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والعقل، والظلم أنواع ثلاثة، يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث رواه أنس: "الظلم ثلاثة: فظلمٌ لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله"، فالظلم الذي لا يغفره الله هو الشرك، والظلم الذي يغفره الله فهو ظلم الناس فيما بينهم وبين الله -تعالى-، والظلم الذي لا يتركه الله فهو ظلم العباد بعضهم لبعض.
يقول ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على حديث أنس: فأعظمها الأول، ولا يُمحى إلا بالتوحيد، فإن مات على الشرك فهو مخلد في نار جهنم، ثم الثاني، ولا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالها منهم، ثم الثالث، وهو أخفها وأسرعها محواً، فإنه ينحى بالتوبة والاستغفار، والصلوات، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان...
ومن صور الظلم الذي لا يتركه الله، وهو النوع الثالث: ظلم الوالدين للأولاد [ومنها جلب قنوات الشر والمجون لهم في البيوت]، وظلم الأولاد للوالدين [وحدّث ولا حرج عن قصص العقوق]، وظلم الأزواج لأزواجهم، وظلم أصحاب العمل للعمالة التي معهم، وظلم الحيوانات [امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض].
يقول الدكتور عبد المحسن الأحمد إنه وقف على حالة مريض لديهم في المستشفى بالرياض فقال: كانت حالة المريض صعبة جداً، فكان كل لحظة يفقد عضواً من أعضاء جسده، حتى تدهورت حالته وأصبحت حالته ميئوساً منها، فاقتربت منه، فهمس لي وقال: أرغب منك أن تتصل بفلان، وهذا جواله.
يقول الدكتور: فتم الاتصال بهذا الرجل، وقلنا له لدينا مريض في المستشفى وحالته خطيرة جدا ويرغب في حضورك إليه. فقال: ومن هو؟ فأخبرته باسم المريض، فقال: والله لن أحضر! ووالله لن آخذ حقي إلا أمام ربي يوم القصاص!.
يقول الدكتور: فمكث هذا المريض فترة ثم مات، فأجريت الاتصال بذلكم الرجل المظلوم وسألت عن السبب، فقال: لقد شهد هذا المريض شهادة زور في أرض لي بغير حق، فدعوت الله عليه وقلت: اللهم لا تمته حتى يفقد أعضاءه عضواً عضواً. يقول الدكتور: فاستجاب الله لهذا المظلوم.
وفي بعض الروايات أن "دعوة المظلوم ترتفع إلى السماء كأنها شرارة".
ويقول الإمام الذهبي في كتاب الكبائر إن رجلاً ظالماً أخذ سمكة من رجل فقير قهراً وظلماً واستبداداً، فقال الرجل المظلوم بعد أن رفع يديه إلى السماء: اللهم إنه قد أراني قوته في ضعفي، فأرني قوتك فيه يا رب.
يقول: إن هذا الرجل الظالم لما أخذ السمكة من المسكين عضّته في إبهامه، فما وصل البيت إلا وقد تورمت، فلم ينم تلك الليلة، فذهب إلى الطبيب في الصباح، فقال الطبيب: إن فيها مرض الأكَلة -الغرغرينا- ولا بد من قطع الإبهام، فقطعه، ثم انتشر المرض فقطعوا الكف، ثم من المرفق، ثم من الكتف، فتذكر هذا الظالم الرجل المظلوم فذهب إليه يبحث عنه في المدينة حتى وجده، فلما رآه المظلوم ورأى حاله رق له ورحمه ودعا له، ولكن بعد أن أصابته دعوة المظلوم، فما زال هذا الرجل الظالم يقول للناس: مَن رآني فلا يظلمن أحداً!.
وهذه أسرة البرامكة التي عاثت في الأرض فساداً في عهد هارون الرشيد فظلموا الناس وعاشوا حياة البذخ والترف حتى قيل إن بعضهم كان يطلي بيته من الذهب والفضة، فسلّط الله عليهم هارون الرشيد فسجن من سجن وقتل من قتل ونفى من نفى، فكان ممن سجن خالد البرمكي، فزاره ولده في السجن فقال: ما فعل الله بك يا والدي؟ فقال خالد لولده: دعوة مظلوم سرت بليل، نمنا عنها والله عنها ليس بنائم.
لذلك؛ كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلِم أو أُظلم"، وكذلك من دعائه -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته: "اللهم إني أعوذ بك أن أزِل أو أُزَل، أو أضِل أو أضَل، أو أظلِم أو أظلَم، أو اجهل أو يُجهل عليّ".
الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة -رحمه الله- سُجن، وكان السبب في سجنه رجل يقال له أحمد بن أبي داود، كان يوشي به إلى الخليفة المعتصم، فرفع الإمام أحمد بن حنبل يديه وقال: "اللهم إنه ظلمني فاحبسه في جسمه، وعذّبه، وشرّده"، فوالله! ما مات هذا الرجل حتى أصابه الفالج في نصفه، فأصبح نصفه قد مات لو قرض بالمقاريض لا يشعر به، ويبس، وبقي نصفه حياً لو وقع عليه الذباب فكأن جبال الدنيا عليه، ثم أخذ يخور كما يخور الثور، ثم مات.
أسأل الله أن يقينا وإياكم الظلم، وأن يرزقنا وإياكم العدل، والعمل النافع، والعمل الصالح.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين!.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وأصحابه.
وبعد: أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إنّ الظلْمَ ظُلُماتٌ على أصحابه في الدنيا والآخرة، وهو بؤس وشقاء وعناء، وما من مصيبة ولا عقوبة تقع في الدنيا على مستوى الفرد أو الأمة إلا وسببها الظلم والعدوان.
وإليكم بعض آثار الظلم :
أولا: آثار الظلم في الدنيا: الناس يعيشون في خوف، ولا يأمنون على أنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم، (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
تقع العقوبة والعذاب والقحط والجدب والحروب والأمراض والفتن وتسلط الأعداء. شؤم الظلم على فاعله في نفسه وأهله وماله. انتشار البغضاء والأحقاد والشحناء بين الناس، وكذلك الخيانة والغدر. تصاب الأمة بالذلة والمهانة وتصبح مهينة لتسلط الأعداء عليها.
ثانياً: آثار الظلم في الآخرة: من مات على الشرك فجزاؤه الخلود الدائم في نار الجحيم. ضياع الحسنات ليتقاسمها الغرماء يوم القيامة، ومن الحسرة والغبن والخسارة أن يرى العبد حسناته في ميزان غيره ويرى سيئات الناس في ميزانه. إن الظالم لنفسه فيما بينه وبين الله لو لقي الله وهو مصر على معاصيه فإنه تحت المشيئة.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وارحمهم رحمة الأبرار.
هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي